مناظرة الرئاسة الأمريكية الأنتخابية من منظور سيكولوجيا الأتصال – د.عامر صالح
حسب آرون كال الاستاذ في جامعة ميشيغان والمتخصص في المناظرات الرئاسية، فإن “هذه المناظرة ” بايدن ـ ترامب ” ستبقى إحدى أسوأ المناظرات في التاريخ”، مضيفا لوكالة فرانس برس، أن بايدن تعهد بقبول نتائج الانتخابات، بينما اكتفى ترامب بالتاكيد مرة جديدة وبدون تقديم أدلة على أن التصويت بالمراسلة الذي يبدو أنه سيستخدم بكثرة بسبب وباء كوفيد-19 سيشجع على “التزوير”.
تعتبر المناظرة شكل من أشكال الخطاب العام، عبارة عن مواجهة بلاغية بين متحدثين اثنين أو أكثر حول قضية معينة ضمن وقت محدد. وحسب التعاريف الواردة في القاموس بشكل عام، فإن المناظرة نقاش رسمي يدور حول قضية معينة ويتم في جلسة عامة تُقدَّم فيها حجج مُتَعارضة أو مُتصادمة، وغالباً ما تنتهي بتصويت من الجمهور أولجنة تحكيم حيث يُفْضي هذا التصويت إلى ترجيح كفَّة حجج أحد الطرفين.
مما سبق نستخلص أن المناظرة مسابقة رسمية تحكمها ضوابط معينة تقام في إطار محدد ويديرها حكم أو رئيس هيئة تحكيم. وقد تشمل المناظرة متحدثين أفراداً أو فِرقاً تضم عدة متحدثين، كما تخضع المناظرات لأصول وقواعد معينة حيث تعرض قضية المناظرة على الفريقين المتناظرين ويمنح كلا الفريقين وقتًا محددًّا لتقديم حججهم وإثباتاتهم. وعليه، فالمناظرات تجري في جوٍّ مُنظَّمٍ يقَدم فيها متحدِّثو كلا الفريقين حججهم والدفاع عنها.
وينظر الأمريكيون إلى المناظرات باعتبارها فرصة لإحاطة الناخبين بمزيد من المعلومات والمؤشرات حول أسلوب المرشح في التفكير وطريقته المتوقعة لإدارة شؤون البلاد. ويشير باحثون إلى أن المناظرات الأمريكية تختلف عن مثيلاتها في الدول الأخرى، نظراً لارتباط النظام السياسي في الولايات المتحدة بالمرشح الفردي أكثر منه ببرنامج الحزب المنتمي له. وفي العادة تشمل المناظرات المرشحَين اللذين يمثلان الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حيث يتناوبان على الحديث خلال جلسة أسئلة وأجوبة مدتها 90 دقيقة تحت إدارة إعلاميين.
وغالباً ما تخلّد الزلاتُ والتصرفات الغريبة والأجوبةُ الساخرة، مناظرات الرؤساء الأمريكيين، على غرار مناظرة عام 1984، التي اشتهرت بجواب رونالد ريغن عندما كان يوصف حينها بأكبر رؤساء أمريكا سناً (73 عاماً)، رداً على سؤال يلمّح إلى عدم قدرته على تولي مأمورية رئاسية جديدة، حيث أجاب بأسلوب هزلي قلب الأمور لصالحه: “لن أجعل من مسألة السن أحد مواضيع هذه الحملة. لن أستغل، لأسباب سياسية، صغر سن خصمي وقلة تجربته”.
وقد تابع نحو 73.1 مليون شخص أول مناظرة بين مرشحي الرئاسة الأميركية الرئيس دونالد ترمب والمرشح الديمقراطي جو بايدن، والتي اجريت يوم الثلاثاء بتاريخ 29 ـ 09 ـ 2020 مساء, وذلك حسبما أعلنت شركة «نيلسن» في وقت لاحق، وهو رقم ضخم، لكنه يقل عن الرقم القياسي المسجل عام 2016. وكانت الفئة العمرية الأكثر متابعة للمناظرة هي للأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 55 عاماً، حيث سجلوا نسبة 42.2 في المائة من التقديرات، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية.
فالمناظرة التي اتسمت بالفوضى العارمة والاضطراب المتكرر لم تكن كسابقاتها من المناظرات الرئاسية التي اعتاد عليها الأميركيون قد تكن هي الأسوء في تاريخ امريكا”، فقد حبس هؤلاء أنفاسهم وهم يشاهدون المرشحّين يقاطعان بعضهما البعض ويتراشقان الاتهامات النارية والإهانات، فيما جلس المحاور كريس والاس على مقعد المتفرج عاجزاً عن السيطرة على النقاش.
وبالفعل فقد عانى المرشحان الديمقراطي والجمهوري من صعوبة فائقة في عرض أفكارهما في الملفات المختلفة التي تؤرق مضجع الأميركيين، فأخفقا في طمأنة الناخب الذي عادة ما ينتظر المناظرات الرئاسية لسماع وجهة نظر المرشحين في ملفات حاسمة في السباق الرئاسي. وعوضاً عن طرح الأفكار، تراشق بايدن وترمب الإهانات والشتائم وهما يقفان بعيداً عن بعضهما البعض على منصة المناظرة، حيث فرضت سياسة التباعد الاجتماعي، لكن هذا التباعد لم يمنع ترمب من نعت بايدن بالغبي، ولم يحول دون طلب بايدن من ترمب بأن «يخرس» أكثر من مرة ويصفه بالمهرج. فالرئيس الأميركي استفز منافسه عبر مقاطعته المستمرة لأجوبته، حتى أن المحاور كريس والاس اضطر لتذكير ترمب أكثر من مرة بقواعد النقاش، لكن من دون جدوى.
