مهند النابلسي: الثقب الأسود
أفضل وسيلة لتحقيق أحلامك هي أن تستيقظ .. (الشاعر الفرنسي بول فاليري)
فكر في “فتاة الحاسوب”. كان فيها شيئا من الجاذبية الساحقة كالثقب الأسود. أشعرته برغبة في أن يحيا في مجالها. أحس وكأنها تسربت خلسة إلى مشاعر ، فأنهكته وجعلته يبحث عن مكان سري في أعماقه يختلي فيه، ليبحث عن وجوده الحقيقي، فقد شعر أنه في وضع زائف. أوقعته تلك الحسناء في حالة فريدة من ” فقدان الجاذبية”، فأصبح كرواد الفضاء داخل سجن مركبتهم، يتطايرون هنا وهناك، وأصابه الرعب من فكرة أن تتدلى حياته إلى لا حياة على الإطلاق تقريبا.
غادر المبنى، وركب سيارته ورأسه يدور من صداع شديد، ولكن الهواء النقي البارد قليلا المندفع بلطف عبر نافذة السيارة أنعشه. فتح المذياع فسمع أغنية قديمة جميلة ذات حنين عتيق ذكرته بطفولته وأمه وأبيه وإخوته، ولمعت في ذهنه ذكريات حديقة تعج بالورود والزهور وفيها بركة صغيرة تسبح فيها أسماك صغيرة ملونة ، وتذكر روائح الياسمين، وبرق في ذهنه المكدود حنين جارف لزمن جميل مضى كله براءة وجمال وطهارة.
نام عميقا بدون أحلام. لقد افتقد حتى الحلم الذي كان يعتقد بأنه سيفسر له ما حدث.
ما أن دخل مكتبه في صبيحة اليوم التالي، حتى قرر ألا يفت ما حدث في عضده، وعليه أن يتمالك أعصابه وأن يواجه العالم بأقصى قدر من الثقة بالنفس: الآن لا مزيد من الخوف، لا مزيد من الرعدة وانقباض البطن، لا شيء إلا الثقة الهادئة. ثم فضل ألا يفكر بشيء مرتبط بما حدث حتى يستعيد توازنه، وسره أن يعبق المكان على نحو بهيج برائحة سيجار معطر وقهوة طازجة (وإن كان لا يدخن). واستوحى من ذلك ومن ذكريات طفولته طاقة مؤقتة عززت ثقته بنفسه مرة ثانية. ثم لاحظ أو هكذا بدا له أن المسطرة الفولاذية لم تكن “منحنية” كما توقع.
رن جرس الهاتف على مكتبه، وكان رئيسه على الخط:
“هل تستطيع أن تأتي لمكتبي لأعرفك على مساعدتك الجديدة؟”
بدأت نبضات قلبه بالتسارع، وما أن دخل المكتب حتى أصيب بالذهول من وقع المفاجأة :
“أعرفك على مساعدتك الجديدة. المهندسة نورا: خبيرة البرمجة التي ساهمت سابقا بتطوير الحاسوب الضوئي، لقد طورت عدة برامج رائعة. إنها بالحق مكسب لشركتنا”.
كان مديره يتحدث بطريقة تقريرية بحيث تفقد الكلمات وظيفتها الدلالية. واستطرد بنفس الأسلوب:
“أعتقد أنكما ستعملان معا بشكل جيد ومتوافق”.
لكنه لم يعد يصغي، كان ذهوله وارتباكه باديين، وهي تنظر إليه بنفس الابتسامة التي لم ينساها بعد. إنها نفس الفتاة التي شاهدها بالأمس على شاشة الحاسوب وحدثته عن التقمص وتحريك الأشياء عن بعد. نفس عقد الزمرد. لقد ظهرت الآن بشكل آدمي تفيض حيوية.، كان جمالها يأخذ بالألباب، وأثارت أحاسيسه بنظراتها المعبرة وبشذى عطرها الباريسي الذي غزا كيانه.
لقد حركت تلك الجميلة مراكز البهجة الروحية في “لاوعيه”. وتخيل لوهلة شواطئ بحرية منعشة وأريج غابات خريفية، وتضمن سيناريو “حلم اليقظة” حصانا جميلا ينطلق إلى دغل ساحر، واستفسر بغرابة: هل هذه هي لحظات السعادة المركزة في الحياة، أم أنه الوهم بالسعادة؟
أفاق من حلمه مرهقا ، وفرح لأنه خرج من متاهة حلم سريالي مركب، واندهش من قدرات العقل البشري الكامنة وطريقة تركيبه للأحداث. واعتقد أن حلمه ربما يشبه شريطا سينمائيا رائعا، وفرح لمخزون الخيال المتدفق، ثم تفاءل من قصة “فتاة الحاسوب” ، واستغرب من وجود حلم داخل حلم.
جر قدميه للحمام، فتأمل وجها متجهما وغير حليق، فأصابه ذعر مؤقت، وبدا له وكأنه يشيخ بتسارع ، وتذكر أنه يجب أن يستعجل بالذهاب لعمله المتواضع كمدخل بيانات.
تذكر الإحباطات التي تواجهه في حياته وعمله، متمنيا لو يعود مرة ثانية للنوم والحلم هروبا من الواقع. وقد قرأ مرة أن الواقع لا يكون مثيرا إلا لثلاثة أنماط من الناس: الطفل والساذج والشاعر، مستدركا عبثية الحياة نفسها. وقد تذكر مقولة حكيمة: “افدح سخريات الحياة ألا يخرج أحد منها حيا”.