مطالبة شتاينتس … ومفاتيح عريقات ! – عبد اللطيف مهنا
توعَّد الصهاينة السلطة الأوسلوية بالويل والثبور وعظائم العقوبات جراء اقدامها على خطوتها المتأخرة والفاشلة في مجلس الأمن. وجن جنونهم عندما اعقبتها بأخرى متأخرة أيضاً وملتبسة باتجاه محكمة الجنايات الدولية. وعيدهم بلغ حد مطالبة يوفال شتاينتس، وزير الشؤون الاستراتيجية، بحل السلطة، وعدَّ افيغدور ليبرمان، وزير الخارجية، انضمامها للمحكمة يعني “انهيار اتفاقية اوسلو”. لقد تعالى صراخهم لدر جة بدى فيها نتنياهو حملاً وديعاً أوالأكثر اعتدالاً من بينهم…كل مافي جعبتهم ومستطاعهم العقابي لوَّحوا به وبطرق شتى، باستثناء أمر واحد هو تكثيف التهويد باعتباره روتيناً يومياً ومواصلته مفروغ منها و مسألة هى خارج النقاش، وآخر ما اعلن منه كان توسُّعاً مستجداً في مستعمرة ملاصقة لرام الله. بالمقابل، اشتكى كبير مفاوضي السلطة صائب عريقات لصحف صهيونية بأن حكومتكم قد “الغت صلاحياتنا الإقتصادية والقانونية”، وهدد بدوره بأنه، ووفقما قال أنه منطق “لامفر”، قد نتخذ “قراراً بدعوة نتنياهو الى تسلم المسؤولية الكاملة عن الإراضي المحتلة”…أو تسليمه “مفاتيح السلطة”، وفق التعبير الأوسلوي المتبع عادةً!
بالغ الصهاينة في حملتهم الشعواء، التي صوَّرت الفلسطينيين بالمعتدين ومحتليهم بالمعتدى عليهم، وفقط لإقدام الأوسلويين على هاتين الخطوتين المتواضعتين، رغم أن الأولى كانت الفاشلة، واللاحقة الناقصة والملتبسة، أو التي لم تزد، وفقما اتضح لاحقاً، على ابلاغهم محكمة لاهاي “تقبُّلهم لصلاحياتها ابتدأً من الثالث عشرمن يونيو من عام 2014 ” وإغفال ماقبله… سبب هذه المبالغة راجع لأمرين:
الأول، هو إن مجرد فكرة اللجوء الى محكمة الجنايات الدولية تقلقهم حتى النخاع ولا يتقبلون مجرد تصوُّرها، باعتبار كيانهم اصلاً ثكنة اجرام مستدام ومصدر عدوان دائم منذ أن كان، ثم ولكونه ذو طبيعة استعمارية احلالية فهو نقيض كلي بالضرورة لكل ماهو انساني. عبَّر عن هذا القلق نتنياهو عندما قال إننا “لن نسمح بجر جنود وضباط الجيش الإسرائيلي إلى لاهاي”… هنا جائتهم المعاضدة واتاهم المدد سريعاً من اولياء نعمتهم، عندما اعتبر الأميركان توجه الفلسطينيين الى محكمة الجنايات خطاً احمراً، وبرر الفرنسيون تصويتهم لصالح القرار الساقط بأنه ما كان إلا لمنعهم من هذا التوجه، وعاد هؤلاء المصوِّتين فحذروا السلطة من مغبة ما دعوه بالتصعيد، بمعنى أن مراد هذين الوليين الآن هو الضغط على هذه السلطة لمنع الفلسطينيين من الإفادة من عضويتها للمحكمة في حال اتمامها.
