موازين القوى في الخليج: الحرب على الأبواب -منير شفيق
ثمة خطر حرب بين أمريكا وإيران، ويتحمل مسؤولية شنّ هذه الحرب، في حالة وقوعها، كل من دونالد ترمب ونتنياهو، وذلك لأن الأول يحاصر إيران إلى حدّ الخنق التام، والثاني يريد من أمريكا ويدفع بها أن تدخل الحرب
يريد الرئيس ترمب أن يأتي بإيران للمفاوضات والخضوع الكامل للشروط الأمريكية، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف، إما تراجعه وإما الحرب.
فإيران ترفض الشروط الأمريكية، ولا تسمح بحصارها إلى حد الخنق التامّ.
الشروط التي وضعها دونالد ترمب، وبصورة معلنة، لا تكتفي بتعديل ما في الاتفاق النووي كما أُعلن عند الانسحاب منه، بل أُدخل موضوع الصواريخ البالستية وتطويرها إيرانيّاً في دائرة الممنوعات تماماً كما القنبلة النووية، وذلك لأهميتها الاستراتيجية في مستقبل موازين القوى العسكرية مقابل الكيان الصهيوني.
ثم استجدّ شرط ثانٍ لا يقلّ أهمية، هو منع إيران، المتعاونة مع القيادة السورية، من زرع صواريخ في سوريا تكمل حلقة الصواريخ الممتدة من قطاع غزة ولبنان.
إن الاستراتيجية الدولية، وأساساً الأمريكية، منذ إقامة الكيان الصهيوني إلى اليوم، تمثلت في إبقائه في حالة تفوُّق عسكري كاسح على كل الجيوش العربية، ومن ثم التحكم في التسليح الدولي عربياً تحت سقف يحافظ على هذا التفوق، ولا يُخِلّ به قيد أنملة أو قيراطاً، وذلك فضلاً عن ضمان تحالف تركيا الأطلسية وشاه إيران مع الكيان الصهيوني.
للحروب التي تعرضت لها البلاد العربية أسباب عدة (مثلاً التوسع الصهيوني أو منع وحدة العرب أو نهوضهم).
ولكن السبب الرئيس والأهم الذي كمن وراء كل تلك الحروب هو الحفاظ على التفوُّق العسكري الصهيوني الكاسح، ومن ثم الحيلولة دون أي محاولة عربية لكسره، ولو جزئيّاً، في المدى القريب أو البعيد.
فالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كان بالدرجة الأولى ومباشرةً بسبب كسر مصر حصار التسلُّح ولو جزئيّاً، وحرب حزيران/يونيو 1967 كانت لضرب حركة التحرر العربي للحيلولة دون تقدُّمها، ولو بخطوات متواضعة لإحداث تغيير في معادلة ميزان القوى العسكري.
ولم تكن حرب حزيران/يونيو على لبنان في 1982 إلّا في إطار وقف استنزاف القدرة العسكرية الصهيونية من خلال المقاومة الفلسطينية.
ويجب أن يوضع ضمن هذا الإطار الحربان اللتان شُنَّتَا على العراق 1991 و 2003. وكان السبب رجوعه من الحرب العراقية-الإيرانية بجيش تعداده يقارب المليون، وبتسليح تعدّى المسموح به دوليّاً لجيش عربي، فطُلب منه أمريكيّاً العودة بالجيش إلى ما قبل 1980. وقد تُوّجت حرب 2003 بحلّ الجيش العراقي، لا بتحجيمه والسيطرة عليه فقط (طبعاً ثمة أسباب أخرى، ولكن تركيزي الآن على ميزان القوى العسكري).
يجب أن يُدرك بعمق ما معنى التفوّق العسكري الصهيوني، ليس في تكريس اغتصاب فلسطين ونتائجه فحسب، وإنما أيضاً في إبقاء البلاد العربية تحت السيطرة والإذلال، والحيلولة دون نهوضها وتقدُّمها.
