مفهوم الاعتدال في الوعي العربي – عبد الستار قاسم
أجرت قناة تلفازية عربية عراقية معي مقابلة حول مقال كتبه فلسطيني حول القيادة الفلسطينية التي وصفها بالمعتدلة. وهو صحفي معروف بانحيازه للجدليات الأمريكية والصهيونية، وسبق أن حصل على جائزة من الأمريكيين على نشاطاته الإعلامية. ظن أصحاب القناة أن في ذلك مديحا للقيادة الفلسطينية وترويجا لقدراتها الديبلوماسية الفذة. وعلى الطرف الآخر كانت مذيعة ساذجة إلى حد كبير، لا ثقافة لديها بما يتعلق بالمصطلحات والمفاهيم ومغازيها السياسية والاجتماعية والديبلوماسية. وما أصعب محاولة إفهام مذيعة وتثقيفها في برنامج تلفزيوني محدود الوقت. لكن حاولت على أية حال.
حاولت أن أفهمها أن تعبير معتدل ترجمة عن الإنكليزية ويعني moderate، وأهل الغرب الاستعماري يستعملون هذا التعبير عندما يريدون امتداح قائد لدولة ما في هذا العالم. إنهم يعنون أن هذا الشخص يتمشى مع سياساتهم وطروحاتهم، وإن عارضهم فإنه يعارضهم برقة وحنية ومن خلال الكواليس والمنظمات الدولية. المعتدل بالنسبة لهم هو الذي يقبل بمعاييرهم وبرؤاهم في معالجة قضايا العالم. أما من لا يقبل فهو متطرف وإرهابي ويجب شن الحملات الإعلامية ضده، ومعالجة مواقفه بالعقوبات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، وربما شن حرب شاملة ضده.
نحن العرب لنا تجارب كثيرة في هذا المجال. فمثلا كان جمال عبد الناصر بالنسبة لهم متطرفا ولاقى كل أنواع المؤامرات التي كانت تهدف إلى التخلص منه. وكذلك كان عبد الكريم قاسم قائد العراق في فترة خمسينات وستينات القرن الماضي. وأحمد بن بيلا كان متطرفا، وحسن نصر الله إرهابي، وكذلك مختلف القيادات الفلسطينية التي تبنت المقاومة لتحصيل الحقوق الفلسطينية. حتى إيران طالها هذا التعبير، فكان مصدق الذي أطاح الشاه في بداية خمسينات القرن الماضي متطرفا، واستمرت المؤامرات الأمريكية ضده حتى مولت انقلابا ضده وانتهى أمره. والآن القيادة الإيرانية متطرفة وإرهابية.
سبق لجمال عبد الناصر أن قال إننا نسير في الطريق الخطأ إذا امتدحنا الأمريكيون، ونكون على صواب عندما يهاجموننا. هذه مقولة ما زالت صحيحة، وما زلنا نلمسها بقوة على أرض الواقع.
حاولت أن أفهم مقدمة البرنامج أن تعبير معتدل في الوعي العربي الناجم عن تجارب متكررة يعني الخيانة والتنازل والاستسلام لإرادة أمريكا والكيان الصهيوني. وقلت لها إن المعتدلين في الوطن العربي بالنسبة للصهاينة والأمريكان هم الذين يتعاملون مع الصهاينة ويسهلون لأمريكا نهب الثروات والأموال، والذين لا يصرون على النهضة العربية وبناء مجتمع عربي وحدوي يتبنى مراكمة القوة والاعتماد على الذات. المعتدلون هم قادة السعودية والإمارات والمغرب والبحرين وقطر ومصر ومنظمة التحرير. هؤلاء هم جميعا يعملون على إخضاع الأمة والتنازل عن حقوقها وكرامتها وعزتها من النواحي الوطنية والقومية والدينية.
المعتدل هو من يصر على استرداد الحقوق والمحافظة على الذات والسير في طريق التقدم والعطاء والبناء، والمتطرف هو الذي يخرج عن تطلعات الأمة وتوجهاتها. فمثلا، اتفاق أوسلو صاغه متطرفون اعتدوا على الحقوق الفلسطينية. إنهم زاغوا عن الحقوق، ومن زاغ عن الحقوق وقبل الظلم أصبح متطرفا خارجا عن الصف. والسعودية مثلا متطرفة لأنها توظف أموالها لخدمة اقتصادات الغير الذين يعتدون على العرب والمسلمين. وعلى ذلك قس.
نحن العرب لسنا بلطجية أو زعران، ونرفض أن نكون كذلك. ربما قادة العرب يصنفون ضمن هذه الخانة، لكن الشعوب طاهرة في كل مرة تتوفر لها قيادة حريصة على مستقبلها. ونحن في الإسلام أمة وسطا. لكن وسطيتنا وحبنا للآخرين واحترامنا لهم لا يعني أبدا التفريط بما لنا وبحقوقنا. نحن دائما على استعداد للتسامح، لكن يجب ألا نكون ملطّة (هدف الاعتداء والاستعباد) للآخرين. نحن ضد الاعتداء على الشعوب، ونقف دائما مع الشعوب المظلومة والمضطهدة، وكان ذلك واضحا في ردود فعل المثقفين العرب والكتاب والمفكرين حيال التمييز العنصري الذي يضرب أطنابه في الولايات المتحدة. ومشكلتنا في النهاية هي القادة الذين أثبت التاريخ تبعيتهم وجهلهم وتآمرهم على الأمة. والأمة في النهاية مسؤولة عن إطاحة هؤلاء والتخلص منهم، وتأييد قيادات متنورة ذات علم ومعرفة وانتماء والتزام.
والمجمل أنا لم أر أن مقدمة البرنامج كانت معنية بالأمر. وجدتها معنية فقط بتقديم البرنامج ومن ثم العودة إلى البيت.