معرض الفنان مارون طنب وابنه فؤاد – نقولا طعمة
“مشوار من فلسطين إلى لبنان”: توثيق للمنطقة قبل النكبة وبعدها
معرض الفنان مارون طنب وابنه فؤاد، يقدّم بالإضافة إلى طابعه الشخصي العائلي قيمة توثيقية، كما يُضيء على تجربة هذا الفنان الذي يبقي مغموراً بالمقارنة مع أقرانه.
“مشوار دروب فنان من فلسطين إلى لبنان: حوار بين جيلين.. مارون وفؤاد طنب”، عنوان طويل لمعرض فني زاخر، استضافته “دار النمر” في بيروت، وضمّ مروحة واسعة من الأعمال الفنية التي غصّت بها القاعات الخمس للدار، من بحر الإنتاج الفني لمارون طنب، بالإضافة إلى العديد من أعمال نجله فؤاد.
وإذ يُختزل العنوان المعرض إلى فكرة حوار، غير أنه توثيق لحياة الشرق العربي بين مرحلتين: المرحلة الأولى قبل احتلال فلسطين وتقسيمها، وقبل أن تذرّ تقسيمات “سايكس بيكو” قرنها في مجتمع واحد، قسّمته بوحشية وحاولت إلغاء هويته، يأتي مارون طنب ليستعيد هذه الهوية عبر لوحاته الانطباعية الكثيرة المُتجمِّعة من مقتنيات العائلة، و”مؤسسة فؤاد وميّ طنب للفنون”، وغاليريهات العاصمة بيروت، وبيوت الأصدقاء. أما المرحلة الثانية فهي ما بعد تقسيم فلسطين، ويُعبَّر عنها بأعمال مارون ما بعد النكبة، حتى رحيله في العام 1981، من جهة، وبأعمال نجله فؤاد الذي تدرّب في بداياته على يد والده، من جهة ثانية.
والغريب في الأمر أن يكون اسم مارون طنب مغموراً بين أقرانه الذين مارسوا الفن عينه، بدايةً مع مؤسس المدرسة الانطباعية داود القرم، وانتشرت على يد عددٍ من الفنانين المشهورين أمثال خليل الصليبي، ومصطفى فروخ، وقيصر الجميّل، وعمر أنسي… لكنّ مارون طنب يغيب من بينهم، إلا لمن يعرفه معرفة شخصيّة.
يطعن غياب مارون طنب في حقيقة المأساة الشرقية، وتقسيمات الشرق وتقسيم فلسطين، فمارون يجسّد روح المنطقة وتاريخها الوحدوي، يوم كان اللبناني – مثل مارون – يولد في حيفا، ويكبر وينمو فيها، من دون أن ينقطع عن جذوره؛ يوم كانت الحدود غائبة، والتواصل بين أجزاء المنطقة الواحدة ما يزال مستمراً، ويتجسّد ذلك في انطباعياته الفنية التي لا تتمايز فيها المشاهد الفلسطينية عن المشاهد اللبنانية، وكأنه وثّق بلوحاته روح الشرق على أعتاب دخوله مرحلَتَي المأساة الشرقية والنكبة الفلسطينية، اللتان ما زلنا نعيش تداعياتهما دماراً وهجرةً وتراجعاً.
وغياب مارون عن التصنيفات الفنيّة يعود في حيّز هام منه إلى التقسيمات عينها، وإلى تقسيمات النفوذ: فلسطين بريطانية، ولبنان فرنسي. في هذا المنحى، نجد الفنانين الانطباعيين اللبنانيين منتمين إلى المدرسة الفنية الفرنسية. بينما في فلسطين، درس مارون الرسم في معهد إيطالي، ثم تدرب على يد أستاذين، أحدهما ألماني والآخر نمساوي، وظلّ يعمل في فلسطين حتى ليل النكبة التي اجتاحت المنطقة، كما اجتاحت المعرض الفني الفردي الأول لمارون طنب، قبل مغادرته فلسطين قادماً إلى لبنان.
في مرحلة نهوض فن المدرسة الانطباعية اللبنانية، بين أواخر القرن الـ19 وثلاثينات القرن الـ20، كان مارون ما يزال يقيم في حيفا، وشارك في معرض فني لأول مرة سنة 1933، على أعتاب أفول مرحلة المدرسة الانطباعية اللبنانية قبل الحرب العالمية الثانية، ونشأة دولة لبنان الكبير 1943، وانخراط لبنان في ما أسّسه الفرنسيون من معاهد إرسالية كرّست “الفَرْنَجَة”، ولم ينل منها مارون أي حصّة. لذلك، بقي اسمه مغموراً بين معلّمي الفن الانطباعي للمرحلة التي عاصر مارون جزءاً منها.
من الإشكاليات التي يثيرها المعرض، انتماء العائلة إلى الفنون الموسيقية والغنائية، وقد اشتهر العديد من أبنائها وبناتها في المشهد الفني اللبناني، إن على مستوى إفرادي كآمال وفاديا طنب، أو ضمن أعمال فنية كبيرة مع الرحابنة بمشاركة ابنتهم الأصغر رونزا.
