مَنْ يحكم أميركا؟- مسعد عربيد
(مدخل الى فهم السلطة الحاكمة في الولايات المتحدة)
ملاحظة:
كتبتُ هذا المقال في حزيران 2013، وأعيد نشره اليوم أملاً في أن يلقي بعض الضوء على سؤال مَنْ يحكم أميركا في سياق فوز دونالاند ترامب بالرئاسة الأميركية لأربعة أعوام قادمة.
■ ■ ■
كل أربعة أعوام تدور الدورة وينتخب الشعب الأميركي رئيسه عبر انتخابات “ديمقراطية حرة ونزيهة”.
هكذا يقولون.
كل أربعة أعوام تقف البشرية مشدودة الى شاشات الاعلام منتظرة “المخلص” الجديد القديم.
هكذا صدّقنا.
كل أربعة أعوام، يتوه الأميركي، ويتوه معه العالم، في اكذوبة الديمقراطية الأميركية ودوّامة الخدعة الانتخابية وديمقراطية صناديق الاقتراع واللهاث وراء تفاصيل حملاتها الانتخابية التي تستحوذ على الكرة الأرضية وتستأثر باعلامها وأخبارها.
يتشدق المرشحون، خلال الحملات الانتخابية، بالشعارات البرّاقة والأنيقة والبرامج الانتخابية المتقنة لفظياً وخطابياً وبروباغندياً. وما أن تُعلن نتائج صناديق الاقتراع حتى نقع في أوهام الوعود الكاذبة التي حنث بها كل رئيس دون استثناء وعلى نحو اعتيادي ومتوقع… ومقبول.
هكذا دواليك تدور سنوات الزمن الأميركي، والعالم يركض وراءه باحثاً عن … وفي كل ما تقوله وتفعله أميركا وكأنه ال”باناسيا”.[1]
■ ■ ■
مع استثناءات نادرة، هيمن الحزبان الأميركيان الحاكمان (الديمقراطي والجمهوري) على السلطة في الولايات المتحدة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا.[2]
منذ أمد طويل وأطياف من أقصى اليسار الى أقصى اليمين تتجادل وتتجاذب حول طبيعة القوى الحاكمة في الولايات المتحدة. ومنذ عقود والأميركيون من أفراد وأحزاب ومنظمات سياسية واجتماعية، يجادلون إشكالية هيمنة هذين الحزبين على السلطات والمؤسسات الحاكمة (البيت الأبيض والكونغرس ومجلس الشيوخ وغيرها من مؤسسات الدولة).
محاولات عديدة لاختراق جدار احتكار هذين الحزبين باءت بالفشل ولم تقطف سوى ثمار الخيبة سواء على مستوى افراز المرشحين او صندوق الاقتراع، فمَن لا يملك الملايين للانفاق على الحملات الانتخابية، لن يحظى حتى بترشيح نفسه.
إذن، مَنْ يحكم أميركا؟
الحزب الديمقراطي او الجمهوري؟
أم الديمقراطي اليوم، والجمهوري في الدورة القادمة؟
أم أن الحزبين يتقاسمان غنائم الانتخابات والسلطة في المؤسسات الحاكمة.
ولكن … هل من فرق؟
فإذا كان الاقتصاد هو الذي يحدد المصالح، والمصالح هي التي تتحكم بالسياسية، فان وظيفة السياسة لا تعدو صياغة القرار والنطق بما يعبر ويمثّل هذه المصالح. وعليه، فهل الرئيس هو الذي يحكم أميركا أم الحزب أم الطبقة؟
■ ■ ■
سؤال آخر قبل الولوج الى موضوعنا: لماذا أميركا؟ فالانتخابات “الديمقراطية الحرة والنزيهة” ليست إدعاءًا أميركياً وحسب، بل هو زعم أغلبية الانظمة الحاكمة الغربية وغيرها في هذا العالم بما فيها الانظمة الاستبدادية والدكتاتورية؟
نخص الولايات المتحدة بهذا السؤال لانها (حكومةً ودولةً ومجتمعاً) سعت – بمحض إرادتها كما بأقوالها وأفعالها، بمصالحها وسياساتها، بحروبها واعتداءاتها الوحشية باكثر الاسلحة فتكاً وتدميراً في كافة أركان المعمورة، سعت إلى أن تفرض نفسها “سيدة الكون” وإلى بسط هيمتنها على عالمنا وشعوبه وموارده بكافة الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية (بما فيها الاحتلال العسكري المباشر وغير المباشر).
