مناقشة حول اتفاقية أوسلو- منير شفيق
مقالة: “أوسلو أيديولوجيا وليست اتفاقية” بقلم مجد كيال في جريدة السفير اللبنانية، بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر 2016، تستحق وقفة لمناقشتها.
فمنذ الوهلة الأولى، أو الصدمة الأولى، أي منذ العنوان: “أوسلو أيديولوجيا وليست اتفاقية”، يعطي الكاتب الأولوية للبُعد الأيديولوجي في اتفاقية أوسلو على البُعد السياسي. والأهم، على النتائج التي انتهت الاتفاقية إليها. الأمر الذي يعفي اتفاق أوسلو من مسؤولية التقويم المستند إلى النتائج ما دام أيديولوجية، وعالم الأيديولوجيا غير عالم السياسة وما يترتب من وقائع عملية. علماً أنه في نظر صانعيه والموقعين عليه أبعد ما يكون عن الأيديولوجيا فهو سياسة محكومة بالبراغماتية باعتباره أفضل السيئ. وهو عنوان للتخلي عن المبادئ والثوابت المرفوعة إلى مرتبة الأيديولوجيا. وإذا كان له من باقي أثر على من انخرطوا في سلطة أوسلو فقد انحصر في التمسّك بالراتب الشهري. وأصبح محمود عباس أسير تأمين الموازنة كل شهر من أجل الحفاظ على اتفاق أوسلو كما أعلن ويُعلن تسويغاً لتمسّكه بسلطة أوسلو أو نهج أوسلو وواقعه.
ومع ذلك أصرّت المقالة على الارتفاع باتفاقية أوسلو إلى مرتبة الأيديولوجيا، واعتبار فئة صغيرة (تظل صغيرة مهما ضخِّمت) بأنها “الفلسطينيين”. فمثلاً جاء في المقالة نص يقول فيه: “يستند هذا التقدير إلى التغيير الحاد والشامل الذي أحدثته هذه الاتفاقيّة في المعرفة السياسيّة الفلسطينيّة، إذ تشكّلت على أثر أوسلو بنية تحتيّة متماسكة، وعلى جميع الأصعدة، لصياغة نظامٍ مفاهيميّ جديد بالنسبة للقضيّة الفلسطينيّة”. ويقول أيضاً “تغيّرت بشكلٍ جذريّ مفاهيم معرفيّة أساسيّة بالنسبة لقضيّة فلسطين”. ويقول “فلسطينياً، وفي السياسة، تختلف اتفاقيّة أوسلو جذرياً عن غيرها من الأحداث، إذ أنها أخضعت الفلسطينيين لمجالٍ جديدٍ في المعرفة السياسيّة لم تكن عقلانيّتنا السياسيّة خاضعة له حتّى لحظة من قبل”.
لاحظ، بداية، تعميم أيديولوجيا أوسلو “على المعرفة السياسية الفلسطينية، هكذا بإطلاق. ولاحظ التعميم بأنها “أخضعت الفلسطينيين”، أيضاً بإطلاق على كل الفلسطينيين وعلى القضيّة. وليس على بعضهم المتضائل يوماً بعد يوم.
فبدلاً من أن يحصر تبني هذه الأيديولوجية بفئة محددة من الفلسطينيين راح يتحدث عنها بأنها التي سادت وشملت الجميع ولم يبق غيرها في الميدان. وعندما حاول الاستدراك قال: “صحيح أن المفاهيم القديمة لم تندثر من الوجود، وما زالت مستخدمة في البلاغة السياسيّة العربيّة، إلا أنها مفاهيم لم تعد واقعة في الحاضر ولا محركةً للمستقبل. بمعنى أنّها، وإن بقيت في ذاكرة الناس وعاطفتهم، فقدت وظيفتها السياسيّة العملانيّة”. أي لم يبق في الميدان غير أيدلوجيا أوسلو وما أحدثته من تغيير في مفاهيم الفلسطينيين.
ولكن كيف يمكن لأيديولوجية أوسلو أن تفعل كل هذا، والمقالة كُتِبَت في أيلول 2016 وقد فشل الاتفاق وسقط أرضاً ودخل بعض أصحابه في مأزق الندامة وعضّ الأصابع أو الاعتراف بأن الاتفاق فشل تماماً.
