ميزان قوى ذاهب إلى معركة حاسمة – منير شفيق
قبل سنتين أو ثلاث سنوات، لو قلت للبعض إن ميزان القوى عالمياً وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً مال في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني، لاعتُبرتُ مهرطِقاً، أو متفائلاً جداً جداً، أو واهماً، أو حالماً. وكان مع أولئك البعض “حق” من جهة، أو عذر من جهة أخرى، وذلك لأن تطورات الأحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت تؤكد أن ميزان القوى العالمي يميل في مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني. وإذا حدث اختراق هنا أو هناك، فسرعان ما يُعالج بالحصار حتى الخنق، إن لم يُعالج بلغة الطائرة والمدفع، أو الانقلاب العسكري.
ولهذا رسخ، بعد تجارب ووقائع، أن أمريكا هي القوّة الأولى التي تتحكم بالعالم، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، وتهافت الدول من العالم الاشتراكي، أو دول عدم الانحياز، للارتماء بأحضانها. وما بقي في العالم من دولة، غير إيران، لا تعترف بالكيان الصهيوني، حتى الثورة الفلسطينية التي قادتها فتح وفصائل م.ت.ف سلمت قِيادها لاتفاق أوسلو، بشكل أو بآخر، والذي لم يعترف وعد بالاعتراف إذا قامت دويلة فلسطينية ضمن شروط حل الدولتين التصفوي. أي اعترف عملياً، وتخلى عن لاءات الخرطوم لعام 1967 (قرار قمة بيروت الذي سمّي “مبادرة السلام العربية”).
فكيف والحالة هذه يمكن أن يقتنع أولئك البعض (وهم كثر إن لم يكونوا الكثرة الكاثرة) حين يسمعون اليوم مقولة أن أمريكا تراجعت وفقدت هيمنتها السابقة، وأن الكيان الصهيوني تراجع، وخسر سطوته العسكرية السابقة حتى على مستوى الضفة الغربية التي تحت الاحتلال منذ حرب 1967، وتحت اتفاق التنسيق الأمني لعام 2007 (دايتون)؟
إنه لشيء طبيعي أن العقل والوعي حين يعتادان على أمر، وذلك بعد تكرار وتجربة، لا يلتقطان الجديد الذي يبدأ بالتكوّن حتى لو حمل معه عدداً من الأدلة والوقائع التي تخالف ما تعوّدا عليه. إنها صفة المحافظة في العقل والوعي تحتاج لسنوات حتى يقتنع الوالدان مثلاً أن ابنهما أو ابنتهما خرجا من سنوات الطفولة والمراهقة وأصبحا لهما نداً.
الذين عاشوا تجربة ما قبل الخمسينيات من القرن العشرين لم يستطع أغلبهم أن يستوعبوا أن بريطانيا انتهى زمانها وأخذت بالتراجع، وأن أمريكا أخذت تحل مكانها. وقد امتد الوصول لهذا الاستيعاب طوال الخمسينيات، وربما إلى منتصف الستينيات لدى البعض.
خلال السنتين أو الثلاث الأخيرة حدثت تطورات صارخة تدل على أن ميزان القوى العالمي والإقليمي وفي فلسطين؛ أخذ يختل اختلالاً ملموساً في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني، علماً أن وقائع هذا الاختلال تعود في الأقل ابتداءً إلى عام 2000 عندما اندحر الاحتلال الصهيوني من جنوبي لبنان بلا قيدٍ أو شرط، وهُزم الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر في حرب تموز 2006 في لبنان. وتكررت هزيمته في قطاع غزة في حروب 2008/2009، و2012 و2014. وهزم الاحتلال الأمريكي في العراق 2009، فضلاً عما وصلته الجمهورية الإسلامية في إيران من قوّة ورفعة ونهضة، كما ظهر خلال السنوات العشرين الماضية.
طبعاً هنالك وقائع أكثر، وقعت في العالم وفي الإقليم، يمكن إيرادها، وتشير إلى بدايات التراجع الأمريكي ما قبل 2021. ولكن ما حدث من تطورات خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لا يُبقي لأولئك البعض حجّة في عدم الاقتناع بأن ميزان القوى أخذ يميل ميلاناً مقدّراً، في غير مصلحة أمريكا على المستوى العالمي والإقليمي، وفي غير مصلحة الكيان الصهيوني على مستوى المواجهة مع محور المقاومة، حتى على مستوى الضفة الغربية خصوصاً، وفلسطين عموماً. هذا ويمكن أن يؤرخ، مع بعض التجاوز، لهذا التطور ابتداءً من العام 2021، أي منذ اندلاع حرب سيف القدس، وانتفاضة مناطق الـ48، وتظاهرات الضفة الغربية، ومواجهة الاجتياحات في المسجد الأقصى.
لقد شكل قرار إطلاق حرب سيف القدس بداية مرحلة وحدة الساحات في مواجهة الاقتحامات للمسجد الأقصى، ولِما سينشأ من مواقع مقاومة مسلحة، شاهرة السلاح في مخيم جنين، ونابلس (عرين الأسود)، وتفشي ظاهرة هذه المقاومة على مستوى الضفة الغربية والقدس.