وقد أدت الأجواء المشحونة التي خيمت على المناظرة إلى دعوات لإلغاء المناظرتين القادمتين في الخامس عشر والثاني والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) لكن حملة بايدن الانتخابية رفضت هذه الدعوات وقالت المتحدثة باسم الحملة كايت بيدينغفيلد: “نحن سنذهب إلى المناظرات فقد التزمنا بحضورها كلها”, ولكن اصابة الرئيس ترامب بفيروس كورنا بعد المناظرة الأولى قد يلقي بظلاله على بعض توقيتات المناظرات القادمة, وقد تفرز بعض الأنحيازات العاطفية وردود الأفعال الأيجابية لصالح الرئيس ترامب, الأمر الذي قاد بعض الأوساط للتشكيك بصدقية اصابته بفيروس كورونا, وانما هي لعبة انتخابية دعائية في زمن الجائحة. وكان يفترض ان تتم مناقشة القضايا المتوقعة والمفصلية في أطار المسؤولية العظمى والحرص على التوصل الى اجابات تقنع الجمهور في المجالات التالية: سجلات ترامب وبايدن, المحكمة العليا, وازمة كورونا, الأقتصاد, العرق والعنف في المدن الأمريكية ونزاهة الأنتخابات.
ما جرى بين المتحاورين هو افساد واعاقة لعملية التواصل وقد جسدتها ابرز ملامح ذلك في:
الإجهاد والخروج عن السيطرة: يُمكن أن يحصل سوء فهم لما يقوله الأشخاص المتكلمون أو المرسلون للرسائل في حال كان الفرد المتلقي مُرهقاً، أو في حالة نفسية سيئة، كما قد يقوم الشخص المُرهق أو المُجهد بإرسال إشارات غير لفظية مُربكة، أو قد يصدر عنه سلوك غير صحيح، لذا على الأفراد تعلّم كيفية السيطرة على عواطفهم وتهدئة أنفسهم قبل إتمام المحادثة؛ لتجنُّب لسوء الفهم أو الصراعات أحياناً.
قلّة تركيز: يحدث قلّة التركيز نتيجة تعدُّد المهام التي يقوم بها الفرد بنفس الوقت، ممّا ينتج عنه عدم الانتباه إلى بعض الإشارات غير اللفظية أثناء المحادثات، لذا من المهم تجنّب الأمور التي تؤدي إلى التشتّت وقلّة الرتكيز من أجل تحقيق التواصل بشكل فعّال.
لغة جسد غير المتناسقة: يجب أن يتوافق التواصل غير اللفظي مع الكلام المنطوق، ولا يناقضه، فإذا لاحظ المُستمِع أنّ كلام الفرد الذي يُقابله يدل على شيء وتدل لغة جسده على شيء آخر، فإنّ ذلك قد ُيشعِره بأنّ المتكلم غير صادق بما يقوله، ومثال ذلك لا يجب على المتكلم الإجابة بكلمة نعم وفي نفس الوقت يهز رأسه بطريقة النفي.
لغة الجسد السلبية: تُستخدم لغة الجسد السلبية في حال معارضة ما يقوله الشخص المقابل كدليل على رفض كلامه أو رسالته الموجّهة، ومن سلوكيات اللغة السلبية؛ تجنّب النظر بالعينين، أو هز القدمين، أو عقد الذراعين بشكل متقاطع، وبشكل عام ليس على الفرد الإعجاب بكلّ ما يُقال أو الموافقة عليه في حال لم يعجبه، لكن في نفس الوقت يجب عليه تجنّب إرسال إشارات سلبية لتجنّب وضع الشخص الآخر في موقف دفاعي، وليتمّ التواصل والاتصال بشكل فعّال.
وكان التناغم بين مكونات عملية الأتصال سيئا فلم تنشئ اثناء الحوار وحدة موضوعية قائمة على اساس تفهم عناصر الأتصال وضرورات ايصال رسالة واضحة للمتلقي الناخب الأمريكي, فكان هناك صراع بين منشأ الرسالة ” ترامب ـ بايدن “, ومحتوى الرسالة المنفعلة لكلا المتنافسين, والقناة الأعلامية التي اخفقت في ادارة الحوار وبقت متفرجه على صراعات بايدن ـ ترامب, وقد تركت المتلقي الأمريكي في دوامة صراع المتنافسين وبدون تغذية راجعة واضحة تعكس فهم الحوار لكلا المتنافسين, وقد انتفت البيئة الحوارية المناسبة لطرح القضايا المصيرية لحقبة رئاسية قادمة, كما كان سياق كلام كلا الطرفين ليست ديمقراطيا بل معوقا للحوار الديمقراطي, وقد اجواء التشويش والفوضى بين الطرفين من مصادر الأخفاق الرئيسية في اتمام عملية التواصل لبلوغ الأهداف.
ومن المرتقب تنظيم مناظرتين أخريين في 15 و22 تشرين الأول/ أكتوبر على التوالي في ميامي بفلوريدا وناشفيل في تينيسي, ولكن تداعيات كورونا على ترامب قد تغير بعض من مسارات الحملة الانتخابية, فهل تتأثر الديمقراطيات الراسخة بمرض الأشخاص او وفاتهم كما في الأنطمة الفردية والدكتاتورية, وهل تتأثر هذه النظم بمحاولات التدخل او النكاية الخارجية وتغير المسار الديمقراطي عن قواعده الراسخة نحو امنيات من نوع خاص, الأيام القادمة تحسم الخيار الأمريكي نحو الديمقراطية كما هي في سنوات سلفت أم نحو الأسوء, فالشعوب هي المسؤول الاول والاخير عن خيارتها في ظل النظم التي تمرست في التداول السلمي والمريح للسلطة.