ناغورنو كاراباخ.. بين الاستراتيجيا والقانون الدّوليّ – ليلى نقولا
شكّلت قضيّة كاراباخ المثال الحيّ لقضيّة إشكاليّة تقوم على مبدأين من مبادئ القانون الدولي الآمرة، يناقض كلّ واحد منهما الآخر، وهما سيادة الدولة ووحدة أراضيها، وحق الشعوب في تقرير مصيرها
تجدَّدت الاشتباكات في إقليم ناغورنو كاراباخ أو ما يُعرف لدى الأرمن باسم جمهورية آرتساخ، بين كلّ من الأرمن والآذاريين، وتبادل الطرفان الاتهامات ببدء العدوان، وأوردت تقارير إعلامية كلاماً عن قيام الأتراك بنقل بعض المرتزقة السوريين من مدينة إدلب للقتال على جبهة أذربيجان – أرمينيا في كاراباخ.
تاريخياً، منذ ضعف السّلطة المركزيّة في الاتحاد السوفياتي، ومباشرة بعد انهيار الاتحاد ودخول المنطقة في فراغ استراتيجيّ، تنازعت أرمينيا وأذربيجان السيادة على إقليم كاراباخ، وتصاعدت الاشتباكات بين الأرمن الَّذين يشكّلون 95 في المئة من سكّان الإقليم المتمتع بالحكم بالذاتي والسلطات الآذرية، حتى اندلعت حرب واسعة بين الطرفين بين العامين 1991 و1994، تمّ بعدها إعلان وقف إطلاق النار بعد جهود دولية حثيثة. ومنذ ذلك الحين ولغاية اليوم، لم تنقطع الاشتباكات بين الطرفين بين الفينة والأخرى.
كما معظم الأقليات في الاتحاد السوفياتي السابق، حاول أرمن كاراباخ بعد انتهاء الحرب الباردة تثبيت هُويتهم القومية وتأكيد حقهم في كيان سياسي خاص بهم، في ظل مرحلة دقيقة وحساسة أعادت خلط الأوراق في القوقاز. وفي ذلك الظرف تحديداً، سعى الأرمن إلى اقتناص الفرصة التاريخيّة لإثبات حقّهم في تقرير مصيرهم كقومية، وأخذ الصراع طابع المواجهة بين مبدأ “حق الشعوب في تقرير مصيرها” الّذي طالبت به الأقلية الأرمنية، وحقّ الدفاع عن الدولة وسيادتها، الّذي اعتمدته الأكثريّة الحاكمة في الدّولة الآذريّة كمبرّر لقمع الأقلية والتسلّط عليها.
من هنا، شكّلت قضيّة كاراباخ المثال الحيّ لقضيّة إشكاليّة أساساً في القانون الدولي، تقوم على مبدأين من مبادئ القانون الدولي الآمرة، يناقض كلّ واحد منهما الآخر، وهما سيادة الدولة ووحدة أراضيها، اللتان لا يعلو عليهما شيء، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهما من المبادئ الآمرة في القانون الدولي، والتي لا يمكن إلغاؤها أو تجزئتها، أو التوافق على ما يمسّ بها.
وقد أكّدت محكمة العدل الدولية في قضيتي تيمور الشرقية وكوسوفو أن حق الشعوب في تقرير المصير هو من المبادئ الآمرة. وبخلاف ما كان سائداً أو متعارفاً، هو حقّ تتمتّع به جميع الشّعوب من دون استثناء، ولا يمكن اعتباره حقاً حصرياً للشعوب الواقعة في سياق استعماريّ فحسب.
وعلى الرغم من ذلك، يعتبر فقهاء القانون الدّوليّ أنَّ الوضع الخاصّ لكوسوفو يعتبر استثنائياً، ويجب أن تشمل المعايير التي يجب أخذها بالاعتبار لإثبات حقّ الشّعوب في الانفصال معيارين: الحق التاريخي في دولة و/أو وجود تمييز واضطهاد للأقلية من قبل الأكثرية الحاكمة، ومنعها من ممارسة حقوقها السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة… وبالتالي، إن تعذّر على شعب صاحب خصوصية ثقافية اكتساب حقوقه عبر وسائل الإنصاف الداخلية، يمكنه المطالبة بالانفصال وتأسيس دولته المستقلّة.
انطلاقاً مما سبق، يبدو – قانونياً – أن من حقّ أرمن كاراباخ الاندفاع إلى تركيز شرعية هُويتهم التاريخيّة وحقّهم في إقليم مستقلّ، انطلاقاً من مرتكزات أساسية، أبرزها:
– أرض كاراباخ ليست أرضاً بلا هوية تاريخية، فالأرمن موجودون فيها منذ أكثر من ألفي عام، ويعتبر الإقليم منبتاً للأبجدية الأرمنية، لا بل إنَّ بعض مدنه (شوشي على سبيل المثال) تفوَّق ثقافياً في عصور عديدة على مدن أرمينيا نفسها.
– على الرغم من محاولة السوفيات طمس الهويات القومية، ومنها القومية الأرمنية، لكن الأرمن في كاراباخ ليسوا مجموعة عرقية هامشية أتت صدفة إلى الإقليم، بل إن جذور سكنهم في ذلك الإقليم كقومية حضارية تاريخية تمتدّ إلى آلاف السنين، ويشكّل تاريخهم في كاراباخ (آرتساخ) جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الأرمن العام، تماماً كما يشكّل وجودهم في الأناضول جزءاً لا يتجزأ من تاريخهم وذاكرتهم الجماعية.
– على الرغم من قيام ستالين في العام 1923 بإلحاق الإقليم بأذربيجان، وإعلانه إقليماً ذا حكم ذاتي في الجمهورية الآذرية، فإنَّ حالة الرفض التي عمّت بين أهله من الغالبية الأرمنية، إضافةً إلى المذكرات التي أرسلت – في أوقات زمنية متفرقة – إلى السلطات السوفياتية، ومن قبل اللجان المركزية للحزب الشيوعي الأرمني، تشير إلى أن الأرمن لم يقبلوا يوماً بالأمر الواقع، ولو أنَّهم اضطروا إلى الإذعان لسلطات الأمر الواقع السوفياتية، وتحيّنوا الفرصة للانقلاب على الواقع المفروض عليهم فرضاً.
وفي كلّ الأحوال، وعلى الرغم من الثوابت القانونية التي تعطي الحقّ لأرمن كاراباخ في تأسيس دولتهم المستقلّة، بناءً على الأطر التاريخية وحقّهم في تقرير مصيرهم، فإنَّ الموضوع لا يمكن فصله عن صراع الجيوبوليتيك في القوقاز، وارتباطه بالصراع في الإقليم، وخصوصاً في ظل تنافس المصالح التركية الروسية والروسية – الأميركية، إضافة إلى أهمية المنطقة في حرب الأنابيب، ومحاولة كسر الاحتكار الروسي لإمدادات الغاز إلى أوروبا، والتي تجعل أيّ صراع حدوديّ أو قوميّ أو تاريخيّ يأخذ أبعاداً استراتيجية أكبر بكثير من حجم المنطقة الجغرافيّة نفسها.