من يوميات الحزن العربية – د. مصطفى يوسف اللداوي
لا أستطيع أن أخفي حزني الشديد هذه الصباح، ولا أن أتظاهر بعدم الألم والأسى، رغم أن الحدث لا يمسني، والمصيبة لا تطالني، والخسارة لم تلحق بي، فلست أمامها إلا مستمعاً، ولها ناقلاً، وأمامها عاجزاً، إلا أنها مست الضمير، وجرحت النفس، وآلمت القلب، وجعلتني أقف حائراً أمام مصيبةٍ قد تفوق عند البعض مصيبة الموت، وكارثة الفقد، وإن كانت في مالٍ يعوض، وفي المادة الفانية لا في الروح والحياة الغالية.
فقد ألمني جداً اليوم ما حدث مع رجلٍ شاميٍ مسنٍ من سكان دمشق، أعرفه منذ فترة، يبكي الشام، وتدمي عيونه ما أصابها، وينفطر قلبه لما حل بها، وهي التي كانت آمنة مطمئنة، وادعة كريمة، ويحزن على دمشق القديمة، ذات البساتين والدور، والمحلات والمتاجر، والأسواق والمعامل، التي قضى فيها جل عمره، وسنوات حياته التي باتت تذوي مع الأحداث أكثر.
فبينما كان في طريقه من دمشق إلى بيروت، وكان يحمل معه مبلغاً من المال، يرغب في أن يحوله لبناته الثلاث المقيمات في تركيا، والراغبات في الهجرة هروباً من جحيم الأحداث الجارية في سوريا، وقد أكرمهن الله بتأشيرةٍ وقبولٍ في ألمانيا، التي أبدت الاستعداد بقبولهن لاجئاتٍ على أرضها، فسعدن بالقبول رغم أن حنينهن يبقى للشام، وحبهن لأهلها لا ينقطع، إلا أن جحيم الحرب، وأتون القتال أجبرهن وغيرهن على المغامرة والرحيل، علهن ينجن من موتٍ محقق، أو من مصيبةٍ أكبر.
كان الرجل الذي لا ولد عنده غير بناته اللاتي يحبهن ويكرمهن، ويتفانى من أجلهن، ويضحي بغاية ما يملك لإسعادهن، وضمان مستقبلهن بأمنٍ وسلامة، يرغب في أن يحول لهن مبلغاً من المال، ليكون لهن ومعهن عوناً في غربتهن القادمة، فجمع ما عنده، وحزم كل ما يملك، وباع ما يشترى، وتمكن في نهاية مطاف البحث والسعي أن يوفر لهن ما يظن أن يكفيهن ويساعدهن، ولا يجبرهن على السؤال الذليل، والحاجة المهينة.
سيارته خربة، قديمةٌ صدئة، ربما ليس لها طراز، ولا تاريخ انتاج، فهي تلافيق مجمعة، وألواح حديدٍ متلاحمة، ودواليب مهترئة، تشكل أخيراً سيارةً طويلة، وكأنها من انتاج خمسينيات القرن الماضي، تتحرك ببطئ، وتمشي على استحياء، تخافها السيارات الأخرى وتهابها، فهي حديدٌ لا أكثر، تؤذي من اصطدمت به، وتلحق ضرراً بمن حاول أن يقترب منها.
في سيارته كل شئ يخطر على البال، فيها الخبز والماء، والزيت والزيتون والزعتر، والبندورة والفلفل والخيار، والملح والشاي والسكر والقهوة، والغاز والموقد والولاعة، وبعض الملابس والقليل من الفاكهة والحلوى، وفيها حبالٌ وأسلاك، وحقائب قديمة وأوراق مبعثرة، وغير ذلك مما لا يخطر على بال القارئ أو يتصوره السامع.
على الحدود أوقفوه وسألوه ماذا تحمل، فأجابهم على الفور ما ترون وتجدون، فقالوا له بحزمٍ وشدة، وقسوةٍ وعنفٍ، في جيبك ماذا تحمل من المال، وفي سيارتك أين تخفي الدولارات، فأومأ إليهم الرجل بلا خوف ولا قلق، أحمل دولاراتٍ لبناتي، فهن في الغربة وفي حاجةٍ إلى المال.
