من جدل سيداو: عندما يخالف السلوك الإنساني قانون الطبيعة – عبد الستار قاسم
أتابع الجدل الذي يدور بين السيداويين (المؤيدين لاتفاقية سيداو) والمناهضين لهم. واضح أن لكل طرف نقاط ضعف وأخرى ذات قوة. فمثلا يرى مؤيدو سيداو أن المرأة مظلومة إلى حد كبير، وهذا صحيح بخاصة في البلدان الغربية التي باتت تستعمل المرأة كأداة اقتصادية وتجارية وتحول جسدها إلى سلعة للتداول، وتقلل من إنسانيتها بشكل خطير. والمرأة العربية تعاني أيضا من الظلم والهيمنة وفقدان الشخصية وتغييب الذات ونهب الحقوق. هناك مشاكل كثيرة تواجه المرأة في الساحة العربية، ومن المفروض أن نعترف بها لكي نصوب مسارنا. ولأنني من المختصين في الفكر الإسلامي (ليس الفقه الإسلامي) فإنني أرى أن هذه المشاكل ليست متعلقة بالطرح الفكري الإسلامي وإنما بأسلمة التقاليد العربية المتوارثة منذ الجاهلية حتى الآن. العرب بصورة عامة وجيرانهم من المسلمين ما زالوا يتمسكون بالعديد من التقاليد العربية الجاهلية ويعملون على أسلمتها لكي تكتسب صفة القدسية. هذه التقاليد إجمالا تسبب أذى للمرأة. فمثلا، نقرأ في القرآن الكريم: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.” ما أعرفه أن التعارف يتم بالاسم والوجه ويعني التعاون والتكاتف. لماذا تضع بعض المسلمات غطاء على الوجه، أو يجبروهن على ذلك؟ هذه مخالفة لخلق الله وليس لشرع الله الذي لم يرد فيه مثل هذا السلوك. ومخالفة الخلق اقوى وأسوأ من مخالفة الشرع لأن الشرع أمر تربوي والخلق قانون طبيعي ثابت لا يتغير.
مخالفة الخلْق أو قانون الطبيعة والذي يتعلق بالبشر وليس الإنسان يسبب خللا كبيرا في توازن السلوك الإنساني، ويصيب المرء بهزات نفسية ومعنوية خطيرة، ويقوده إلى اقتراف أعمال تخل بالتوازن المجتمعي والمشاعر الإنسانية والتدفق العاطفي. يختل الانسجام مع الذات ومع المجتمع عندما يتناقض السلوك الإنساني مع الخلق البشري. من المعروف أن القانون الطبيعي مبني في ذات الشيء، وفي حالة البشر، إنه مبني بالبشر ويشكل قاعدة راسخة وثابتة في توجيه السلوك الإنساني المتعلق بالبناء الفسيولوجي. البشر يرى، وتتوفر لديه أداة النظر والرؤية. فماذا يحصل لو قال الإنسان إن النظر مزعج بسبب ما يرى من مساوئ وأعمال شريرة، فيقرر أن يغمض عينه ويتحرك بدون فتحهما؟ أو ماذا يمكن أن يحصل لو أن الإنسان انتقد السير إلى الأمام وقرر أن يسير إلى الخلف.؟ هذه قرارات سلوكية تخالف القاعدة الطبيعية للبشر. عندها يكون الإنسان قد اقترف جريمة بحق نفسه، وتنعكس آثارها السلبية عليه وعلى غيره وعلى المجتمع ككل.
القانون الطبيعي مثل الدورة الدموية ونبضات القلب وعمل اليدين، الخ برنامج مبني في البشر ومعاكسته تسبب الأذى والمتاعب. ولهذا نقول إن البشر مسير (أي أن تركيبه الفسيولوجي لا يتغير ويحدد وظائف أعضاء الجسم)، بينما الإنسان مخير. وعند الحديث عن البشر نعني ذلك الجسد المادي العضوي الذي يحتوي الإنسان. أما الإنسان فهو ذلك البشر الذي نُفخت فيه الروح وأصبح عاقلا قادرا على التمييز والاختيار. القانون البشري ثابت لا يتغير وهو قدر ولا خيار للإنسان فيه، بينما السلوك الإنساني خاضع لقرار الإنسان. وإذا تناقض سلوك الإنسان مع قانون الطبيعة فإن التوازن يختل، ويدخل الإنسان فيما يتعبه.
سقت هذا لأقول إن في اتفاقية سيداو ما يرسم خطوطا سلوكية تتناقض مع القانون الطبيعي، وهي في ذلك تشكل خطرا على المجتمع الإنساني ككل. وواضح أن مثل هذه الخطوط مأخوذة عن التجربة المجتمعية الغربية والتي حسّنت من وضع المرأة في بعض المجالات وأساءت في مواضع أخرى، ويريد كاتبو الاتفاقية تعميمها على العالم. أخطر ما في الاتفاقية من زاوية القانون الطبيعي هو الزواج المثلي سواء كان ذكوريا أو أنثويا. بالطبيعة لا يوجد تزاوج بين أنثى وأنثى، ولا بين ذكر وذكر. هناك تزاوج بين قطبين متعاكسين، وليس بالنسبة للإنسان فقط وإنما لكل المخلوقات العضوية الحية. حتى أن القطبية الثنائية متوفرة طبيعيا في الجمادات. فمثلا هناك موجب وسالب في مسألة الكهرباء. وحتى في الذرة، هناك إليكترون ونيوترون، الخ. لكن أهل الغرب دأبوا على اتباع هذا السلوك واعتبروه حرية فردية إنسانية ولا يجوز اعتراضها.
