من خزان ذاكرة حصار بيروت 1982 – نضال حمد
” محاولة لاستحضار ذاكرة الحصار كما رأيتها وعشتها هناك”
مقدمة
يوم الرابع من حزيران 1982 كان يوما استثنائيا في حياة الشعبين اللبناني والفلسطيني…
كان موعدا مع غربان البين وطيور الموت المعدنية، كان يوما للمواجهة الصعبة مع العدو الأصعب والمتفوق عددا وعدة.
في اليوم المذكور تلونت السماء بخيوط الدخان المتصاعد من أرض الجنوب والساحل والجبل وبيروت,اختلطت الألوان بعضها ببعض، صار الأزرق اسودا والأبيض احمرا، صرنا كومة لحم في لهب الكارثة، محروقون بدم الفضيحة المشتعل ومذبوحون بسكاكين الصمت العربي المضطرب، كنا نمجد انتماءنا للزمان الحاضر منذ القدم وللمكان الباقي أعلى من صغار الزمن، كنا نبني من هزائمهم انتصارات البراءة فينا، كنا عصافير في قفصٍ كبيرٍ موشك على الحصار الأكبر، حيث لا هواء ولا ماء ولا غذاء ولا دواء..
وحيث السماء تمطر قنابل والبحر يقذف صواريخ والجبال الهائجة رغم ركود الزمن تصب علينا حمم البراكين الحارقة .
كانت الطائرات تنقض على لحمنا وعلى كل جدار نسند إليه ظهورنا، كانت الطائرات التي احتلت السماء ترمي بكل ما عندها من محرمات على كل ما عندنا من حرمات..
كانت تتعمد قصف البشر والحجر والخبر والشجر..
قصفت المدينة الرياضية بشكل لم يسبق له مثيل، دمرت ما تبقى منها واقفا بعد كل جولات الحرب الأهلية منذ بدايتها حتى يوم اشتعال السلامة في فتيل غزو سلامة الجليل المزعوم..
كنت في ذاك اليوم موجودا في مبنى قريب جدا من المدينة الرياضية وكان دوي الانفجارات يهز المنطقة ويحرك أسس العمارة التي كنا في طابقها الأرضي.
كان معنا رجل فلسطيني من مخيم شاتيلا، سميناه “كاتم صرخات” لكن لم يستطع هذا الكاتم أن يكتم صرخاته وأن يضبط إيقاعها، كانت صرخاته المتعالية أقوى على مسامعي من هدير طيور العم سام المعدنية ذات الرؤوس الحربية الملتهبة والبطون الحاملة على مدار السنة.
لم يكن بمقدوره تحمل كل تلك الانفجارات مرة واحدة، فأنفجر في نوبة هستيريا حادة تصارع خلالها مع الجدران، كانت تلك النوبة شيئا عاديا للذين يعرفونه،لأنها ليست النوبة الأولى، لكنها بالتأكيد من النوبات العنيفة التي اجتاحته خلال هذه السنة الكبيسية، فأعداد الطيور الجهنمية وأحجام قنابلها الملقاة علينا جعلته يلقي قنابله الهستيرية على كل ما هو حوله.
لسوء الحظ أن النوبة الهستيرية أو الصرعة الغير اعتيادية جاءته اليوم بالضبط، مع القصف الهمجي المتواصل أو بفعله أيضا، قد يكون لاحمرار السماء وتوهجها نتيجة الحرائق أثره في تحريك نوبات الهستيريا والصرع عند صديقنا الذي كان مكتوما وأنفجر. هذه السماء البعيدة كحرية مفقودة أصبحت حمراء أكثر، والوجوه صفراء والأوضاع قاتمة وسوداء بانتظار الفرج أو بانتظار فسحة بياض مفقودة في زمن العروبة المسكون بعفاريت أمريكا و”إسرائيل”.
