منهجية المقارنة في التطوّر الإقتصادي – منير شفيق
ثمة مشكلة منهجية لدى الكثيرين ممن قارنوا بين تجارب ناجحة، لا سيما في الاقتصاد، مثلا، النمور الآسيوية، أو ألمانيا، أو الهند أو الصين أو جنوبي أفريقيا والبرازيل من جهة وبين تجارب الدول العربية، منفردة ومجتمعة، ألا وهي القفز فوق ثلاث معضلات كبرى ابتليت بها الدول العربية ولم تعرف واحدة منها أي من النماذج الناجحة موضوع المقارنة.
المشكل المنهجي المشترك الذي اتسّم به كل الذين خاضوا في تلك المقارنات هو عدم تطرقهم في أثناء المقارنة إلى مشكلة إقامة الكيان الصهيوني في القلب من الدول العربية، وذلك من جهة الأسباب الاستراتيجية التي استدعت زَرْعَهُ فوق أرض فلسطين من قِبَل الدول الاستعمارية الكبرى التي كانت مسيطرة على العالم، ولا سيما على البلاد العربية سيطرة مُحْكَمة.
والمشكل المنهجي الآخر في كل تلك المقارنات هو التجزئة العربية إلى حدود 22 دولة وما حملته وتحمله من مفاعيل مؤثرة تأثيرا عميقا ومستمرا في كل دولة من الدول العربية كما على المستوى العام. وهو أيضا ما لم تعرفه التجارب الناجحة موضوع المقارنة.
وأما المشكل المنهجي الثالث، وهو القفز فوق الاستراتيجية الدولية والممتدة من مراحل الاستعمار والإمبريالية، فمرحلة الحرب الباردة، وانتهاء بمرحلة ما بعد الحرب الباردة. وذلك من ناحية خصوصية تلك الاستراتيجيات في علاقتها بالمنطقة التي تشمل البلاد العربية من المحيط إلى الخليج وهي الخصوصية التي تتجاوز، وقد تجاوزت دائما، الاستراتيجيات الدولية في التعامل مع الدول موضوع المقارنة.
على كل من أجرى مقارنة بين دولة ما، أو أكثر، من الدول الناجحة اقتصاديا من جهة، والدول العربية، مجتمعة ومنفردة من جهة أخرى أن يقول لنا لماذا لم يتطرّق إلى الواقع العربي المبتلى بالكيان الصهيوني والتجزئة العربية وخصوصية الاستراتيجيات الغربية، قديما وحديثا، إزاء الوضع العربي.
هل السبب اعتبار كل ذلك غير ذي أهمية عند المقارنة. مما يجعل المقارنة بين الأردن أو لبنان أو سورية وسنغافورة، أو ماليزيا سواء بسواء، كما المقارنة بين فرَسَيْ رهان كلاهما يمتلك الشروط نفسها للانطلاق وكسب السباق ولم يبق غير الميزات الشخصية الخاصة بالتكوين التربوي أو الثقافي أو الفهم السياسي.
وينطبق الأمر نفسه عند مقارنة مصر أو السعودية أو المغرب أو العراق بإندونيسيا أو ألمانيا أو الهند أو الصين، أو ماليزيا وسنغافورة. وذلك كما لو كانت المقارنة بين فرَسَيْ رهان فيُكتب السبق للسمات الذاتية البحت لكل من فرَسَيْ الرهان.
هذا المنهج الذي يتجاهل واقع إقامة الكيان الصهيوني وتثبيته وضمان مستقبله من خلال التفوّق العسكري والتقني وبسياسات دولية مباشرة داعمة هنا، ومانعة ومعرقلة هناك يمكن وصفه بالمنهج الخاطئ في فهم الواقع العربي ومعضلاته. ولا سيما، الثلاثية آنفة الذكر، كما وصف صاحبه بالجاهل في فهم سبب رئيس في أثناء الحرب الباردة سمح لعدد من التجارب الناجحة بأن تتمتع باستراتيجية أمريكية – أوروبية وضعت ثقلا كبيرا لإنهاض تلك الدول اقتصاديا في تلك المرحلة، مثلا مشروع مارشال الذي يناقض في جوهره الطبيعة المنافسة في ما بين الدول الرأسمالية أو الرأسماليات العالمية. وذلك حين تُساعَد ألمانيا على النهوض الاقتصادي، أو غيرها من الدول الأوروبية، أو اليابان أو النمور الآسيوية بما فيها سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية. فجميع هذه النماذج شُجعَت ضمن استراتيجية دولية مواظبة. وهو ما يجب اعتباره أولا، قبل التطرّق إلى المزايا الخاصة لكل منها. وهي ولا شك لعبت دورا مقدرا. ولكن في ظل التشجيع الذي مثلته الاستراتيجية الدولية التي اقتضتها ظروف الحرب الباردة.
فالذي دفع إلى تطوير ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية وبعد هزيمتهما في الحرب كانت المقتضيات الاستراتيجية لمواجهة الشيوعية والتمدّد السوفياتي. وإيجاد مشكلة حقيقية لألمانيا الشرقية ودول أوروبا الشرقية، كما للصين وكوريا الشمالية وفيتنام الشمالية.
أما ما جرى من نهوض اقتصادي لبعض الدول بعد انتهاء الحرب الباردة ولا سيما في العقدين الأخيرين بالنسبة إلى الصين، والهند، والبرازيل، وجنوبي أفريقيا، وتركيا، وإيران. فقد تشكل في ظل موازين قوى عالمية مختلفة اختلافا أساسيا عن سابقتها، وله حديث آخر.
أما العوْد إلى موضوع المقارنات آنفة الذكر مع ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان والنمور الآسيوية، فيجب أن يصحّح ذلك المنهج الذي يتجاهل موازين القوى العالمية والمعضلات التي لعبت دورا حاسما عربيا. ومن ثم لا يجوز تجاهلها عند المقارنة. وإلاّ جعلنا المعيار في فهم الفارق في التطوّر الاقتصادي في مرحلتيْ الاستعمار والحرب الباردة ما بين الدول العربية مجتمعة ومنفردة من جهة، وبين الدول الناجحة اقتصاديا من جهة أخرى، مثل سنغافورة وماليزيا، مبسطا كما المقارنة بين فرَسَيْ رهان في ميدان سباق، علما لو كان الأمر كذلك لما سبقوا الفرس العربي الأصيل.