هنا يكمن الخلل الخطير وهو أن مخالفة قانون الطبيعة ليس من الحرية بتاتا لأنه يرتد عكسيا على الفرد وعلى المجتمع. الجنسوية المثلية تسبب مشاكل صحية ونفسية وتربوية لكل الأطراف، وتورث أمراضا وتعطل قوانين طبيعية أخرى. واضح أن مثل هذه الجنسوية تعطل الإنجاب الطبيعي، وتؤذي بصورة خطيرة الأعضاء الجنسية للذكر وللأنثى على حد سواء. الممارسة الجنسية لها بيئتها الطبيعية والخروج عنها مؤذ ومقزز في ذات الوقت. ولأن هذه الجنسوية مؤذية للشخص نفسه وللمجتمع فإنها ليست من الحريات الفردية إطلاقا ولا من الديمقراطية. كل نشاط يقوم به الإنسان وهو ضار ومؤذ له ولغيره بما في ذلك التدخين ليس من الحريات في شيء. ووصف ذلك بالحرية الفردية يشكل تصريحا لممارسات تعود على الأشخاص والمجتمع بالضرر، وهذا ليس من المنطق ولا من العقلانية ولا من الإنسانية.
هذا يشبه عملية تناول الكحول بكثافة إلى حد غياب القدرة العقلانية. العقل هو مركز التمييز والتفكير والاختيار، وإذا غاب العقل غاب الإنسان. وعندما يغيب الإنسان فإنه من الممكن أن يؤذي نفسه ويؤذي غيره. يفقد المرء وعيه ونفسه عندما يغيب عقله، وهذا ليس من الحرية في شيء أيضا. القوة العقلية خلقية، ولا يجوز المساس بها. في القضايا الخلقية، من المهم أن تهذب التربية ممارستها، وتجعلها أكثر جمالا ووقارا، لكن لا يعمل الإنسان على إلغائها. إلغاؤها متعب من النواحي الجسمانية الصحية والمالية وتقتل الوقت والطاقات التي يجب استغلالها فيما يفيد.
وعليه فإن سن قوانين تسمح بمخالفة القانون الطبيعي درب من دروب الغباء والضحالة المعرفية. أهل الغرب سنوا قوانين مخالفة للقانون الطبيعي لأسباب اقتصادية وشهوانية، وتسببوا لأنفسهم بمتاعب وأمراض اجتماعية واقتصادية جمة، وليس من الفطنة لبقية العالم اللحاق بهم .المصالح وليس القيم الإنسانية هي التي حكمت توجهات الغرب نحو المرأة، وعلينا أن لا ننجر إلى ما لا تحمد عقباه، لكن دون أن نتوقف عن البحث في الوسائل والأساليب والسياسات التي تُخرج المرأة إلى الحياة العامة لتكون مشاركة فعالة في عمليات النهوض والتقدم. وهنا أطرح السؤال على السيداويين: لماذا يُنظر إلى المرأة التي تغطي وجهها على أنها مقموعة، بينما لا يُنظر كذلك إلى المثلي أو المثلية؟ الاثنان يخالفان قانون الطبيعة الإلهي، ويقمعان نفسيهما. كل واحد منهما يعتدي على حريته.
وهنا لا بد أن أذكر المسلمين أيضا بأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة النبأ” “وخلقناكم أزواجا.” ولا ضرورة للجدل حول التعدد بما يخالف الخلق الإلهي. والخلق أقوى من التشريع حتى إن وجد. الالتزام بالتعاليم الشرعية اختياري، لكن لا خيار في القانون الطبيعي الخلقي. وتبقى مشكلة كبيرة تواجه المسلمين وهي أن الأحكام الفقهية المختصة بالحلال والحرام طغت بصورة مطبقة على دعائم الفكر الإسلامي المختصة بالحق والباطل. الحلال والحرام جزئيات سلوكية إنسانية، والحق والباطل كليات كونية فيزيائية وإنسانية. في كثير من الأحيان، يدفن المسلمون المرأة بالأحكام الفقهية الهائلة التي قد تكون شرعية وقد لا تكون.
والخلاصة، ‘ذا كان أهل سيداو يبحثون عن حماية حقيقية للأسرة، فالأعراف الغربية ليست هي العنوان، وأهل الغرب أكثر من أساء للأسرة حتى تفككت إلى حد بعيد. وإذا كان المسلمون يتحدثون عن حماية الأسرة فإن عليهم تطبيق الإسلام وفق المبادئ الفكرية الإسلامية، لا أن يبقوا أسرى لتقاليد عربية بتغطية إسلامية غير صحيحة حتى ينتهي تهميش المرأة وإبعادها عن الحياة العامة، ويتقلص هوسها بجسدها وملابسها وزخرفة وجهها والتعامل مع ذاتها بمشاعر الدونية.
ReplyForward |