هذا هو جزء يسير من الاجابة على سؤال لماذا أميركا؟ ولعل أبلغ ما يعبر عنه هو قول شيوعي أميركي قديم: حتى تفهم ما تفعله الولايات المتحدة في هذا العالم، ما عليك إلا أن تستيقظ ذات صباح وتتخيل العالم من حولك بدون أميركا!
السياق التاريخي
في كتابه الشهير The Power Elite الذي صدر عام 1956، وصف عالم الاجتماع الأميركي ميلز (1916-1962) Charles Wright Mills النخب السلطوية بأنها مجموعة من الدوائر السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تشكل شبكة تتكون من مجموعات ذات نفوذ تشترك في المصالح وتساهم في صنع القرارات الكبيرة والهامة التي تترك آثارها على المجتمع باسره. بعبارة اخرى فان هذه النخب تتحكم بالقرارات المصيرية وتقرر بالأحداث الكبيرة التي تمر بها البلاد.
ورأى ميلز أن أساس العضوية في نخبة السلطة أي المكون الرئيس في تشكيل نخبة السلطة هو سلطة المؤسسات أي المواقع المؤثرة (صاحبة النفوذ) داخل المنظمات الخاصة والعامة. وقد تتكون هذه من آلاف الأفراد الذين يحتلون مراتب ووظائف عالية وحساسة في هذه المؤسسات. وينحدر أعضاء هذه النخب السلطوية الحاكمة، وفق ما يرى ميلز، من مصادر رئيسة ثلاثة وهي:
1) القادة السياسيون الذين يحتلون المراتب العليا في الحكومة (الرئيس، الوزراء الرئيسيون وكبار المستشارين)؛
2) أصحاب الشركات الكبرى؛
3) المراتب العسكرية العليا .
على الطرف الآخر من أطروحات ميلز، كان الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 ـ 1937) قد سبقه بأكثر من عقدين في تطوير مفهوم الهيمنة الطبقية التي كان لينين (1870 ـ 1924) قد طرحها في أوائل القرن العشرين (دكتاتورية البروليتاريا). فقد وسع غرامشي فضاء الهيمنة الطبقية ودلالاتها لتشمل المجتمع المدني والثقافة ودور المثقف. إلاّ أن أكثر ما يهمنا في سياق هذه المقالة، هو أن غرامشي هو الذي أسس للتمييز الواضح بين سيطرة الطبقة على المجتمع المدني، من جهة، وعلى الحكم السياسي أي “سلطة الدولة”، من جهة أخرى. وإلى غرامشي يعود الفضل في ترسيخ مفهوم السيطرة الطبقية والذي أطلق عليه مصطلح “الهيمنة” hegemony . أما “المجتمع المدني” فقد عرّفه غرامشي بانه مجموعات خاصة أو أهلية، تمييزاً لها عن تلك الحكومية او العامة الواقعة تحت سسطرة الدولة او ضمن ملكيتها. كما فرّق غرامشي بين هذا المجتمع المدني والمجتمع السياسي أي الدولة. ورأى أن هذين المستويين، المدني والسياسي، يتوافقان في ناحيتين هامتين: (1) الأولى، في الهيمنة أي سيطرة المجموعات ذات النفوذ على المجتمع؛ و(2) والثانية، في “السيطرة المباشرة” التي تمارسها من خلال الدولة ومؤسساتها القانونية.
النخب الحاكمة في الولايات المتحدة
ما زال موضوع النخب الحاكمة التي الولايات المتحدة موضوعاً خلافيّاً من حيث المصطلح والمضمون، إذ ليس هناك في الأدبيات أو الخطاب `السياسي الأميركي توافق على مصطلحات السلطة الحاكمة أو نخبة أو نخب السلطة (أو النخبة السلطوية Power Elite) أو الطبقة الحاكمة وعلاقة هذه القوى بالمصالح الاقتصادية وملكية وسائل الإنتاج الرئيسة في المجتمع، وهو ما يشكل في محصلته القوة الحاكمة. وغني عن القول، أن مصالح هذه النخب والقيادات لا تلتقي مع، ولا تمثل، مصالح الأغلبية من الشعب الأميركي وخصوصاً طبقاته الشعبية الفقيرة والمُهمشة.
