مشهدان…والباقي عند عريقات!- عبداللطيف مهنا
إنه مفجع ولا يحتمل، أن تتلفَّت من حولك مكرهاً لتقارن بين مشهدين يتلازمان يسوءك أن لاترى ثالث لهما: واقع عربي مشين ولا من مجادل في كونه الأردأ والأشد انحداراً، وبالتالي الأخطر وجودياً في تاريخ الأمة…الأمة المنشغلة في راهنها بلعق غائر جراحها النازفة ومتعددها. والجراح التي يزيدها ويُعمِّقها ويُزْمنها أن لا انشغال لأغلب انظمتها إلا بأولوياتها السلطوية الصرفة وحساباتها القطرية الضيَّقة، وبالتالي ، فهى لاتبنى مواقفها وسياساتها إلا على اسس من مثل هذه الحسابات والأولويات، ومن ثم، والى جانب رائج التبعية، فليس على غير مثل هذا الذي تبنيه تضبط عقارب اصطفافاتها، أو هذه التى ليس من شأنها إلا ازادة منسوب غوائل التمزق وبلاء الشرذمة المستفحلين هذه الأيام الحبلى بما ينذر بتفتيت مالم يفتت بعد من عرى أمة بكاملها… وكله، يؤشرعلى ما بات شبه المُسلَّم به الآن، وهو تراجع قضية قضايا الأمة العربية، التي لطالما وصفت بالمركزية، في فلسطين، بل وازاحتها جانباً، وصولاً لشيوع توصيف ما كان يوصف سابقاً بالصراع العربي الصهيوني بالنزاع الفلسطيني “الإسرائيلي”!
والمشهد الآخر، أو الواقع المقابل، هو ما تجسِّده السياسات التهويدية المتسارعة في الوطن الفلسطيني المحتل، وما يوازيها ويستتبعها من مظاهر القمع الاحتلالي الشرس…هنا يطول الحديث، ونكتفي منه بالإشارة فحسب، إلى ما نشرفي الكيان الصهيوني حول ما دعوه بشهادات “كسر الصمت”، أو اعترافات جنود الاحتلال بنماذج من الفظائع الممنهجة التي ارتكبوها إبان حربهم الوحشية الأخيرة على غزة، والتعرُّض فقط لآخر قرارات التهويد الزاحف، وإلى واحدة من المظاهر القمعية التي مورست بحق المواطنين الفلسطينيين خلال الآونة الأخيرة لا أكثر. آخر قرارات التهويد هو الايعاز بالشروع في بناء 900 وحدة سكنية تهويدية جديدة في القدس، المدينة التي قارب انجاز تهويدها جغرافياً وتتواصل محاولاته ديموغرافياً، عبر تشريد ممنهج للمقدسيين، وتطبيع متدرج لمحاولات فرض اقتسام الحرم المقدسي تمهيداً لهدم اقصاه وقبة صخرته المشرَّفة وبناء الهيكل الثالث المزعوم مكانهما. ومن مستجدات عمليات القمع ما تجلَّى في جملة من تدريبات ومناورات عسكرية كبيرة ومكثَّفة في الأغوار الشمالية، تعمَّدت تخريب المزروعات الفلسطينية وطحنها بالدبابات، وتوقيته في موسم الحصاد بالذات لحرمان الفلاحين من ناتج عرقهم، والذي سبقه اخطار خمسين عائلة بمغادرة ممتلكاتها بحجة هذه التدريبات والمناورات، توطئةً لطردهم ومصادرة ارضهم. الى جانب مختلف الإجراءات الشبيهة المتبعة وبذرائع مختلفة، كحماية مستعمريهم، أو الحفاظ على البيئة الخ. ولم يقتصر مثل هذا على الأغوار فحسب بل جرى لاحقاً في قرى الخليل جنوباً وأدى كما هو معروف إلى ما ترتب عليه من مواجهات دارت بين القرويين والمحتلين.
يكتمل المشهد الثاني، ويزداد وجع الأول، عندما نرى أن الحال في غزة، حصاراً ودماراً وتجويعاً، لم يختلف عنه عشية توقف دوران آلة الحرب العدوانية الأخير عليها، وحين نلاحظ أنه يكاد أن يلف العذابات الغزِّية المستمرة متعمد النسيان، لولا بعضاً من نتف بائس احاديث المصالحات إياها التي تثار موسمياً عادةً ثم لاتلبث وأن تسحب من التداول وهكذا…آخر ما اثار حديثها الشجي هو زيارة كارتر التوسطية مؤخراً الى رام الله، والتي توقف ركبها هناك ولم يواصل مسيرته الميمونة كما كان معلنا الى غزة… وطبعاً إلى جانب حكاية ابريق زيت “حكومة توافق” الحمداللة… وصلت بأمان الله الى غزة لكنها لم تصل، أوهى ستصلها على أن لا تصل، وستدفع رواتب موظفيها ولكنها لن تدفع، وفي نيتها الشروع في اعادة الإعمار بيد أنها لن تشرع الخ!!!
يتحمل مسؤلية جزء غير قليل من مسؤلية، أو أقله استفحال، تداعيات المشهدين الأول والثاني مع تتمتهما المريعة في غزة، الواقع الفلسطيني الأوسلوي الموصل باندلاقة التسووي التصفوي للقضية والنضال الوطني الى ماهما فيه من حضيض راهن مفجع. فإذا كان الفلسطينيون، كما هو المفترض، هم مجرد طليعة اشتباك في خندق متقدم لإدامة صراع في معركة لا تحسمها إلا الأمة، فإن الجنوح الأسلوي المدمر قد اعطى المحتلين مبتغاهم من الوقت التهويدي المراد، واعطى عرب نفض اليد والتحلل من الإلتزامات التي يقتضيها منهم واجبهم القومي اتجاه قضية قضايا الأمة ذريعتهم الفاجرة التي ينتظرونها: لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين!!!
والآن، والحال هى الحال، تتسلى سلطة “اوسلوستان” بالحديث عن نيتها تدويل القضية وهى تدرك أنه على سوءته أمر لن يسمح لها بمثله راعي خيارها التسووي الأميركي، كما تهدد باللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية ولا تلجأ لها حفاظاً على شعرة معاوية مع نتنياهو، وتتسلى باستقبال المصلح كارتر، وقبله وبعده ما هب ودب من رسل الغرب ومروجي موهوم التسويات، انتظاراً لفرج “حل الدولتين”!
…في اريحا، مثلاً، وبينما كانت دبابات نتنياهو على مقربة من مكتبه تطحن مزروعات الغوارنة وتهجِّر خمسين عائلة منهم، استقبل د. صائب عريقات، كبير مفاوضي السلطة، وعضو اللجنة التنفيذية للمنظمة، التي باتت بفضل اوسلو والعبث بميثاقها تبصم ولا تنفذ، فقط اربعة وفود دوليه، اهمها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، البلغاري المتصهين، نيكولاي ميدنوف… وليخرج علينا بلازمته المعتادة مؤكداً: إن نتنياهو قد “اغلق طريق السلام قبل وبعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية، بإصراره على رفض مبدأ حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران، واستمراره في النشاطات الاستيطانية، وتنكره للإفراج عن الدفعة الرابعة من اسرى ما قبل اوسلو، ورفضه تنفيذ الالتزامات التي ترتبت على الجانب الإسرائيلي والاتفاقات الموقَّعة”!!!