نابلس ترد على ترامب – عبد اللطيف مهنا
يوالي الكيان الاحتلالي في فلسطين الإفادة ما استطاع من فرص الانحياز الأميركي حد التماهي مع تفاصيل استراتيجيته التهويدية، وما توفره للمنحاز والمنحاز إليهم راهن الغيبوبة العربية من سانحة استفراد بالشعب الفلسطيني، يعززها وجود سلطة تحت احتلال ورهينة لخيارها التسووي الوحيد…حتى اللحظة لم تقدم على تنفيذ واحدة من تهديداتها المزمنة والمكرورة، باستثناء صمودها حتى الآن على رفض استقبال بنس، معلقةً احتمالات تنفيذها على مشجب انعقاد المجلس المركزي بعد يومين، والذي سبق وأن قرر ما قرر ولم ينفَّذ، ومن ضمنه وقف “التنسيق الأمني” مع المحتلين والذي لم يتوقّف.
ومع أن تهديداتها، لو افترضنا أنها نُفّذت، تظل المحدودة المردود قياساً بالخطر التصفوي المحدق بالقضية، كاللجوء للأمم المتحدة، والانضمام إلى هيئاتها، والذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية، فما هو جدوى هذا مع بقاء انعدام قدرتها ورغبتها في القطيعة مع المسار التسووي التصفوي، والذي اثبتت لها الأيام الأخيرة أن ما من احد لجأت إليه يريد منافسة الأميركان على احتكار رعايته، وأن لا من أحد يتحكَّم في خطواته سوى نتنياهو.
هناك جملة من المعطيات التي لا تدع مجالاً لتعويل على مستجد في مواقفها من شأنه أن يغيّر من حالها نهجاً ودوراً ومآلاً، ومنها، مواصلة “التنسيق الأمني” مع الاحتلال، والإماتة السريرية المتعمَّدة للمصالحة، وربما اقتراب دفنها غير المعلن، ما لم يتدخَّل راعيها المصري، الذي يبدو، على خلاف ما كان عليه في بدايتها، متفرجاً، أو ليس في عجلة من أمره…ويكفي أنه لم ترفع العقوبات عن الغزيين، والتهرُّب من مستوجب عقد الإطار القيادي المنوط به اصلاح المنظَّمة.
في تعليق لها على التوجُّهات الأميركية اللاحقة على اعلان القدس عاصمة للكيان الاحتلالي ونقل السفارة إليها، كقطع المساعدات عن السلطة وحجبها عن الأونروا، تقول صحيفة “هآرتس”، إنه “عندما يتم فحص تهديدات ترامب الأخيرة سويةً مع القانون في الكينيست بشأن القدس وقرار الليكود بشأن ضم الضفة الغربية، يصعب الهرب من الشك بأن الأمر يتعلق بمؤامرة عابرة للأطلسي لتفكيك السلطة وإلغاء حل الدولتين نهائياً”.
هذا الكلام جزمنا به سابقاً ولم نشك فيه وفعلها غيرنا، لكنما ها هم يقولونه بأنفسهم، وإجراءاتهم المتواترة تعززه وتقطع شك “هآرتس” باليقين. مثلاً، تسريباتهم المتعمَّدة باعترافهم أنهم قد اعدموا ميدانياً 201 فلسطينياً منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في التاسع عشر من الشهر قبل الأخير عام 2015، هذه التي القصد منها التمهيد لتمرير قانون اعدام الفدائيين الذي سيعرض قريباً على الكينيست، والمصادقة على بناء 1285 وحدة تهويدية في الضفة، إضافة إلى 2500 أخرى سبق وإن أُقرّت، وفي عشرين مستعمرة ، وازماع بناء “احياء كبرى” في المستعمرت المدن، مثل “أريئيل”، و”عمونوئيل” وسواهما، بل والبناء في بؤر استعمارية ثانوية قضت محاكمهم بوجوب اخلائها!
هناك هجمة تهويدية يرافقها فجور قمعي احتلالي متعددة الأوجه. اعتقالات تتسم بالعشوائية والشمول لكل من يشكّون في كونه قد يشكل خطراً أمنياً عليهم، بما فيهم الأطفال، وتقتيلاً بدموية عرفت عنهم في مواجهتهم للمنتفضين، ناهيك عن هدم البيوت وتشريد ساكنيها، والتنكيل بأسر الشهداء، بل والآن بدأت المطالبات بطردها، والزيادةً القياسية في الاجتياحات الاستفزازية لباحات الحرم القدسي، وكيل التهديدات لغزة المحاصرة.
هذه الهجمة وهذا الفجور يستمدان زخمهما من ذات المؤامرة عابرة الأطلسي التي تحدثت عنها “هآرتس”…وهنا نعود لنكرر ما كنا قد اشرنا إليه في مقال سابق، من أن المحتلين لم ولن يتركوا فرصةً لا يستغلونها للإجهاز على القضية الفلسطينية، ولن يدخر الأميركان، والغرب عموماً، جهداً لن يبذل لمساندتهم.
إنها واحدة من قوانين الصراع عندهم، ومنذ أن كان، كما وأن الواقع العربي، ومن أسف، لا من خير يرتجى منه على المدى المنظور، ويمكن سحب هذا تلقائياً على الحال الفلسطينية في آسارها الأوسلوية…لكنما هناك ما يغفل عنه الكثيرون ومن شأنه أن يفاجئهم عادةً، وظل على مدى عقود الصراع من فرائد الملحمة الكفاحية للشعب العربي الفلسطيني في مواجهته المستمرة للهجمة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية على وطنه التاريخي، ونعني قدرته النضالية الإعجازية المبادرة دوماً، وفي مختلف المحطات المصيرية، على مفاجأة الجميع، الأعداء والأصدقاء، بل والنخب والفصائل الفلسطينية أيضاً.
نحن هنا لانتحدث عن اسطورية الصمود والتضحيات، واستشهادية المواجهة، وبطولية العناد الكفاحي، وإنما عن قدرته دائما على ابتداع اساليبه وأدواته الكفاحية المتوائمة والمتكيّفة مع قدراته وظروفه الصعبة واختلال موازين القوة لصالح عدوه واستفراده به…العملية الفدائية النوعية قرب قرية تل الواقعة غرب نابلس واحدة من الدلائل العديدة المؤشرة على هذا، إذ تأتي في وقت بدى فيه وكأنما ثنائية بطش العدو و”التنسيق الأمني” لم تترك مجالاً لمثل هكذا عمليات. طريق التفافي للمستعمرين محمي بكثافة عسكرية وأمنية فائضة كالعادة، وفي نقطة عند مدخل مستعمرة “جفعات جلعاد”، وعلى مقربة من نقطة عسكرية، وغير بعيد عن حاجز عسكري، وتنفيذ ناجح وانسحاب آمن، ومدة قال العدو أنها لم تزد عن دقيقة واحدة…صراخ ستبي ليفني وأوري اريئيل وتسبي حتبولي يفسره قول ميكي ليفي “مساء آخر قاتل”…للاحتلال!