موضوعنا، اذن، موضوع خلافي بامتياز ولا يخلو من التعقيدات الكثيرة من حيث المصطلح والمضمون. وقد امتد الجدل حوله، وما زال، على مساحة كبيرة من الجدل المزمن بين الأطياف السياسية والأيديولوجية في المجتمع الأميركي. لذا، فلا بد بدايةً من محاولة للوقوف عند بعض التعريفات التوضيحية:
1) النخبة: مفهوم نشير به إلى أقلية منظمة الى هذا الحد او ذاك، توجد في مجتمع ما وتستحوذ على القسط الأكبر من السلطان والنفوذ امام أكثرية تفتقر عملياً لأي سلطان. ويمكننا القول بوجود نخبة اقتصادية وأخرى ايديولوجية … وسياسية.
2) النخب المسيطرة: هي التي تحدد وتقرر المصالح التي تدافع الحكومة عنها، بمعنى ان سلطة الحكم الحقيقية ترقد في أيدي النخب المسيطرة، حتى عندما تكون النخب الحاكمة هي التي تسندها وتدافع عنها.
3) النخب السلطوية Power elite : تتكون من تحالف أفراد ومؤسسات وشركات حكومية وخاصة، مدنية وعسكرية، تتحكم بمراكز الثروة والسلطة السياسية، لتصبح اليغاركية حاكمة تجمع بينها مصالح مشتركة ونفوذ كبير في صنع القرارات الكبيرة والمصيرية.
4) السلطة السياسية: تقوم بإدارة الدولة سياسياً وإدارياً، ولكن ليس شرطاً أن تكون الإدارة السياسية هذه هي نفسها أو وحدها القوة الاقتصادية بما تتضمنه أساساً من علاقات الملكية والاستغلال.
5) أما الطبقة الحاكمة (الطبقة الرأسمالية الحاكمة) فيتداخل فيه معنيان:
الأول، الطبقة المسيطرة اقتصادياً والتي تضبط كافة جوانب الحياة الاجتماعية،
والثاني، مفاده انه كي يتسنى للطبقة المسيطرة ان تحافظ على نمط الانتاج القائم وشكل المجتمع واعادة إنتاجهما، فانه يتوجب عليها أن تمارس سلطة الدولة أي ان تمسك بنظام الحكم السياسي.
6) “الطبقة السياسية” political class: يظل هذا المصطلح كما هو واضح بعيداً عن التعريف العلمي والموضوعي إذ أنه يخلو من المضمون الاقتصادي أولاً، ويباعد ما بين السلطة الحاكمة والصراع الطبقي مع مصالح رأس المال أي مصالح الممسكين بالاقتصاد وبالتالي بالقرار السياسي.
الا انه على الرغم من اختلافنا مع هذا المصطلح ودقتة فانه ما زال واسع الاستخدام بين العديد من القوى السياسية والإعلامية والثقافية الليبرالية في الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال يرى ناحوم تشومسكي ان هذه “الطبقة” تشكل ما يقارب 20% من المجتمع الأميركي وهي فئة المُلقِنين والمتعلمين الذين يُناط بهم دور إدارة وسائل الإعلام وصناعة القرار فيها. ولعله يمكننا القول بأن هذه “الطبقة السياسية” موزعة أو منحدرة من عدة أصول طبقية (مثل البرجوازية الصغيرة والوسطى وغيرها)، وعليه فهي ذات ملامح متباينة وغير مستقرة مقارنة بالطبقات بالمفهوم الماركسي.
النخبة والطبقة… ما الفرق؟
بالرغم من أن السلطة الحاكمة في الولايات المتحدة تتكون من تركيبة معقدة، فانه من المفيد أن نشير إلى بعض الفروق الهامة بين النخبة والطبقة:
1) يكمن أحد أهم الفروق بين النخب السلطوية والطبقة الحاكمة، في أن الطبقة بشكل عام لا تمارس مهام الحكم مباشرة، بل تتجلى في أنشطة وأطياف متنوعة من المنظمات والمؤسسات والشركات، أما نخبة السلطة فتتكون من قادة وكبار موظفي هذه الشركات والمنظمات والمؤسسات.