في ذات السياق يمكن اعتبار ما يجري الآن من حصار خانق وإعداد للحرب ضدّ إيران مرتبط مباشرة بما أحدثته إيران من تطوُّر عسكري على مستوى قدراتها الذاتية كما على مستوى المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، ولا سيما اللبنانية، وبما يحدث من تطوُّر صاروخي في سوريا الآن.
وقد وصل هذا التطوُّر في تأثيره في معادلة ميزان القوى العسكري مقابل الكيان الصهيوني إلى مستوى لم يسبق له مثيل، مقارنة مع التجارب العربية السابقة التي استدعت ما شُنّ عليها من حروب كانت قاسية وقاصمة للظهر.
على أن الفارق بين هذه الحرب والحروب السابقة لا يقتصر على ما حدث من إخلال عسكري في ميزان القوى في غير مصلحة الكيان الصهيوني، وإنما أيضاً ما حدث من تغيّر في ميزان القوى العالمي الراهن في غير مصلحة أمريكا، وما أصابها من ضعف وترهُّل وقيادة مهتزَّة.
وهذه الحالة الأخيرة يشاركها فيها الكيان الصهيوني الذي لم يعُد جيشه الراهن، وإن كان أفضل سلاحاً، كما كان سابقاً إبان شنه حروبه السابقة ضد العرب.
الحروب السابقة كانت أشبه بالحروب الاستباقية للمحافظة على التفوّق العسكري السائد. لهذا كانت سهلة وفي متناول اليد، وتمتلك زمام المبادرة.
أما الحرب الحالية فسَمْتُها استعادة التفوّق العسكري الكاسح الذي فُقِدَ، وحلّ محلّه معادلة جديدة، في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني، بما في ذلك على المستوى التركي والروسي والصيني.
لذلك ستكون الحرب الحالية ضدّ إيران، صعبة وخطرة وغير مضمونة النتائج، وهذا ما جعل حكومة الكيان الصهيوني تسعى لتتولى أمريكا مسؤولية الحرب وحدها إن أمكن.
وهذا ما جعل أمريكا في حالة تردُّد وراغبة في الحوار. ولكنها في وضع متناقض، فهي من جهة تتبنى سياسة حصار خانق حتى آخر مدىً مما يتناقض مع عدم الرغبة في الحرب، أو في الأدقّ مما يجعل الحرب على الأجندة وقابلة للاشتعال، لأن إيصال إيران إلى الاختناق بالحصار يعني اشتعال الحرب لا محالة ما لم تتراجع أمريكا، في الأقل، إلى سياسة حصار مخفف يمكن التعايش معه، لأن إيران بدورها لا تريد الحرب، ولكنها لا يمكن أن تقبل –
وهي قادرة- سياسة حصار واختناق إلى حده الأقصى.
من هنا يمكن تفسير حرص اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا على تشجيع التوسط وتخفيف التوتُّر وإعطاء فرصة للحوار أو المفاوضات.ولكن هذا لا يعني النجاح ما لم يتراجع ترمب عن سياسة الحصار الخانق إلى حده الأقصى.
من هنا يحقّ للعالم أن يتخوّف من انتقال المواجهة الراهنة إلى حرب، قد تكون أخطر من كل الحروب التي عرفتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك من حيث تأثيرها على الوضع العالمي، لا سيما سياسيّاً واقتصاديّاً، أو من حيث نتائجها مهما تكُن تلك النتائج التي قد تصل إلى ما هو غير تقليدي.
وبالمناسبة يأتي الطوربيدان اللذان خرّبَا السفينتين في بحر عُمان فجر الثالث عشر من حزيران/يونيو 2019 إنذاراً ورسالة إلى كل من يهمه الأمر، وبغض النظر عن الفاعل ومن يكون وماذا يريد، فإن الوضع في الخليج يجب أن يهدأ، وإلّا وقع ما لا تُحمد عُقباه.
فهذه الحادثة كانت بمثابة امتحان تجاه إمكان تجنُّب الحرب أو تأجيلها من جهة، ولكن ما دام الحصار مستمرّاً ومتصاعداً، ولم يتراجع دونالد ترمب، فما حدث للسفينتين يكشف خطورة الوضع المتوتِّر والمشتبك، ويحمل في طياته نُذُر حرب قادمة