مشهد تصوّري لانتفاضة منتصرة- منير شفيق
صحيح أن ما من ثورة أو انتفاضة يمكن أن تُرسَم أحداثها وتطوراتها وتعرّجات مسارها، وصولا إلى لحظة، انتصارها، من قِبَل عقل إنساني مهما بلغت قدرته على التخيّل ومهما كانت معرفته بالثورات والانتفاضات المنتصرة أو المهزومة.
فكل ثورة وكل انتفاضة لها خصوصيتها وانفراديتها. وذلك بالرغم مما يمكن أن يكون هناك من مشتركات وأهمها ضرورة دخول القوّة المسيطِرة المُراد الإطاحة بها مرحلة المأزق والتدهور، والتخبط بارتكاب الأخطاء في إدارة صراع. وهذا هو الشرط الأهم في انتصار الثورات والانتفاضات.
ولكن مع ذلك لا يستطيع المرء إلاّ أن يحاول أن يرسم مشهدا تصوّريا (سيناريو) لانتفاضة، أو ثورة، منتصرة. وهي لم تزل في أولى إرهاصاتها.
إن أول ما يجب أن يتوفر لهذه المغامرة الفكرية – التقديرية لمسار لم يحدث بعد أو لم يسبق له مثيل من حيث الزمان والمكان والظروف وموازين القوى داخليا وإقليميا وعالميا، هو التأكد، في حالتنا الفلسطينية الراهنة، من أن شرط المأزق الشديد والتدهور والتخبط بالأخطاء متوفر في نتنياهو وحكومته وقيادة جيشه. ثم التأكد، في الحالة الصهيونية، من أن القوى الدولية المسانِدة لها هي الأخرى في حالة تدهور وتخبّط. مما ولّد بين الطرفين مستوى من التناقضات التي ستفرض التراجع المنشود. وهو هنا الانسحاب من الضفة الغربية والقدس وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط، ومن ثم إطلاق الأسرى للعودة إلى خطوط الهدنة لعام 1948/1949.
ما لم يكن مثل هذا التأكد متمكنا عند تقدير الموقف لدى القيادة التي ستقود الانتفاضة فإنها لن تستطيع أن تنتصر في الصراع الذي سيشبه في مرحلة من مراحله، عض الأصابع الذي يخسر فيه من يصرخ أولا.
المشكلة الأولى التي تواجه الانتفاضة الراهنة بدأت بالإصرار على أنها هبّة بمعنى أنها ستكون لبضعة أيام ثم تنتهي، بانتصار جزئي أو بلا انتصار، فيما الصحيح هو اعتبارها خطوة على طريق الانتفاضة الشاملة ومن ثم تسميتها انتفاضة على طريق الانتفاضة الشاملة، أو اعتبارها إرهاصات انتفاضية من أجل الإيحاء بأنها على طريق التحوّل إلى انتفاضة شاملة، ومن ثم على من يتناولها أن يعالجها باعتبارها انطلاقة لانتفاضة شاملة.
من يدقق في المواجهات التي خاضتها الانتفاضة حتى الآن سواء أكان على مستوى التظاهر واستخدام الحجارة وما شابه من وسائل بدائية أم كان على مستوى القتال بالسلاح الأبيض (الطعن بالسكين البسيطة المتواضعة) أم الدهس، يتأكد من أن ثمة روحا شجاعة وثّابة سارية في نفوس الشباب والشابات، ما بين سن 12 إلى 24 سنة مصممّة على المضيّ بالانتفاضة إلى المستويات الأعلى. وهذه الروحية على عكس ما يتصوّر البعض نابعة من شعور بضعف العدو وإمكان هزيمته، وليست نابعة من روح يأس. لأن اليأس لا يولّد مثل هذه الشجاعة والإقدام والانتشار، وإنما يقود إلى التراجع والقنوط وتجنب المواجهة حتى في ظل الإذلال.
الأمر الذي يفرض أن تُقاد الانتفاضة بروح متأكدة من إمكان النصر ومن إمكان إنزال الهزيمة بالعدو. فكل ما يحتاجه الأمر بضعة أشهر من انتفاضة شاملة ومصممة ولا مجال لوقفها إلاّ بتحقيق هدف انسحاب الاحتلال من الضفة والقدس وبلا قيد أو شرط. ولهذا يجب أن نتصوّر بروز قيادة ميدانية للانتفاضة تخوضها بهذه الروحية واليقينية.
