ميزان القوى ومفاوضات القاهرة- منير شفيق
أدى تشكيل الهيئة العليا لإطلاق مسيرة العودة الكبرى في الثلاثين من نيسان/ أبريل 2018 إلى دخول الوضع الفلسطيني عامة، والوضع في قطاع غزة خاصة، في مرحلة جديدة تتسم بميزان قوى جديد لم يسبق له مثيل؛ في غير مصلحة الكيان الصهيوني.
تشكلت قيادة هذه الهيئة (الجبهة) من خلال حركة حماس والجبهة الشعبية وحركة الجهاد الإسلامي. وقد كوّن هذا الثلاثي عموداً فقرياً لوحدة شعبية واسعة، ضمت كل الفصائل الفلسطينية في القطاع، إلى جانب طيف واسع من قوى اجتماعية وشعبية وشبابية، مما أعطى لمسيرة العودة الكبرى، وما توّلّد من تداعيات داخلها وخارجها، بُعداً يمكن أن يكون بعيد الأثر في مستقبل القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وربما أبعد من ذلك.
كان محدداً، مبدئياً، في إطلاق مسيرة العودة الكبرى أن تستمر حتى الخامس عشر من أيار/ مايو في العام نفسه، مع إبقاء الباب مفتوحاً لاستمرارها أسابيع أخرى. وها هي ذي قد استمرت حتى الآن إلى حوالي أربعة أشهر تقريباً. وكان إنجازها على المستوى الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي أكبر من المتوقع، ولا سيما ما حدث من تداعيات على مستوى القطاع، من إطلاق الطائرات والبالونات الهوائية، وما حملته من نيران، إلى جانب مواجهات عسكرية بالصواريخ والمدفعية كادت أن تتحول إلى حرب واسعة.
إطلاق مسيرة العودة الكبرى ذات الطابع الانتفاضي الشعبي السلمي شكل استراتيجية وتكتيكاً موازيين ومتكاملين؛ مع استراتيجية وتكتيك المقاومة المسلحة وانتصارها في ثلاث حروب (2008/2009 و2012 و2014).
إطلاق مسيرة العودة الكبرى ذات الطابع الانتفاضي الشعبي السلمي شكل استراتيجية وتكتيكاً موازيين ومتكاملين؛ مع استراتيجية وتكتيك المقاومة المسلحة وانتصارها في ثلاث حروب
هذه الاستراتيجية الانتفاضية الشعبية بعد أسبوعين من انطلاقها؛ جعلت أحد القادة العسكريين في جيش العدو يصرح بأنها “وجهت ضربة قاضية لسمعة إسرائيل في الرأي العام العالمي”. وهذا البعد المتعلق في موقف الرأي العام العالمي ضد الكيان الصهيوني، له تأثير تكتيكي هائل، في غير مصلحة حكومة نتنياهو والجيش الصهيوني. وقد يكون له في المستقبل إذا ما تطوّر، أكثر، في هذا الاتجاه، تأثير استراتيجي في غير مصلحة وجود الكيان الصهيوني في فلسطين.
كان أول تداعٍ منذ الأسبوعين الأوليْن لإطلاق مسيرة العودة الكبرى، ما أظهره شباب مسيرة العودة الكبرى وشاباتها من شجاعة وإقدام وتضحيات. وقد ارتقى عشرات الشهداء وسقط آلاف الجرحى، مما كشف عما يختزنه هذا الشعب من طاقة كفاحية هائلة، وما يتسم به العدو الصهيوني من أحقاد ومخزون إجرامي؛ كشف عنه ما أطلق من رصاص حي ثم من صواريخ، ثم تتويج ذلك بإصدار قرار “الدولة القومية اليهودية”: الاقتلاعي- الإحلالي، والعنصري إلى ما يصل حدّ حرب الوجود.
على أن التداعي الثاني جاء من الإبداع الشبابي في تحويل طائرات اللعب الهوائية ثم “البالونات” الطيارة، إلى حاملات لهب تُحدِث كل يوم حرائق في المستوطنات المحيطة بقطاع غزة. وقد أنزلت بالعدو رعباً وخسائر فادحة، واستعصى عليه مواجهتها. أما الأبلغ، فعجز العدو عن مواجهتها بالحرب، فاحتملها بذلٍ ومهانة لأشهر، وهو الذي كان في ما مضى يحرق قرية من أجل تهريب بقرة، أو كان يشن حرباً واسعة إذا ما تعرض لما هو أقل عشرات المرات، مما تعرض له عن طريق هذه الطائرات والبالونات.