لكن مع تقدّم الزمن، نشأ في العائلة من تلمّس غيابها عن الفن التشكيلي رغم الغنى الذي عاينوه مع الجد مارون، فساء الأحفاد ذلك الغياب، وارتأوا إحياء ذكرى الجدّ بمعرض استعادي لأعماله، عملت عليه الحفيدة المُختصّة في شؤون الفنون، ورئيسة “مؤسسة فؤاد ومي طنب الثقافية الفنية”، جويل طنب، وقد استغرق التحضير له سنوات عديدة قبل نضوج ظروفه، لتقدّم “دار النمر” الفنان مارون طنب كواحد من المجلِّين في النمط الفني الانطباعي الرائج في عصره.
للمعرض طابع شخصي – عائلي، وكذلك طابع توثيقي لذلك العصر، على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتعليمية، وسواها.
على المستوى الشخصي، تتمثّل أول العناصر في مشاركة الابن فؤاد لوالده في لوحاته، وثانيها تضمين المعرض لوحات عن العائلة، حيث يفتتح المعرض عند يُمنةَ مدخله بلوحتين لسيدة ورجل من الطابع القديم، يُرَجَّح أنهما والدا الفنان الراحل مارون، بالإضافة إلى لوحات بورتريه لأبنائه، وأخرى مشهديّات مختلفة لهم في الداخل.
لوحات مارون انطباعية بصورة عامة، بسيطة، مرحة، تناولت الشؤون الحياتية العامة، والجانب الذي تناول فيه مارون الشأن العام، يوضح من خلاله كيف بدأت الحياة العصرية الوافدة مع الاستعمار الأوروبي تتغلغل في المجتمع، حيث نجد أجيال الكافيتريات والمطاعم والسينما، وسواها من مظاهر وتجليّات تحديث ذلك العصر.
ومع فؤاد الأكثر حداثة، من دون افتراق عن الانطباعية، مع بعض التجريد، فإنّ جلّ اللوحات التي رسمها كانت باستخدام ألوان زيتية فرحة، تستلهم بعض روح الوالد، ولا تلتزم به التزاماً كاملاً.
كما يبرز في أول أجنحة المعرض، صفٌّ من اللوحات الصغيرة الحجم، من النقش الحمضي، درجت التقنية على معالجتها بالأسيد والطلاء، ومما جسده مارون فيها مشاهد من حيفا وسورها ومساجدها وحركة مجتمعها.
ويركّز المعرض على رسالة لمارون، أرسلها إلى صديقه جاك الذي التقاه وتعايش معه في صفوف الرسم، وفيها تعبير عن تطورات الأحداث التي أدّت إلى تقسيم فلسطين، وقد قدّمت ابنة جاك الرسالة بخط مارون إلى العائلة لعرضها.
وفي الصالة عينها، عرض فيديو موثق لجويل طنب تستعرض فيه حيثيات إقامة المعرض وأهميته.
وفي زاوية من المعرض، واجهة معروضات لمقتنيات مارون الشخصية، كجواز مرور، ومقتطفات صحفية، وبطاقات دعوة لمعارضه، ورسم تخطيطي له، ومتنوعات أخرى.
لوحات كثيرة لا تحصى، لمشاهد لبنانية، وأشخاص ومواقع هامة لا يمكن حصرها، وهي استمرار لتوثيق المراحل التي مرّ الفنان بها.
بدايات مارون الفنية الأكاديمية كانت من خلال انتسابه إلى المعهد الإيطالي للفنون التطبيقية في حيفا، وتعرّفه على ملهمه الألماني هيرمان شتروك، ثم انضمامه إلى النمساوي باول هونيخ إثر رحيل شتروك في العام 1944. وفي مسيرته، طوّر مارون تقنيات الزيت والحبر الصيني وفنون التصوير، وبرع في الرسم المائي.
ولدى مجيئه إلى لبنان، انضم إلى شركة نفط العراق (IPC) في مدينة طرابلس، والتحق بـ”جمعية النحاتين والرسامين اللبنانيين”، وأقام 10 معارض فردية في صالات بيروتية، كـ”بيت الفنان”، “دار الفن والأدب”، “بخعازي”، و”دامو”.
وفؤاد، شريك المعرض، شكّل مع والده فريقاً واحداً منذ سنة 1969، بعد أن أسّس مارون مكتباً للتصميم الغرافيكي في بيروت، وحرصا في عملهما على تخليد جمال الطبيعة وأصالة الهوية. وبينما لا تزال تصاوير الحياة الصامتة بريشة مارون تنفح الجمود بالحركة، سعى فؤاد لأنسنة المشاهد عبر لعبة الأضواء والظلال، ويجمع الفنانَين بانورامات حميمة للعلاقة مع الطبيعة.
حاز فؤاد طنب على دبلوم في الرسم والتصوير من جامعة “كيبيك” في كندا، وطلّق ميدان الأعمال ليحترف الرسم، ويؤسّس مع زوجته ميّ “مؤسسة فؤاد وميّ طنب للفنون”، التي خرّجت 3 آلاف طالب في ربع قرن، أقام أثناءها 20 معرضاً فردياً في لبنان والخارج، وهو يعتبر فنَّه تأويلاً جديداً بتجريد لوني لتراث والده.
نقولا طعمة محرر في الميادين
نقلاً عن الميادين