الأرشيفالجاليات والشتات

من مشروع تحرر إلى سلطة بوليسية تحت الاحتلال – إياد عبد العال

بُني المشروع الوطني الفلسطيني على قاعدة التحرير والعودة كأهداف وطنية كبرى تجمع الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات. على طريق تحقيق هذه الأهداف، قدم الشعب الفلسطيني التضحيات الجسام من الشهداء والجرحى والمعتقلين والمعاناة اليومية، في سبيل تحقيق المشروع الوطني والوحدة الوطنية، إلا أن هذه المسيرة التي جسدت أسمى معاني التضحية والنضال، شهدت مداً وجزراً، خاصة مع المسار السياسي الذي بدأ مع أوسلو، الذي حمل في طياته تنازلات كبرى ومخاطر جمة. تمديد المرحلة الانتقالية إلى أجل غير محدد، وما رافقه من إجراءات إسرائيلية لترسيخ وقائع جديدة على الأرض، تشمل توسيع رقعة الاستيطان، ومحاولات القضاء على المقاومة، وشنّ حرب إبادة جماعية، دفع القضية الوطنية نحو خطر التصفية.

هذا الخطر لا يقتصر فقط على الاحتلال الصهيوني وإجراءاته التوسعية، مثل الضم والاستيطان وتدمير فرص إقامة الدولة الفلسطينية، بل يمتد إلى تفكك النظام السياسي الفلسطيني. بدأ هذا التفكك بانهيار مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التمثيلية وتهميش دورها لصالح سلطة الحكم الذاتي، التي تم اختزالها في شخص الرئيس. غياب منظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية وطنية موحدة أدى إلى انقسامات أفقية وعمودية داخل الصف الفلسطيني، مما أضعف قدرتهم على مواجهة الاحتلال وصياغة استراتيجية وطنية جامعة. كما رافق هذا التفكك انحلال وتآكل السلطات الأربع التي كان يُفترض أن تكون الركيزة الأساسية لبناء المشروع الوطني، إلى جانب احتواء القوى السياسية داخل منظمة التحرير، حيث أصبحت الغالبية منها تحت تأثير مؤسسة الرئاسة، ما حوّلها إلى أدوات تخدم المصالح الفئوية للسلطة.

في ظل هذا التراجع، جاءت السلطة الفلسطينية لتملأ الفراغ المؤسسي، لكنها لم تتمكن من تحقيق تطلعات الشعب. نشأت السلطة الفلسطينية كجزء من عملية انتقالية وفق اتفاق أوسلو، وبأمر عسكري إسرائيلي وتحت إشراف منظمة التحرير الفلسطينية. ومع أن المقدمات كانت تشير إلى أن هذه السلطة لن تكون أداة لتعزيز النضال الفلسطيني، إلا أن الأمل بأن تعمل على تحسين حياة المواطنين بشيء من النزاهة والديمقراطية سرعان ما تبدد. تحولت السلطة تدريجيًا إلى كيان ينخره الفساد والتفرد، يُدار بعقلية أمنية تخدم أجندات خارجية. تغييب منظمة التحرير الفلسطينية بكل مؤسساتها وإقصاء بعض القوى الأساسية عنها جعلها أداة للصراعات الداخلية، مما أفقدها دورها كمرجعية وطنية جامعة. اللجنة التنفيذية، التي كانت تمثل القيادة الفلسطينية، باتت كيانًا شكليًا فاقدًا للصلاحيات، وأصبحت هيئة استشارية تقدم توصيات للرئيس. أما المجلس المركزي، فتم تشكيله ليحل محل المجلس الوطني وليعمل وفق مقاسات تخدم مصالح الرئيس وحاشيته.

غياب المجلس التشريعي منذ سنوات طويلة، وعدم إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، وإلغاؤها المتكرر بذرائع واهية، خلق فراغًا سياسيًا خطيرًا. وأصبحت القرارات والتشريعات تُصدر بمراسيم رئاسية، مما غيّب الدور الرقابي الذي كان من المفترض أن يمثله الشعب عبر ممثليه المنتخبين. هذا الفراغ رافقه تغول على السلطة القضائية، التي فقدت استقلالها وأصبحت خاضعة للسلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية، التي حولتها إلى أداة لتصفية الحسابات السياسية وإسكات أصوات المعارضين، مما عمّق شعور الفلسطينيين بفقدان العدالة وغياب النزاهة.