سألت المعارف عن هذا الكاتم العجيب، قالوا انه من الذين تجيئهم النوبات كلما ضاقت بهم الحياة، كان كاتم صرخات من عائلة صامتة وهادئة، قليلة الكلام، تسكن في حارات البؤس التي تملأ مخيم شاتيلا، ولد عاقلا وكامل القوى والأوصاف، لكنه جن عندما تذكر ما حل بأهله وبلاده في حرب اغتصاب فلسطين. كانت الصدمة تلاحقه والدماء تجري حوله كأنها مطر أحمر تساقط من سماء صارت كبنك تخزين الدم، بقيت حياته متوقفة عمليا في بلدتهم الجليلية التي أزيلت عن وجه الأرض وطمر معظم سكانها تحت التراب. هو هنا جسدا لكن روحه وقلبه بقيا هناك، مع الزيتون والتفاح والزعتر البري ،البلدي، ومع قمح الجليل وسنابل الذهب المتمايلة مع الريح. هذا الرجل كان بصرخاته الطالعة من أعماق قلبه،من دواخله الساكتة والصامتة يزلزل الأرض ويثير الجبال بما فيها من براكين خامدة. كانت صرخاته المفجعة تعلو فوق أصوات القنابل ودوي الانفجارات وهدير الطائرات وصفارات الإسعافات. كان يرتاح قليلا ثم يعود ليبدأ جولة أخرى من الهستيريا المرعبة، و كانت الطائرات بقنابلها وهديرها وما تحمله من موت أرحم وأهون من جنون كاتم صرخات.
كان رجلا مربوع القامة وقوي، متين البنية، مرصوص العضلات، يملك عينا صقر،وضخم مثل فيل آسيوي هائج أو دب قطبي فالت من قبضة صياد محنك، صاحب وجه عريض ورأس كبير، لكنه فارغ وخالي،كان مجنونا بين عاقلين أو عاقلا بين مجانين،كان يحيا في زمن الجنون العام بلا دعوة للجنون كما كان يدعونا مجانين الرصيف الفلسطيني والعربي في بيروت المقاومة.
قلت لمحدثي أنني بشوق لسماع المزيد عن كاتم الصرخات،قال سوف أسرد لك بعض الحكايات المثيرة والمميزة عن هذا الإنسان الذي ترافق جنونه مع جنون عام عصف بالواقع اللبناني وبفلسطينيي لبنان أيضا.
قال محدثي بأنني اعرف طبيعة المخيمات الفلسطينية والمنافسة بين الفصائل الفلسطينية على استقطاب الناس والأعضاء كيفما كانوا، وكيفما اتفق، وحدث أن أصبح السلاح بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في نيسان 1975 والمذابح والمجازر التي تلتها و حدثت في مخيمات تل الزعتر وجسر الباشا والضبية، حيث قتل المئات وجرح الآلاف وشرد عشرات الآلاف من الفلسطينيين، حدث أن أصبح السلاح بمتناول الجميع وتم تسليح وتدريب الناس على استعماله للدفاع عن نفسها وحماية المخيمات، خوفا من مجازر جديدة وتأكيدا لاستعراض القوة والعضلات لبعض الفصائل التي ارتأت في الحرب فرصة لكي تبرز نفسها ومواهبها ومواهب أعضاءها. فكانت هناك أخطاء في استعمال السلاح وكانت هناك توجيهات سيئة وغير طبيعية لمسار البندقية، وأحيانا كان الهدف معكوسا، فبدلا من توجيهه للأعداء كان يوجه للأشقاء والأصدقاء. كانت ثورة في عصر القِصورْ والقُصورْ، ثورة سعادين وبشر وقرود وفدائيين، ثورة شعب وجد نفسه بين فكي كماشة، العدو الصهيوني من جهة ومن جهة أخرى حلفاءها من الفاشيين والانعزاليين، كذلك من العرب الذين فضلوا أطماعهم وهيمنتهم على الوقوف إلى جانب الحق والعدل والعروبة.