صحيح أنه حاول التهديد باستخدام القوّة المسلحة ونقل الصراع إلى البعد العسكري المحدود، ولكنه هنا فوجئ بتحدٍ من قبل المقاومة المسلحة إلى مستوى وصل إلى أن ترد بعدد من الصواريخ والقذائف، مقابل كل غارة أو صاروخ، مما فرض خلال شهرين تقريباً معادلة اشتباك قَبِلَ بها، مع كل وساطة مصرية لوقف إطلاق النار؛ معادلة تمثلت بصواريخ مقابل كل الصاروخ، وبالقنص مقابل القنص، وبالدم مقابل الدم.
هذه المعادلة التي قَبِلَ بها العدو الصهيوني في عدد من اتفاقات وقف إطلاق النار، وما زالت هي التي تحكم مفاوضات وقف إطلاق النار التي جرت مؤخراً في القاهرة، تشكل تطوراً نوعياً في المواجهة العسكرية بينه وبين المقاومة في قطاع غزة. هذا التطور في غير مصلحة الكيان الصهيوني، سواء أوُقّع اتفاق لوقف إطلاق النار أم لم يُوقع.
يخطئ كثيراً من لا يلحظ هذا المتغيّر في ميزان القوى، على أن هذا المتغيّر يكشف بُعداً أخطر منه، وهو عجز العدو عن شن حرب شاملة على قطاع غزة. فما كان هنالك من سبب يمنع قيادة الكيان الصهيوني من حرب شاملة غير الخوف من نتائجها والفشل فيها.
إن احتمال العدو للحرائق على مدى ثلاثة أشهر، في الأقل، من دون أن يشنّ حرباً شاملة لوقفها، له مغزى، أي مغزى.
ومن هنا، فإن المفاوضات التي تخوضها فصائل المقاومة، ولا سيما حماس والجهاد والجبهة الشعبية، وبالوساطة المصرية، لا يجوز أن تخرج بناءً على ما تقدم من ميزان قوى على الأرض؛ إلاّ على أساس: (1) إنهاء حصار قطاع غزة إلى أبعد مدى، مقابل وقف الطائرات الورقية والبالونات حاملات اللهب، (2) وقف إطلاق النار على أساس ما تكرس من معادلة اشتباك مسلح، (3) استمرار مسيرة العودة الكبرى أسبوعياً كما عبّرت عنه حتى الآن، مع التشديد على الاستمرار برفع راية حق العودة إلى جانب هدفيْن مباشريْن يجب التأكيد عليهما، وهما تحرير القدس والضفة بلا قيدٍ أو شرط.
إن استمرار مسيرة العودة الكبرى، وما يرمز إليه حق العودة الشاملة من تمسك بثوابت الحق الفلسطيني في كل فلسطين، أصبح أشدّ ضرورة بعد قانون الدولة القومية اليهودية، ورفضاً لسياسات دونالد ترامب الخاصة بالقدس، وما يسمى بصفقة القرن.
على أن تبني هدفيْ تحرير القدس والضفة الغربية، وبلا قيدٍ او شرط، يُعطي لمسيرة العودة الكبرى مشروعاً عملياً قابلاً للإنجاز، ويشكل أساساً لوحدة الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة؛ لأن الخطر الداهم المباشر الذي يتعرض له الوضع الفلسطيني، في هذه المرحلة الراهنة يتمثل باحتلال القدس والضفة الغربي، ومن ثم استيطان الضفة الغربية وتهويد القدس.
هذان الخطران (الاحتلال والاستيطان) يمكن أن يُدحرا بلا قيدٍ أو شرط، إذا ما تشكلت وحدة وطنية واسعة، كما في الهيئة العليا لمسيرة العودة الكبرى في قطاع غزة، ولا سيما إذا انضمت فتح لها، وذلك من خلال إطلاق انتفاضة شعبية سلمية شاملة في القدس والضفة الغربية، وبتلاحمٍ مع مسيرة العودة الكبرى المنطلقة في القطاع.
هذان الهدفان يُجمع العالم على أنهما عادلان، فالعالم بغالبيته الساحقة، دولاً ورأياً عاماً، يعتبر الاحتلال للقدس والضفة الغربية غير شرعي، ويعتبر الاستيطان عملاً إجرامياً من جرائم الحرب، ومن ثم ما ينبغي لأحد أن يساوم أو يفاوض في موضوعهما. والانتصار، بإذن الله، قادم إذا ما حملتهما وحدة وطنية فلسطينية، وباستراتيجية وتكتيك انتفاضة شعبية سلمية تواجه قوات الاحتلال والاستيطان، وتجعلهما أكثر كلفة على الكيان الصهيوني من كلفة الانسحاب وتفكيك المستوطنات.
إن ميزان القوى، كما عبرت عنه المواجهة في قطاع غزة، ومن قبلها انتفاضة تموز ضد البوابات الالكترونية في المسجد الأقصى، تسمح بدحر الاحتلال والاستيطان من القدس والضفة الغربية، وبلا قيدٍ أو شرط، وبعد ذلك لكل حادث حديث.