في ظل هذه الظروف المعقدة، أصبحت السلطة التنفيذية تجمع بين كل السلطات. لكنها لم تُدر بمنطق مؤسساتي يخدم الشعب الفلسطيني وقضيته، بل خضعت لهيمنة الأجهزة الأمنية التي التزمت بتوجيهات دايتون، وأصبحت المحرك الرئيسي للقرار السياسي والاجتماعي. هذه الأجهزة صادرت الحريات العامة، قمعت المعارضة، وضيّقت على حرية التعبير، التي كانت دائمًا من أبرز سمات النضال الفلسطيني. استُهدفت الأصوات الحرة بالقمع وحتى بالاغتيال السياسي، كما حدث مع الناشط نزار بنات.

الإعلام، الذي يُعرف بالسلطة الرابعة، لم يسلم من هذا التآكل. بدلاً من أن يكون أداة رقابة مستقلة تعبر عن هموم الشعب الفلسطيني، تحول الإعلام الرسمي إلى منصة تخدم سياسات الرئيس وحاشيته. غياب الإعلام الحر أفقد الفلسطينيين واحدة من أهم أدوات المقاومة السلمية، التي كانت ضرورية لنقل معاناتهم وكسب التأييد الدولي لقضيتهم. ووصلت الأمور إلى حد حظر كلمة “المقاومة” في الإعلام الرسمي، بينما تم منع قناة الجزيرة من العمل داخل الأراضي الفلسطينية، في محاولة لإسكات الأصوات الناقدة وحرمان الشعب من أداة تكشف الحقيقة وتفضح الانتهاكات.

في ظل هذه المعطيات، تبدو الأزمة في النظام السياسي الفلسطيني أعمق من مجرد تآكل السلطات الأربع. إنها أزمة انحراف عن المسار الوطني، وتحول السلطة إلى كيان يعمل ضد الشفافية والنزاهة والديمقراطية ويمنع كل أشكال المقاومة. كان من المفترض أن تُبنى المؤسسات الوطنية بعناية لتكون أداة تخدم الشعب وقضيته، لكنها بدلاً من ذلك أصبحت قوة تُكرّس الانقسام وتُضعف المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال.

السؤال الذي يظل مطروحًا: هل هناك إرادة وقدرة لتصويب هذا الوضع؟

إصلاح هذا الوضع يبدأ بإعادة بناء المؤسسات الوطنية على أسس ديمقراطية انتخابية ونضالية. استعادة المجلس التشريعي من خلال انتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني شاملة وحرة، وتعزيز استقلال القضاء ليكون ملاذًا للعدالة، وإصلاح الأجهزة الأمنية وتغيير عقيدتها لتعمل في خدمة الشعب، وإطلاق حرية الإعلام لتكون وسيلة للرقابة الشعبية، كلها خطوات أساسية لا يمكن تجاهلها. لكن الأهم هو إعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية وطنية تمثل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وتعيد توجيه المشروع الوطني نحو هدفه الأسمى: التحرير والعودة.

تآكل السلطات الأربع في فلسطين ليس أزمة داخلية فحسب، بل يشكل تهديدًا وجوديًا للمشروع الوطني الفلسطيني. لا يمكن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي دون مواجهة التحديات الداخلية أولًا. الشعب الفلسطيني يستحق قيادة ومؤسسات منتخبة تعكس تطلعاته النضالية وتعمل على تحقيق أهدافه. إعادة بناء النظام السياسي ليست مجرد ضرورة، بل هي الخطوة الأولى نحو تحرير الوطن واستعادة الحقوق الوطنية.

من مشروع تحرر إلى سلطة بوليسية تحت الاحتلال – بقلم: اياد عبد العال

4 كانون الثاني 2025