ناجي العلي … فيلم للوطن والحرية بقلم الفنان نور الشريف
هل لانه ناجي العلي ام لانني نور الشريف … أكتب هذه السطور؟ لا أدري وان كنت اعتقد انه لا فرق .
لا استطيع ان انسى هذا العام … عام (1990) حين خضت تجربة تصوير فيلمي (ناجي العلي) مع المخرج الراحل عاطف الطيب … كنا كل فريق الفيلم مشتعلين بالحماس ، وكل منا بدا كما لو كان يشكل نقطة تحول مهمة في مسيرته الفنية ، وكنت راضياً عن نفسي بنسبة كبيرة ، لان العمل يحتل المقام الاول في حياتي وحبي له يصل الى حد الجنون ، ورغبتي في التجديد ملحة دائماً ، وكذلك الجدية في اختيار الموضوعات ، وهي النواحي التي توافق مرحلة ما بعد الانتشار في حياة الفنان لتحقيق درجة من النجاح ، بحيث يصبح مطلوباً في السوق الفني ، اي انه لا يقبل الاعمال الجماهيرية فقط ، لانها تقوده الى نهاية مؤسفة ، فالفنان الذي يصل الى مرحلة الانتشار في السوق يجب ان يعتمد درجة من التوازن حتى لا يفقد الايمان الشعبي به, ويقوم هذا التوازن على طرح الافلام الشعبية ، في الوقت الذي يستغل فيه كفاءته لتقديم اعمال فنية لا يستطيع تقديمها الجيل الجديد… ومن هنا انطلقت الى (ناجي العلي) …
(ناجي العلي) لم يكن مجرد فيلم جاد في مسيرتي ، كان دليلي الذي قادني الى مرحلة النضوج في زمن التردي السائد في معظم النتاج الفني ، سواء على المستوى السينمائي أو المسرحي او الموسيقى او حتى التلفزيوني ، كان هو البديل المطلوب للافلام المبتذلة او افلام المقاولات التي تتعمد الابتعاد عن صلب الهموم الكبرى والموضوعات الجوهرية ، وتعمل على طمس المشكلات الانسانية والقومية والوطنية من خلال طرحها لموضوعات سطحية تخاطب الغرائز وليس العقول والقلوب .
فــ (ناجي العلي) فيلم الوطن والحرية ، الوطن فلسطين وهي القضية القومية الأهم ومحور الصراع العربي الإسرائيلي ، والحرية هي المشكلة المركزية في وضعنا العربي ، ومن خلال هذا الفيلم سعينا لطرح رؤية فنية سينمائية شكلاً وموضوعاً تحاكي الفكرة جمالا وجدية .
وبالطبع كانت هناك أسباب أخرى غير رغبتي الملحة في التجديد لخوض تجربة (ناجي العلي) ، اهمها ان صورة القضية الفلسطينية غير واضحة تماماً ، لأن اختلاف وسائل الاعلام شوه هذه الصورة ، وحدث تصيد لاخطاء بعض الشخصيات الفلسطينية ، لذا فإن حماسي انصب على مواطن فلسطيني من داخل الارض المحتلة لم يتغير ، ورغم تنقله من قطر الى قطر الا ان فلسطين ظلت تسكن داخله… هذا المواطن البسيط عاش حياة صعبة رفض خلالها التضحية بفنه وقضيته .
تعاملت مع (ناجي العلي) على مستويين : القضية الفلسطينية ، والارض,، وهي دائماً الرمز للفنان الملتزم … الفنان الذي لا يبحث عن تبرير لانهياره او ضعفه أو ابتعاده عن قضية ، بل يصر على موقفه دون الخضوع للتيارات الحزبية .
إن حماسي لناجي العلي كان ينبع من التعلق بالقضية الفلسطينية بعيداً عن التحيز والضغوطات, ، انه يحمل وجهة نظر المواطن العربي الفلسطيني .