2) تختلف النخب السلطوية عن الطبقة الحاكمة بانها تتميز باطر وتشكيلات تنظيمية تحصل هذه النخب من خلالها على ثروتها وسطوتها المالية.
نقد الفهم الطبقي للسلطة
لا يتفق الكثيرون مع الفهم الطبقي للسلطة كما ان كثيرين يختلفون مع ما تطرحه النظرية الماركسية في مفاهيم الطبقة والطبقة الحاكمة. ولا يقتصر هؤلاء الناقدون على عتاة الرأسمالية واليمين والمحافظين والليبراليين، بل كثيراً ما يتغلغل صفوف هؤلاء الناقدين مَنْ يصفون أنفسهم باليسار (الجديد منه والقديم) والعديد من المرتدين الماركسيين والشيوعيين.إلا ان جل هؤلاء الناقدين يتفقون على أن الفهم الطبقي للسلطة يعاني من خلل وعيوب في جوانب عديدة كثيرة أهمها:
1) يذهب بعض الناقدين إلى أن “سيطرة الطبقة” لا تُترجم اوتوماتيكياً الى “سلطة الدولة”، وعليه لا يجوز اعتبار الدولة كأداة للطبقة. حتى لو كانت هناك طبقة أو أطياف ومكونات طبقية في السلطة، فليست هناك طبقة حاكمة بمقدورها ان تفرض ارادتها على الدولة وأن تسخرها كأداة لها ولمصالحها.
2) ويرى بعض هؤلاء الناقدين، طبعا وفق مفاهيمهم السياسية وبما ينسجم مع مواقفهم الليبرالية وما لا يخرج على مصالح وسلطة البرجوازية، يرون أن النظام السياسي في الغرب بشكل عام ـ على ما فيه من تمايزات في أنظمة الحكم وأشكال الانتخابات ـ يتمتع بضمانات “وصمامات أمان” لحماية الديمقراطية. وقد أصبحت هذه الضمانات، حسب رأيهم، جزءًا من الحياة السياسية في الغرب الرأسمالي وتقاليدها وإرثها بل وآليات عملها. وعليه، فان هذا النظام (السياسي الغربي) قادر ـ بحكم طبيعته وبفضل المزاحمة السياسية والانتخابية بين قواه وأطرافه – أن يمنع الدولة من ممارسة سياسات متحيزة بشكل صارخ لطبقة أو فئة اجتماعية ما لفترة طويلة من الزمن.
3) يجادل بعض المفكرين في علاقة سيطرة طبقة ما (السيطرة الطبقية) بسلطة الدولة. فيؤكد بعضهم على ان الدولة تتمتع ب”استقلال نسبي”. ورأوا أن فكرة “الاستقلال النسبي” للدولة يجب ان تذهب الى الأبعد لأن للدولة، في السياق الدولي والعلاقات التنافسية مع الدول الأخرى، اعتبارات تتجاوز مصالح كافة الطبقات والفئات الاجتماعية.
4) أما آخرون فقد ذهبوا الى أبعد من ذلك ورأوا انه ينبغي فصل السيطرة الاقتصادية عن الحكم السياسي، وبهذا المعنى نرى أن ميلز قد فضّل مصطلح “نخبة السلطة” على ” الطبقة الحاكمة”.
خلاصة
هذا عرض سريع لمسألة معقدة: مَنْ يحكم أميركا؟ وبمقدورنا ان نخلص الى أن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة وفي السياق الرأسمالي الأميركي، تشكيلة معقدة ومركبة تتكون من عدة مكونات ونخب تتحكم بمواقع القوة والسلطة وتلتقي في مصالحها وخاصة في مجالات السياسة والاقتصاد (ملكية وسائل الانتاج في القطاعات الاقتصادية الأساسية) والثقافة، وتتوزع هذه البنية على:
ــ النخبة السياسية الإدارية في السلطة (السلطات التنفيذية والتشريعية وأجهزة الدولة ومؤسساتها القانونية والعسكرية والأمنية والاستخباراتية) ؛
ــ النخبة الرأسمالية المالكة أي التي تملك الصناعات المدنية والعسكرية والعديد من المرافق الاقتصادية والإنتاجية الكبرى؛
ــ النخبة الثقافية الأكاديمية الإعلامية؛
ــ نخبة الدين السياسي أي قيادات وكبار ممثلي المؤسسة الدينية