من قتل أولوف بالمه؟ – قيس مراد قدري
بعض عمليات الاغتيال السياسي تبقى لغزا محيرا وحبيسة الأدراج دون معرفة فاعليها ولا حتى دوافعها وتظل عرضة للتكهنات والتحليلات نظرا لتداخل وتشعب الأطراف المعنية في عملية التغييب عن المسرح السياسي.
حصل هذا عندما اغتيل الرئيس الأمريكي جان كنيدي في مدينة دالاس في ولاية تكساس عام 1961. يومها الصقت التهمة ب لي هارفي أوزوولد الذي قتل قبل بدء التحقيق معه على يد رجل المافيا اليهودي جاك روبي ثم انتحار هذا الأخير وحتى اللحظة لم تعرف الجهة التي وقفت خلف عملية الاغتيال . يومها وجهت أصابع الاتهام للاتحاد السوفييتي ؛ والبعض الآخر اتهم كوبا ثم قيل أن المافيا … . كون الاتهام قد طال أكثر من طرف جعل القضية محل تأويل وتكهنات كمن يبحث عن ابرة في كومة قش دون معرفة من كان فعلا وراء عملية الاغتيال.
أولوف بالمه رئيس وزراء السويد الذي لقبه العالم ( نصير الفقراء ) اغتيل على يد قاتل محترف قبل ثلاثين عاما وكل التحقيقات لم تتمكن من الاجابة عمن كان وراء عملية الاغتيال.
كيف ؟ ولماذا ؟ وماهي الدوافع وراء عملية الاغتيال ؟ أسئلة طرحتها على نفسي وأنا أرقب يومها المشهد عن قرب قبل ثلاثة عقود !!!.
بالمه لم يكن شخصا عاديا ؛ ولا الاغتيال السياسي بالأمر المعهود في واحدة من أكثر بلدان العالم أمنا في ذلك الوقت.
أن ترى شخصية سياسية عامة في أي من شوارع المملكة في تلك الأيام كان أمرا مألوفا جدا ؛ لكنه ما عاد كذلك مذ ذاك.
كيف وقعت الجريمة ؟
في آخر يوم من شهر فبراير /شباط عام 1986 ؛ طقس شتائي بارد جدا مع ذلك أراد يومها بالمه أن يكون ذلك المساء يوما عائليا فمنح حراسه الشخصيين اجازة وخرج من منزله في البلدة القديمة وسط العاصمة ستوكهولم متأبطا ذراع زوجته السيدة ليزابيث قاصدا دارا للسينما لحضور العرض الافتتاحي لفيلم ” الأخوة موزارت ” .
العرض انتهى عند الحادية عشرة والربع ؛ خرج من الصالة حاملا باقة ورد حمراء قدمها له الممثلون امتنانا له بتشريفهم بحضور عرضهم الأول.
شوارع العاصمة ستوكهولم كانت في تلك الليلة الباردة شبه خاوية في مثل هذه الساعة المتأخرة الا من بعض سمار نهاية الاسبوع ؛ كما لم يكن هناك ما يوحي بما هو غير عادي . ولدى وصول الزوجين عند تقاطع شارعين على بعد مئتي متر تقريبا من باب صالة العرض كانت السيدة بالمه قد تجاوزت زوجها قليلا عندما انطلقت رصاصتان ظنت الزوجة أن ثمة أطفال يلهون بمفرقعات في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؛ استدارت نحو زوجها لتعقب على ما سمعت فوجدته ملقى على الأرض والدماء تنزف من ظهره ومن حلقه.
ممرضة تصادف وجودها في عين المكان سارعت لمحاولة انقاذه لحين وصول الشرطة وسيارة الاسعاف الذين وصلوا بعد ثلاث دقائق وقاموا بتطويق المكان وبسرعة البرق نقل بالمه على عجل الى أقرب مشفى ؛ وفي لحظة الفوضى والانشغال بمحاولة انقاذ حياة صاحب أهم موقع سياسي في البلاد كان الجاني قد توارى عن الأنظار ولم يعثر له على أثر.
لماذا اغتيل ؛ وما هي الدوافع وراء ذلك ؟
من البديهي جدا في مثل هذا الحال أن يطرح المرء على نفسه سؤالا مبدئيا : من هو الطرف أو الأطراف المستفيدة من تغييب رجل بمكانة أولوف بالمة عن الساحة السياسية ؟
للرجل مواقف سياسية كثيرة جعلته في عين العاصفة منذ بداية بروزه السياسي ؛ فقبل أشهر من أن اعتلائه منصب رئاسة الوزراء لأول مرة عام 1969 بصفته زعيما لأكبر حزب سياسي في البلاد ؛ الحزب الاجتماعي الديموقراطي ( البعض يسميه الحزب الاشتراكي ) ففي الوقت الذي كان فيه العالم صامتا على جرائم وفظائع الحرب التي كانت ترتكبها القوات الأمريكية في حربها على فيتنام قاد بالمه بنفسه عام 1968 أكبر تظاهرة في تاريخ السويد ضد تلك الحرب ؛ ولم يكتف بذلك بل فتح أبواب بلاده أمام كل العسكريين الأمريكيين من رافضي الخدمة في فيتنام ومنحهم حق اللجوء السياسي .