هذا زمان من زجاج، ووقت من ذهب القنابل وصفار الريح وعواصف البحار،هذا زمن جُن فيه سليمان خاطر، هذا البطل المصري الذي انتقم لشرف العرب والعروبة، حيث قتل الصهاينة لأنهم أهانوه وأهانوا شرف بلده الكبير والعريق مصر، تعدوا على راية شهداء مصر، كان يراهم وهم يدنسون أرض سيناء في يوم حار، يتطاولون على رمل الصحراء المجبول بدم صبيح وأمل ومحمد وحسنين، كانت دماءه تغلي وأعصابه تزداد توترا، لم يحتمل رؤية إخوته المضرجون بدمائهم فوق رمل سيناء والمدفونين تحت ترابها وهم يتعرضون للدنس، حيث يدوس الصهاينة في تلك اللحظات فوق القبور والدماء والذكريات والانتصارات والهزائم والانكسارات والدموع والآمال، كان يغلي كأن في جوفه بركان يصهل أو زلزال يتحرك، فعالجهم بالتي رأى أنها كانت هي الداء، فكان مصيره السجن ومن ثم تهمة الجنون فالمشنقة التي أودت بحياته في قلب السجن المحروس من قبل الأمن المركزي. مات سليمان خاطر شهيدا، بعدما اغتالوه و شنقوه، و بعدما كانوا شنقوا مصر في كمب ديفيد. وقد كتب يومها الشاعر علي فوذة وكان ذلك سنة 81 أي قبل عام من استشهاده في حصار بيروت قرب عين المريسة وهو يوزع جريدته اليومية الرصيف التي كانت إلى جانب جريدة المعركة من الصحف القليلة التي حافظت على صدورها إثناء الحصار، دعا خلالها الشاعر الفلسطيني الصعلوكي والرصيفي كل الجماهير العربية للجنون العام والجنون على طريقة سليمان خاطر بالذات، وقال أنه أول مجنون عربي مع سليمان خاطر يدعو العرب للجنون العام. وهل هناك أجمل من هذا النوع الجنوني الذي يعيد للكرامة المُهانة شرفها وطهارتها،أنها الكرامة الأصيلة عند كل مواطن عربي لا تغيب عنه عندما تقتضي الحاجة العودة لها، فالمصري كما السوري والعراقي والفلسطيني واللبناني والسوداني واليمني والخليجي والمغاربي وكل عربي تغلي في عروقه الدماء الحارة ولا يبرد أعصابه وتلك الدماء إلا تحدي المصير المفبرك بإرادة الهزيمة والانحناء لمعسكر الأعداء.
**
هنا استشهد الأسير المحرر سمير درويش، كان أطلق سراحه خلال عملية تبادل الأسرى الأولى التي تمت بين الجبهة الشعبية القيادة العامة والاحتلال “الإسرائيلي”. لم يعش من حريته التي حصل عليها بالمنفى سوى أربعة سنوات فقط، حياة قصيرة ثلاثة أرباعها سجن وربعها الأخير تشرد ومنفى وكفاح، لقد لاحقه القتلة حتى بيروت فاغتالوه وأحرقوا سيارة الإسعاف التي كانت معه تحاول إنقاذ الجرحى في المدينة الرياضية المشتعلة من كل جانب وصوب. رحل سمير درويش بعدما عانى من إصابات خطيرة أدت إلى تقطيع أوصاله، فبترت أطرافه كاملة وسبلت عيناه، كان ممزقا بالشظايا ولم يكن هو نفسه الذي كانه قبل لحظات، هكذا وصفه من كان رآه بعد الغارة، كان ذلك اليوم يومه، يوم الشاب الجليلي الخارج من السجن إلى الشهادة، يوم الخلاص من حياة تكللت بالفداء والتضحية والمثالية النضالية. رحل سمير،
استشهد بطريقة فريدة، بطريقة تليق بنسر عرشه أعلى قمم الجبال ومسكنه أرض الله الواسعة، أستشهد صقر فلسطين ولم يكن في باله أن هذا اليوم هو يومه الأخير، وأن هذا القصف هو مقدمة الحرب الأطول بعد الحرب الطويلة السابقة، ومقدمة الحصار الجهنمي الطويل. رحل سمير لكن بعد أن ترك وراءه تجربة فذة في النضال المتعدد الاشكال داخل وخارج السجن.
***
في اليوم التالي للقصف الخيالي الذي تعرضت له كافة المناطق اللبنانية، توجهنا برفقة الأمين طلعت يعقوب،قائد جبهة التحرير الفلسطينية إلى الجنوب اللبناني وكان الهدف هو زيارة القواعد في قلعة الشقيف وجبل الجرمق والنبطية وصور وصيدا ومخيمات الجنوب. كانت الرحلة من بيروت إلى الجنوب كعملية انتحارية، ورفض الأمين أبو يعقوب أي نقاش في تغيير جدول العمل وتبديل أمكنة الزيارة، أصر على التوجه بداية إلى قلعة أرنون، عبر الموكب المؤلف من ثلاثة سيارات المدينة الرياضية حيث كانت آثار القصف العنيف لازالت قائمة، وبنفس الوقت كانت القواعد الفدائية هناك لازالت قائمة بالرغم من نار جهنم يوم أمس.
آخر تحديث 2007-02-27
من خزان ذاكرة حصار بيروت 1982
يتبع