ومن يدقق بالتحركات والتظاهرات في كل من قطاع غزة ومناطق الـ48 يستطيع أن يتصوّر وحدة فلسطينية واسعة لدعم الانتفاضة الشاملة والمشاركة فيها. وذلك بما يتعدّى تحقيق هدف إحباط التقسيم الزماني للصلاة في المسجد الأقصى إلى تحقيق دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وتحرير الضفة والقدس وكسر الحصار عن قطاع غزة وإطلاق كل الأسرى. فما دامت الانتفاضة قد انطلقت وسال دم الشهداء واحتدم الصراع فلا بدّ من حلّ جذري. وهذا الحل لا يكون إلاّ بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات أو بعبارة أخرى تحرير الضفة والقدس والمسجد الأقصى والأسرى وقطاع غزة (من الحصار).
عندئذ يصبح الانتقال من الارهاصات الانتفاضية إلى الانتفاضة الشاملة ممكنا، وقابلا للتحقق لأن إرادة الشعب ستكون الغالبة والحالة هذه. ويصبح العدو الصهيوني في أزمة حقيقية حين يجد كل القطاعات الفلسطينية في فلسطين متحدّة وقد فشل في أن يعزل انتفاضة القدس عن انتفاضة الضفة أو يعزل القدس والضفة عن غزة، أو يُبعد جماهير 48 عن الضفة والقدس وقطاع غزة.
هنا أيضا لا يصعب تصوّر هذا المشهد متحققا على الأرض.
لا شك في أن ردود فعل نتنياهو باستخدام المزيد من جرائم القتل والبطش والإجراءات التعسفية أمرٌ ممكن تصوّره بالرغم من شدّة الضغوط التي تُمارَس عليه ليتراجع عن إحداث تغيير في المسجد الأقصى فيسعى إلى التهدئة من أجل عدم إيصال الانتفاضة الراهنة إلى الانتفاضة الشاملة الأكثر وحدة واتسّاعا وتصميما وحزما لتحقيق هدف دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط.
إن نتنياهو وحكومته أضيق أفقا، وأكثر ميلا لاستخدام أقصى مستويات العنف. وهذا سيكون، في الحالة الفلسطينية الراهنة، من شروط الانتقال إلى الانتفاضة الشاملة، إذ ليس هنالك ما هو أشدّ خطرا على الانتفاضة من تراجع نتنياهو عن المساس بالمسجد الأقصى، وتقديم بعض التنازلات لتحريك المفاوضات من جديد.
ومع ذلك لنتأمّل مشهد مضيّ نتنياهو في طريق القتل والبطش ليقابله مشهد تصاعد الانتفاضة والمواجهة.
إذا ما أخذ المشهد هذا المسار التصعيدي فسيصحبه ارتفاع هائل لمستوى التعاطف العربي والإسلامي مع الانتفاضة كما سيؤدي إلى ارتفاع منسوب الرأي العام العالمي لا سيما في الغرب، فيضغط على الجاليات اليهودية في أوروبا وأمريكا كما على نتنياهو لوقف الانتفاضة ولو بالرضوخ لمطالبها، أو الانسحاب (فك الارتباط) من الضفة والقدس كما حدث مع قطاع غزة عام 2005.
إن الفارق الراهن بين أمس واليوم يتمثل في موقف الرأي العام في الغرب من السياسات الصهيونية، أو من القضية الفلسطينية. مما سيكون له دور أساسي في تأكيد إمكان انتصار الانتفاضة وصولا إلى تحرير الأراضي المحتلة في حزيران 1967، وبلا قيد أو شرط، وبلا قبول بحلّ الدولتين الذي يشكل القبول به كارثة على هدف تحرير كل فلسطين من النهر إلى البحر ومن الناقورة إلى رفح.
وبالمناسبة إذا ما تحرّرت تلك الأراضي بلا قيد أو شرط لن يبقى من معنى لبقاء الجولان محتلا، أو سيصبح تحريره قاب قوسين أو أدنى.
ولهذا نحن لسنا هنا أمام أهداف غير قابلة للتحقيق ولسنا إزاء تضحيات لا تستحق كل ما تقدّمه من دماء وجراح وسجون ودمار. ومن ثم نحن أمام واجب الانخراط في الانتفاضة ودفعها إلى الانتصار. وما على سلطة رام الله وأجهزتها الأمنية إلاّ التنحي جانبا في الأقل.