وكيف يمكنه أن يذهب إلى هذا التعميم وهذه الصورة للوضع الفلسطيني. وقد انطلقت انتفاضة شعبية بعد اتفاق أوسلو دامت خمس سنوات، وتخلّلها تصعيد كبير للعمل الفدائي وصل إلى تعميم العمليات الاستشهادية وفي مستوى لم يحدث من قبل. فأين الذي أحدثته أيديولوجية أوسلو من “تغيير جذري” في مفاهيم الفلسطينيين الذين استهدفتهم، في عقر دارها، في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. وكيف يفسّر انعطافة الزعيم ياسر عرفات ليدعم الانتفاضة والمقاومة. ثم تشكّل “كتائب شهداء الأقصى” من حركة فتح، إذا كانت أيديولوجية أوسلو بكل ذلك التأثير والرسوخ، وإذا كانت المفاهيم القديمة فقدت وظيفتها السياسية العملانية، واقتصرت على استخدامها في “البلاغة السياسية العربية”.
صحيح أن الانتفاضة الثانية والموّجهّة موضوعياً وذاتياً ضدّ ما أرساه أوسلو من مفاهيم أيديولوجية (تنبذ العنف مثلاً) واجهت “ردّة أوسلوية”، بصعود عرّاب أوسلو محمود عباس ليحلّ مكان ياسر عرفات بعد استشهاده (وإبعاده بالسم وليس بالأيديولوجيا)، وليمضي عباس، مرّة أخرى في الطريق الذي رسمه اتفاق أوسلو أو “أيديولوجيته”. ولكن صحب ذلك، وفي الآن نفسه، انتخابات تشريعية وجهّت صفعة شعبية قاسية إلى “فتح” بزعامة محمود عباس، وحازت “حماس” على أغلبية المقاعد من خلال صناديق الاقتراع. وقد ذهب جزء كبير منه ضدّ “أيديولوجية” أوسلو. ثم احتدّ الصراع بين “فلسطينيي أوسلو” بقيادة محمد دحلان وفلسطينيي المقاومة في قطاع غزة، بعد تحريره. وقد أسفر عن سيطرة الأخيرين على قطاع غزة. وكان القطاع قد تحرّر من الاحتلال ومستوطناته بفضل الانتفاضة الثانية وما أطلقت من مقاومة مسلحة. وقد حدث كل ذلك في ظل “هيمنة” مفاهيم أيديولوجية أوسلو.
وبهذا انسلخ قطاع غزة عن سلطة أوسلو في رام الله، وتحوّل إلى قاعدة مقاومة مسلحة جبّارة وصلت إلى مستوى مواجهة الجيش الصهيوني في ثلاث حروب كبرى انتصرت فيها، وما زالت برغم الحصار في حالة صمود وتعزيز مستمر لقدراتها العسكرية واستعصائها على أن يحتلها جيش العدو الصهيوني.
هذا الجانب في قطاع غزة ليس له مكان في الصورة التي قدّمتها المقالة المذكورة في حديثها عن أيديولوجية أوسلو وما ولّدته من سيطرة مفاهيمية قلبت “المفاهيم القديمة” حول القضيّة الفلسطينية رأساً على عقب كما ليس له مكان في الصورة التي أعطتها للمفاهيم القديمة التي “فقدت وظيفتها السياسية العملانية”!
أما من الجهة الأخرى فقد قدّم مجد كيال صورة خاطئة حتى حول القدس والضفة الغربية وتأثير أيديولوجية أوسلو عليهما. وقد صوّرها سارحة مارحة مسيطرة ثابتة الأركان. فهو لم يلحظ أن عرّاب اتفاق أوسلو وأيديولوجيته الرئيس محمود عباس واجه أيضاً فشلاً ذريعاً تاركاً اتفاق أوسلو يتمرّغ في وحل الفشل والانسداد من جهة وأصبح حاله في مأزق خانق وبالطبع كذلك حالة أيديولوجية أوسلو التي راحت تتآكل من قِبَل أشدّ من كانوا متحمسين لها لو جاز تسميتها بالأيديولوجيا.
ولم يلحظ مجد كيال ما يسود الوضع الآن في القدس والضفة الغربية من انتفاضة ضدّ الاحتلال والاستيطان اللذين كرستهما أيديولوجية أوسلو وممن؟ من الفتيان والفتيات، والشباب والشابات الذين ولدوا أو اشتدّ عودهم في ظل اتفاقية أوسلو.
على أن مجد كيال حاول، ولو بسرعة خاطفة، استدراك بعض ما أغفلته الصورة التي قدّمها على سيطرة أيديولوجية أوسلو، قائلاً:
“وقد خلق هذا، في ظل استمرار الجريمة الصهيونيّة يومياً، انشقاقاً عنيفاً داخل المجتمع الفلسطينيّ اتّخذ أشكالاً فصائليّة. فكان الانقسام الفلسطينيّ بين الضفة وغزة عبارة عن انفجارٍ شبه حتميّ للفجوة الهائلة في لحظة الانسداد التام لمجالات العنف الثوري، مع خمود الانتفاضة الثانية”.
