من توفيق الحكيم الى مراد وهبة – محمد سيف الدولة
فى الثالث من مارس عام ١٩٧٨ كتب توفيق الحكيم مقالا بجريدة الاهرام، بعنوان “مصر والحياد”، طالب فيه بان تقف مصر على الحياد بين العرب وبين (اسرائيل) كما وقفت سويسرا والنمسا على الحياد فى الحرب العالمية، فتصدى له، فى ذلك الوقت، هو وزمرته من لويس عوض وحسين فوزى، نخبة من اهم كتاب مصر ومفكريها مثل احمد بهاء الدين ويوسف ادريس ورجاء النقاش ووحيد رأفت وآخرين وقاموا بتلقينهم درسا فكريا ووطنيا وتاريخيا قاسيا.
وامس الاول فى ٢٥ اغسطس ٢٠٢٠، وفى ذات الجريدة، جريدة الاهرام، كتب مراد وهبة مقالا بعنون “اسرائيل وضع قائم”، دعى فيه صراحة الى تحالف عربى/(اسرائيلى) حيث قال بالنص ((من هنا يمكن تكوين تحالف سداسي بين مصر/السودان/الامارات/البحرين/السعوديه.. و(إسرائيل) فى مواجهه ايران … وفى هذا السياق فإن القيادة الفلسطينيه سواء فى رام الله أو غزه عليها ان تنسف اى علاقه مع إيران ثم تدخل فى علاقه عضويه مع هذا التحالف..))
***
انهم جماعة كامب ديفيد، الذين كلفتهم السلطات فى مصر وربما جهات أخرى بالترويج للسلام مع (اسرائيل) والدفاع عن الانسحاب المصرى الرسمى من اى دعم لفلسطين. والذين بدأوا دعوتهم منذ 40 عاما بالدعوة الى الحياد، ليكشفوا عن وجههم الحقيقى اليوم بالدعوة او فنقل بالاعلان عن ان حقيقة العلاقات هى “تحالف” وليس مجرد حياد، تحالف ضد فلسطين وضد المصالح الوطنية والامن القومى لمصر والامة العربية كلها، من حيث ان فى الاعتراف (باسرائيل) تنازلا لها عن ارض فلسطين 1948، وفى السلام والتطبيع معها دعم وتقوية وتثبيت للكيان المحتل واطالة فى عمر الاحتلال.
لم يكن توفيق الحكيم اولهم ولن يكون مراد وهبة آخرهم بطبيعة الحال، فلقد اصبحوا يشكلون منذ زمن طويل كتائب من “القناصة”، يستهدفون ويوجهون سهامهم الى ثوابتنا الوطنية وأى أفكار أو عقائد أو مواقف ترفض العدوان والاستسلام وتصر على المقاومة.
كان منهم لمن يتذكر جماعة كوبنهاجن التى قادها لطفى الخولى للترويج للحوار والتطبيع الشعبى بين مصر و(اسرائيل) فى التسعينات، والتى كان من أبرز رموزها الدكتور عبد المنعم سعيد الذى كتب هو الآخر فى ذات الجريدة فى ٢٦ اغسطس ٢٠٢٠، مقالا بعنوان “اللحظة الساداتية”، يشيد فيه كالعادة بعبقرية السادات فى عقد اتفاقية سلام مع (اسرائيل)، ويرحب ويؤيد ويروج للاتفاق الاماراتى (الاسرائيلى) الاخير، واصفا اياه بانه لحظة ساداتية اخرى.
***
ولكن اذا كان فى مصر السبعينات والثمانينات وما تلاها، هناك بعض من الخير وقدر ولو يسير من الهوامش السياسية والديمقراطية التى سمحت لكتابنا الوطنيين بشن حملة عنيفة وناجحة ضد انحرافات توفيق الحكيم الوطنية، فان فى مصر اليوم وللاسف الشديد، هناك حصار حديدى على كل من يعادى (اسرائيل) ويرفض اتفاقيات كامب ديفيد ويتضامن مع فلسطين والفلسطينيين. الى الدرجة التى يكاد تخلو الجرائد المصرية القومية والخاصة، من اى مقال أو كاتب يعبر عن الخط الوطنى الحقيقى داخل الحياة الفكرية والسياسية المصرية.
***
أما عن الشخصية الوطنية المصرية التى أعنيها فهى جزء اصيل ورئيسى ولا يتجزأ من الشخصية الوطنية العربية منذ عشرات السنين، التى ترفض الاستعمار بكل اشكاله، ولم تتوقف عن النضال والمقاومة من أجل التحرر منه، وتدرك ان الكيان الصهيونى هو مشروع غربى استعمارى يستهدف مصر وكل الامة العربية بقدر ما يستهدف فلسطين، وترفض كل اشكال الصلح او الاعتراف او السلام أو التطبيع معه، ولم تكف لحظة منذ ٤٠ عاما عن محاولة اسقاط اتفاقيات كامب ديفيد وعن تقديم كل أشكال الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطينى، وهى بطبيعة الحال ترفض رفضا باتا وجذريا كل ما يتم التخطيط له اليوم تحت مسمى صفقة القرن من تصفية قضية فلسطين وابتلاع (اسرائيل) لما تبقى من ارضها وتشكيل تحالف عربى (اسرائيلى) تحت قيادة الولايات المتحدة الامريكية.
***
ولو كان فى مصر اليوم حياة سياسية وديمقراطية حقيقية، لقام الاف من السياسيين والكتاب والمفكرين المصريين بالرد على الدكتور مراد وهبه وأمثاله، وكشف دورهم التخريبي الذى لا يُخدم سوى مصالح (اسرائيل) ومشروعها فى المنطقة، ولتمت مقاطعتهم سياسيا وفكريا بل واجتماعيا كما تم من قبل مع الكاتب الراحل/ على سالم عقب قيامه بزيارة (اسرائيل) ونشر كتابه “رحلتى الى اسرائيل”.
ولانه ليس فى مصر مثل هذه الحرية الآن، فان مسئولية الحركة الوطنية المصرية تصبح مضاعفة، فعليها فى ظل هذه الهجمة التطبيعية وهذا الحصار الفكرى والسياسى والاعلامى، ان تنتهج كل السبل والادوات والمنابر الممكنة لانقاذ الجيل الجديد من أى تخريب فى الثوابت الوطنية أو تزييف للحقائق التاريخية، تُصدَّر لنا باقلام كتاب يحملون الجنسية المصرية.
27 أغسطس 2020