دفعني نحو ناجي العلي ايضاً … اعتقاد انه النموذج الرائع لغياب الحرية ، لأنه لا يمسك مدفعاً ولم يؤلف حزباً ، بل قلما وريشة وحبراً واوراقاً فقط لا غير ، انه فرد يقف في الساحة وحده ، بل انه ضعيف البنية ، ولو كانت هناك مساحة من الحرية لاصبح (ناجي) هو المرشد في رحلة الصواب ، لأنه يعكس نبض المواطن الفقير ، مواطن المخيمات ، لكن ما حدث هو العكس ، فغياب الحرية والديمقراطية قتله ، هناك التباس يحدث عند الناس دوماً ، ومحوره ان الحرية تعني اطلاق الرأي فقط لان الآخر سيستمع اليه ولا يفهمه ، لكن الحرية ان تقول رأيك ولا يقتلك الطرف الآخر .
وعلى هذا المستوى نجد ان ناجي العلي هو الضمير القوي للعديد من القوميين العرب ، لقد اختار طرح الرأي الجزئي والصريح دون تردد ولا خوف ، لان الصراحة صعبة حتى في الحوار حيث لكل طرف تبعيته ، فكيف الحال اذا كان هذا الشخص فناناً يطرح كل اخطاء الأنظمة .
ظللت عامين أو أكثر أتابع الموضوع ، وأجمع المعلومات ، وأقابل أصدقاء ناجي من الكويت ولندن والدول العربية ، وسجلت لهم كماً من الحوارات لا يمكن وصفه ، وهذا المشوار من البحث والتقصي كان لابد منه ، لأن الشخصية حين تكون قريبة منك وفي عصرك من الصعب أن تصل الى الحقيقة كاملة .
والحمد لله قدمت ناجي في فيلم ، هو في الحقيقة فيلم عن الوطن والحرية ، وأنا مرتاح الضمير ، فالنقطة الأساسية فيه كانت عن القضية الفلسطينية من خلال مأساة فنان مبدع وملتزم . ورغم فرحتنا الغامرة أنا وصديقي الكاتب وليد الحسيني شريكي في انتاج الفيلم ، وصديقي المخرج الراحل المبدع عاطف الطيب ، وكل أسرة الفيلم الرائعة بعرض الفيلم جماهيرياً ، إلا أن فرحتنا كادت تختنق على يد الهجوم العنيف الذي قادته إحدى الصحف المصرية ضد الفيلم ، وضد شخصية ناجي العلي رسام الكاريكاتير الفلسطيني ، الذي عاش عمره كله محارباً ومعتركاً بريشته ضد الإحتلال والإستسلام والتفكك العربي ,، صورنا الهجوم نحن فريق الفيلم ، كما لو كنا مجموعة من الخونة صنعوا فيلماً خصيصاً ضد مصر ، حتى أنهم كتبوا وقالوا نور الشريف يقوم ببطولة فيلم الرجل الذي (شتم) مصر في رسوماته ، والحقيقة أن هذا الاتهام باطل ، فـ (ناجي العلي) كان يعشق مصر لأبعد الحدود وهذا ما توضحه رسوماته ، ولكنه هاجم السادات عند زيارته للقدس ، وهاجم اتفاقية كامب ديفيد ، ناجي العلي لم (يشتم) مصر ، ولكنه عبر عن رأيه في رفضه لـ (كامب ديفيد) ، وهذا كان موقف كل العرب آنذاك ومعظم المثقفين المصريين . سار الهجوم على الفيلم وفق سيناريو محبوك ، وربما أفلح في التأثير على بعض البسطاء الذين لا يعرفون ناجي العلي ، ولم يدم هذا طويلاً ، فالغشاوة سرعان ما تزول ، ويكفيني الاستقبال الحار الذي استقبلت به في بعض الجامعات المصرية والجهات الأخرى حيث تم عرض الفيلم ، وعقدت ندوات مفتوحة شارك فيها الآلاف ممن لم يتأثروا بهذا الهجوم .
كل هذا شد من أزري وساند موقفي ، في الصمود وعدم الاستسلام ، واصراري على أن (ناجي العلي) من أهم أفلامي ، وسأظل أفخر به دائماً ، بل وسأظل أحلم بمواصلة مشواري على نفس الدرب ، وتقديم شخصيات أخرى تشبه ناجي العلي ، وتاريخنا العربي زاخر بها ، ولن يرتاح بالي إلا إذا فعلته .
اعادة نشر