لاحظ هذه العبارة التي ترى الانشقاق فصائلياً.. ولكن أين البعد السياسي و”الأيديولوجي” لهذا الانشقاق. وهل له علاقة باتفاق أوسلو وأيديولوجيا أوسلو، وهل له علاقة بالانتفاضة الثانية التي لم يرَ لها من إنجاز إلاّ أنها أُخمدت. أفلم تنتهي بانسحاب الاحتلال من قطاع غزة وتفكيك مستوطناته وبلا قيدٍ أو شرط؟ أفلا يعتبر ذلك ضربة ضدّ مشروع أوسلو وأيديولوجيته؟ ثم أين هذا الانسداد التام لمجالات العنف الثوري أمام العنف الذي عرفته الانتفاضة الثانية؟ وأين الانسداد التام حين يتحوّل قطاع غزة إلى شبكة من الأنفاق القتالية تحت الأرض، وإلى قاعدة عسكرية ارتفعت بالعنف الثوري إلى مستوى المواجهة المباشرة أي مرحلة أعلى من عنف “إضرب واهرب”.
لأن مجد كيال (الذي أشدّ على يده في مجالات أخرى) لا يرى ما حدث من تطوّر للمقاومة المسلحة في قطاع غزة، ولأنه لا يرى أيديولوجية أوسلو سقطت أرضاً مغشياً عليها ومتخبّطة بالفشل والفضيحة والكارثة، إن لم تكن في طريقها إلى سلة المهملات. ولأنه لا يرى ما تتمخض عنه الأوضاع في الضفة الغربية والقدس من ألوان انتفاض ومقاومة ومناهضة لسياسات أوسلو ونهجه، فهو يقدّم ما أسماه “أيديولوجية” ممرعة سائدة شكلت “عقلانية جديدة للفلسطينيين” أحدثت قطيعة مع ما قبلها. أما ما قبلها فيصفه كما مرّ إذ قال: “صحيح أن المفاهيم القديمة لم تندثر من الوجود، وما زالت مستخدمة في البلاغة السياسيّة العربيّة، إلا أنها مفاهيم لم تعد واقعة في الحاضر ولا محركةً للمستقبل. بمعنى أنّها، وإن بقيت في ذاكرة الناس وعاطفتهم، فقدت وظيفتها السياسيّة العملانيّة”.
يقصد هنا بالمفاهيم القديمة تلك المفاهيم التي نبعت من، أو صاغت، ثوابت القضيّة الفلسطينية واستراتيجية الكفاح المسلح الفلسطيني كما عبّر عنها الميثاق القومي لعام 1964 والميثاق الوطني الفلسطيني لعام 1968 وقامت عليها منطلقات فتح وكل الفصائل الفلسطينية. وهذا كله ليس مجرّد أيديولوجية تمحوه أيديولوجية أوسلو، وليس مجرّد وعي عابر وليد ظروف اقتصادية وسياسية طارئة، وإنما هو تعبير عن وجود شعب وأمّة وقضيّة وأرض لا يصبح قديماً، ولا تنتهي صلاحيته، أو وظيفته السياسية العملانية. وإذا اعترف مجد كيال بأن “القديم” باقٍ في “ذاكرة الناس وعاطفتهم” فهذا يعني في وعيهم وفي وجودهم، أو بسبب وجود من حلّوا مكانهم واستولوا على بيوتهم وأراضيهم وقراهم ومدنهم وممتلكاتهم العامة والخاصة. وسيان في ذلك حال من طردوا من فلسطين ومن بقوا فيها. فكيف لاتفاقية (أو أيديولوجية) فاشلة معادِية للشعب والقضيّة يحملها نفر فاشلون أو ساقطون يمكنها أن تحلّ مكان ثوابت قضيّة فلسطين. وهي قضيّة فلسطينية وعربية وإسلامية وعالمية، لا يمكن أن تنقلب رأساً على عقب من قِبَل اتفاق وُلِدَ مِسْخاً مُشوّهاً لا يريده حتى من وقعوا عليه. ولا يشكلون إلاّ فئة متآكلة من شعب أصيل مناضل.
باختصار، كان يمكن أن تُكتب هذه المقالة في خريف 1993 ليكون لها بعضٌ من تسويغ. وليس في خريف 2016 فيما محمود عباس يضرب أخماساً بأسداس من جهة، وليس، من جهة أخرى، في زمنِ الذين وُلِدوا بعد اتفاق أوسلو وحاولت مناهج السلطة تشريبهم “أيديولوجية أوسلو” وإذا بهم يُقاتِلون الاحتلال بالسكاكين وعيونهم على يافا وحيفا.