لم تكن هذه هي السابقة الوحيدة التي وضعته في الصف المعادي لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية ؛ ففي عام 1973 أعلن رفضه للانقلاب الذي قاده الجنرال أغوستو بينوشيه بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية ضد الرئيس المنتخب سلفادور أليندي الذي قضى في ذلك الانقلاب ويومها زج بالآف التشيليين بالسجون وتعرض الكثيرون منهم للتصفية الجسدية. بالمه سخر عمل سفارة بلاده في العاصمة سانتياغو لتقديم العون والمساعدة للشعب التشيلي وفتح أبواب السويد أمام لجوء الآف من أنصار الرئيس المغدور أليندي.
في العام 1979أيد الثورة التي أطاحت بالدكتاتور أناستاسيو سوموزا في نيكارغوا ؛ كما كان مؤيدا لكل حركات التحرر في بقية دول أمريكا اللاتينية . وفوق هذا وذاك كان صديقا مقربا من الزعيم الكوبي فيديل كاسترو .
كل هذه المواقف جعلت من بالمه عدوا لدودا لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعتبر دول أمريكا اللآتينية بمثابة حديقتها الخلفية ولا ترضى لها أن تكون خارج دائرة سيطرتها.
بالمه والقضية الفلسطينية.
منذ اللحظات الأولى للغزو (الاسرائيلي) للبنان عام 1982 وما نتج عنه من رحيل لقوات منظمة التحرير الى بلدان عربية عدة واستتباعها بمجزرة صبرا وشاتيلا كان موقف الحكومة السويدية ضد تلك الحرب منذ بداياتها ؛ وقد حمل بالمه الحكومة (الاسرائيلية) تبعات كل ما انتهى اليه ذلك الغزو . وكمؤشر على امتعاض السويد من سياسات (اسرائيل) لم توجه الدعوة كما هي العادة لحزب العمل الاسرائيلي للمشاركة في احتفالات عيد العمال العالمي.
في العام 1983 فاجأ أولوف بالمه العالم باستقباله الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في العاصمة السويدية ؛ ورغم ما تعرض له من انتقادات حادة من أصدقاء (اسرائيل) المتنفذين ومن شريحة كبيرة من الجالية اليهودية في السويد الا أنه تحدى كل المنتقدين بالقول ” … نحن نعرف جيدا الرواية (الاسرائيلية) وقد آن الأوان لسماع الرواية الفلسطينية …” .
هذه الزيارة شكلت بداية تحول كبير في نظرة الغرب لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت بعدها من منظمة ارهابية الى الاعتراف بها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني وسمح لها بفتح مكاتب في كل العواصم الغربية.
هذا الموقف جعل من بالمه واحدا من ألد خصوم الكيان الصهيوني الذي وصفه وقتها بأكبر أعداء السامية في الغرب.
بالمه وسقوط حكومة الميز العنصري في جنوب أفريقيا
لم يكن غريبا عام 1990 أن تكون السويد أول بلد يزورها الزعيم الكبير نيلسون مانديلا اثر خروجه من السجن ولعل ما قاله عند زيارته ضريح بالمه يظهر مدى وأهمية الدور السويدي في تقويض النظام العنصري الجنوب أفريقي ” … شكرا لك أولوف لولا وقوفك معنا ما كنا اليوم أحرارا …” .
أولوف بالمه مع شريكيه في الاشتراكية الدولية : المستشار الألماني فيلي برانت والمستشار النمساوي برونو كرايسكي كانوا أول من أطلق مبادرة مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا على الساحة الدولية.
التحقيق في اغتيال بالمه اسند لرئيس البوليس السيد هانس هولمير الذي بنى تحقيقه على فرضيات ثبت بالدليل القاطع أنها كانت تضليلية أكثر من كونها واقعية . في البداية وجه الاتهام الى حزب العمال الكردستاني ؛ وبعد مرور قرابة العامين انتقل الاتهام الى شخص سويدي من متعاطي المخدرات يدعى كريستر باترشون وقد أصدرت المحمكة الابتدائية حكمها بسجنه بتهمة اغتيال السيد أولوف بالمه ؛ لكن المحكمة العليا برأت ساحته بعد أن أمضى عاما كاملا في السجن الذي خرج منه بتعويض مالي كبير. وهناك من تحدث عن افتراضية ضلوع عناصر يمينية متطرفة من داخل جهاز الشرطة في عملية الاغتيال . أي أن الروايات والتكهنات كثيرة ولم تتم بعد معرفة الرواية الحقيقية.
اليوم وبعد مرور ثلاثين عاما على الجريمة وبالعودة الى سلسلة المقالات التي كتبتها في حينه من موقع الحدث والتي نشرت تباعا في مجلة ” اليوم السابع ” التي كانت تصدر في باريس أجد نفسي ثابتا في حكمي أن من ارتكب هذه الجريمة كان على درجة عالية من الحرفية ؛ وأن أجهزة الاستخبارات الأمريكية والموساد (الاسرائيلي) والمخابرات الجنوب أفريقية ( قبل سقوطها ) وما كان بينهم من تعاون وثيق هم أكثر من تضرر من سياسات أولوف بالمه لذا كان لا بد من ازاحته عن المشهد السياسي لأنه لو استمر لكان الضرر أكبر على رأس المال المتوحش الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية .
المصدر: الموقف العربي