أنزلوه من سيارته، أعطاهم ما يحمل من مال، فتشوه ونقبوه، وقلبوه وأهانوه، وأخرجوا من جيوبه الكثيرة كل ما يملك، وجمعوا من بين أثوابه كل ما كان يجمع ويدخر، ثم سألوه ماذا تحمل أيضاً، وماذا تخفي وأين، أخرج ما معك وإلا، فأجابهم بسهومٍ ووجومٍ، وحزنٍ وألم، كل ما أملك هنا وفي بيتي وداري، قد أصبح بين أيديكم، لا أخفي شيئاً آخر، إذ لا يوجد عندي ما أخاف عليه غير ما سلمتكم إياه.
اقتادوه بسرعةٍ وعلى عجل إلى الضابط المأمور، الذي ما إن علم بقصته وعرف حكايته حتى انتفض واقفاً وعاجله بالاتهام، أنت مهرب، أنت تبيض الأموال، ونادى على شرطيٍ وأمره بتقييد يديه من الخلف، وهو الرجل العجوز المريض، وقد زاد في ألمه ووجعه أنه بدينٌ قليل الحركة، ويعاني من أوجاع عدة.
أبقاه الضابط الذي كانت عيناه تلمعان، ولعابه يسيل، والأفكار في رأسه تتلاطم بفرح، إلى جواره ساعاتٍ طويلة، ينظر إليه ويخوفه، ويسأله ويهدده، أنت إرهابي، تهرب الأموال للإضرار بمصالح الدولة، والعبث باقتصادها، وتخريب مستقبلها، ولذا يجب أن تسيَّر مخفوراً إلى المركز في العاصمة، وهناك ستعرف كيف تتحدث، وستخبرهم عن كل شئٍ عندك.
كرر الضابط بصخبٍ وبصوتٍ عالي، وبضرباتٍ متوالية بقبضة يده على الطاولة، تهديده للرجل العجوز بأن يسيره إلى المدينة، وكان قد قيده وأوجعه، وهيأه وجهزه، ونهره وزجره كثيراً، وكأنه بعد قليلٍ سيمضي إلى حتفه، ولكن الرجل الذي يعرف ماذا يعني السجن في هذه الأيام بالذات، وما هو مصير السجناء ومستقبل المعتقلين، أخذ يتوسل إلى الضابط ليرحمه، وطالبه بأن يفهم مقصده، وأن يقدر حاجته، وأنه رجل لا يحتمل السجون، وأن بناته ينتظرنه وهن في حاجة إلى المال، وأنه لولاهن لما انتقل من الشام إلى بيروت.
نظر إليه الضابط الأريب، صاحب الخبرة الكبيرة واليد الطويلة الموجعة، وخيره بين المسير بصمتٍ إلى بيروت، أو العودة بالقوة مكرهاً إلى الشام، ونظر إلى عيني الرجل العجوز، وكأنه يبحث فيها عن حكمة السنين، وتجربة الأيام، والرأي السليم الأمين.
فقال له الرجل بأسى وقد فهم مراده، وعلم قصده، بل أريد أن أواصل طريقي من أجل بناتي، فأشاد الضابط بحكمته، وقدر عقله وتفكيره، وفك قيوده، ونزع من يديه الأغلال، وأجلسه على كرسيٍ إلى جانبه، ودعا له بفنجانٍ من الشاي الساخن، ثم سلم عليه وودعه، وأمر عناصره بمساعدته والوقوف معه، بعد أن تحسس جيبه، واطمأن إلى أن نصف مال الرجل الذي تخلى عنه “طوعاً” قد بات فيها، فلوح للرجل المسكين بيده مودعاً، متمنياً له سلامة الرحلة، وعاجل الوصول، وهانئ الإقامة.
حائراً وجدته، مهموماً يكاد يبكي، حزيناً يريد أن يصرخ، غاضباً وكأنه سينفجر، لكنني صامتاً تركته، هائماً ودعته، رغم أنه كان فرحاً بنصف المبلغ الذي بقي، وبالأمل الذي عاد، وكأنه قد نجا مصيبة، وعاش من بعد موت، واستعاد الرجاء من بعد يأسٍ به قد حل.
وآ أسفاه ….
29/12/2014