كيف يمكن أن يفسّر بعد حرب سيف القدس وانتفاضاتها، ما ظهر من عمليات مذهلة ومؤثرة في بئر السبع (غالب أبو القيعان)، وفي بني براك (ضياء حمارشة) ودوزنكوف (رعد الخازم) وما صاحبها من تعاطف شعبي هائل. والدليل مواقف أمهات الشهداء وآبائهم، كما الجنائز بأن الوضع أخذ يشهد ظاهرة جديدة: أفراد يخرجون من صفوف الشعب، وبقرار ذاتي، يعبّر عن الإرادة الشعبية وليس عن إرادة أفراد، بالرغم من ظاهرها الفردي. ثم لتلد ظاهرة المقاومة التي أشهرت سلاحها في مخيم جنين ونابلس وطولكرم، وعدد من المواقع الأخرى.
هذه الظاهرة ما كانت لتتشكل شعبياً وفردياً وجماعياً لولا ما حدث من مواجهات ومقاومات سابقة، وما حدث من تغيير في ميزان القوى العام، مما أشعر الشعب والمقاومين بأن العدو أصبح أضعف، ويمكن أن يُهجَم عليه، وبأن النتائج ستكون إيجابية، كما تعبّر عنه الجنائز، والموقف الشعبي العام. فما تتضمنه هذه الظاهرة، ولماذا نشأت في هذه الظروف بالذات، يدل على أن “العين الفلسطينية الشعبية والفردية طاحت بالعدو”، أي استقوت عليه، وهو ما يشكل ترجمة أخرى لميزان القوى الجديد.
إنه الانتقال إلى الهجوم خصوصاً إذا كان بقرار عفوي شعبي يعبّر، ولو من دون وعي نظري مسبق، عن ميزان قوى يسمح به. وهذا ما أثبته الواقع بالنسبة إلى الظاهرة وثباتها واستمراريتها وتعاظمها، بالرغم من أن ميزان القوى العسكري البحت في غير مصلحتها من حيث البُعد العسكري. فحساب ميزان القوى يجب أن يتعدى حسابات القوات العسكرية الصرفة، بالرغم من ضرورة أخذها في الحساب، مع إمكان التجاوز حين تتوفر مؤثرات في ميزان القوى غير القوات العسكرية. مثلاً تدخل عوامل التحلل والفساد والتناقضات والعزلة، كمؤثرات حتى على القوات العسكرية نفسها، كما حالة المناخ العام. فالعدو الصهيوني من حيث قواته العسكرية هي أقوى من أيّة مرحلة سبقت من حيث العديد أو الأسلحة، ولكن عوامل الاهتراء والتحلل تعاظمت عن ذي قبل، كما عوامل القوّة الأمريكية والغربية تزعزعت عن ذي قبل. فمثلاً قد لا يتحقق جسر جوي، كما حدث في حرب تشرين 1973.
هذا وتأتي هذه المعادلة الجديدة لتزيد الأمر سوءاً بالنسبة إلى العدو من حيث مستوى تخلف وجهالة وحماقة أفراد في الحكومة، وما تولّد من تناقض داخلي بين صفوف المستوطنين أنفسهم لا مثيل له. صحيح أنه لا فرق يذكر من ناحية موقف الطرفين من الشعب الفلسطيني، أو جوهر المشروع الصهيوني، ولكن ما بينهما من تناقض لدوافع أخرى، وأسباب أخرى تشكل عامل اهتراء داخلي هام، يصبّ في مصلحة المقاومة المسلحة والسياسية ضدهما. وهنا، يضاف عامل آخر له أهميته في احتساب ميزان القوى على أرض المواجهة الراهنة.
إن معادلة الصراع التي يتسم بها الوضع الفلسطيني على أرض فلسطين غير قابلة للعودة إلى الوراء، سواء عودة الاحتلال والصراع كما كانا في السابق، مع قطاع غزة أو في الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى، أم كان بالنسبة إلى العدو إذ سقط احتلاله عملياً للضفة الغربية، كما اعتماده على التنسيق الأمني، وسقطت محاولاته لفرض تقسيم للمسجد الأقصى، مما يعني أنه لا مفر من مواجهة شاملة.
إنها مواجهة على مستوى عالٍ لا يمكن أن تحصر في حدود فلسطين، ولا يمكن من جهة أخرى ألاّ تكسبها المقاومة والشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، مما سيقرر مصير الوضع لسنوات، ومما يفرض على جميع القوى من فصائل وتنظيمات سياسية ومجتمعية ومن أفراد ونخب أن تلتف حول المقاومة والشعب، في الضفة والقدس وقطاع غزة، وتتحد موضوعياً، كل من موقعه، لتتشكل أوسع وحدة ميدانية متجاوزة الصيغ والأشكال. وبهذا يجد العدو نفسه في مواجهة شعب موّحد في معركة تقودها مقاومة منتصرة.