والثاني، إنهم مقبلون على انتخابات ومن ثم فبازار المزايدات لديهم معقود على اشده، وعليه يغرِّد شتاينيتس وامثاله انتخابياً من على يمين سربهم غير مكتفين بغلوِّه الفائض، وخير ما يصف لنا هذه اللوثة البازارية هو شاهد من أهله، إنها صحيفة “هآرتس”، التي قالت، مثلاً، أن تشدد نتنياهو ضد الفلسطينييين يأتي “لجني اصوات جديدة لحزبه، إذ ليس في اسرائيل خطوات اكثر شعبية من ظلم الفلسطينيين”…
لكن، وعلى مبالغتهم، فلعل صائب عريقات كان المطمئن الى أنه مهما ارعد الصهاينة وازبدوا فليس في واردهم الدفع باتجاه اسقاط السلطة، ولا هم الراغبون في حلها، لأنهم وحدهم حينها سيكونون الخاسرين، بمعنى أنه يدرك أنهم لن يقبلوا استلام مفاتيح اوسلوستانه منه، إذ لن يذهب بهم جنونهم حد التضحية باحتلال مريح، أو منزوع الأعباء، أو كما يصفه بعضهم باحتلال السبعة نجوم، بفضل ما يوفره لهم وجود مثل هذه السلطة. وتكفي الإشارة هنا، مثلاً، إلى مصون التنسيق الأمني، الذي هو عندهم إيضا “مقدَّس” اكثر مما هو عند رئيس السلطة، أي يهمهم الحفاظ عليه، بما يعني الحفاظ على هكذا سلطة حوَّلتها تنازلاتها الى مجرد اداة أمنية في خدمة أمن المحتلين، أو هذا ما يتصورونه لها من دور وهذا ما تقوم به موضوعياً. أي ليس بالصدفة أن كافة التصريحات اللاحقة، ومن كلا الجانبين، وسواء منها الصهيونية الهائجة أم الأوسلوية المهددة، قد حاذرت فلم تمس هذا المقدَّس.
لم يخرج الصهاينة من جعبتهم العقابية الملئى سوى تجميد عوائد اموال الضرائب العائدة للسلطة، وهو امر ليس بالهيِّن بالنسبة لمن اقتصادها مبني على الرواتب، التي إن هى انقطعت قد ينهار وتنهار بدورها معه، لكنما هذا ما لا يريدونه لها ويخشونه، وبالتالي فإن لم يتم تعويض ما قطعوه عنها فقد تتم العودة عن قطعه. حتى روفين ريفلين، رئيس الكيان، وأحد رموز اليمين الأيدولوجي فيه، انتقد هذا التجميد، معتبراً له خطوةً “تضر بإسرائيل”، لأنه “بواسطة هذه الأموال تعمل السلطة الفلسطينية. ولإسرائيل مصلحة في بقاء السلطة تؤدي عملها”. أي ان ما اقدموا عليه هو لايعدو ضرباً من ضغط وشيء من تدجين للسلطة ليس إلا. كما لايفوتهم اجمالاً ما كانت قد ذكَّرتهم به “هآرتس”، عندما وصَّفت توجُّه السلطة نحو الأمم المتحدة ب”خطوة يائسة يمكن تفهُّمها بعدما عملت اسرائيل على انهيار المفاوضات”، فلم تبقِ لهم سوى خيارين، “القيام باعمال عنف أو التوجه للمجتمع الدولي، واختار محمود عباس الخيار الثاني”…
…هذا الخيار الثاني، معطوفاً على الخط الأحمر الأميركي، والاستجابة للتحذيرات الفرنسية، والانتظار لما هو بعد الانتخابات الصهيونية، هو ما كان وراء طلب العضوية الناقص والملتبس لمحكمة الجنايات الدولية، وحديث عريقات عن مشروع آخر لقرار مستجد و”معدَّل”، سوف يقدَّم لمجلس الأمن، لكن فقط “في حال وافقت عليه لجنة مبادرة السلام العربية”…وكله مع ما يترتب عليه حكماً من طي لشعار ما يدعى “انهاء الانقسام”، ودفن لحكاية ما تسمى “الوحدة الوطنية”، ونسياناً لمسألة فك الحصار عن غزة، وتناسياً لأهزوجة إعادة اعمارها!