نتائج الانتخابات التركية بين التفسير السيكولوجي ألإسقاطي وواقعية الأسباب !!!
د.عامر صالح
أثارت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية جدلا واسعا في أوساط العالم العربي والإسلامي وفي العالم عموما جراء تراجع الإسلام السياسي الحاكم والمتمثل بحزب التنمية والعدالة, من أغلبية حاكمة في الدورتين السابقتين, إلى حصوله في الانتخابات الأخيرة على 40% من المقاعد البرلمانية, كما حصلت الغالبية العظمى من المعارضة بنسبة 60% من المقاعد والمتمثلة بالأحرى من الأحزاب الثلاثة الكبرى: حزب الشعب, والحركة القومية, وحزب الشعوب الديمقراطي, مما يؤهلها لتشكيل إتلاف حكومي يحظى بالثقة إذا تجاوزا بعض الصعوبات !!!.
لا أريد أن أقول هنا ببساطة أن هزيمة الإسلام السياسي التركي هنا هو نجاح للديمقراطية التركية, ولكني مؤمنا بأن الإسلام السياسي, بيساره ويمينه ووسطه ” إن وجد ” لا يؤمن بالديمقراطية التعددية, ومن هنا يتشبث باللعبة الديمقراطية من اجل البقاء والاستمرار من خلال العبث بمؤسسات الدولة وتكريس رجالات الإسلام السياسي في أجهزة الدولة الأمنية والقضائية والتنفيذية عبر إشاعة الفساد والإفساد في مؤسسات الحكم والاستحواذ على كافة الصلاحيات الرئاسية والوزارية, بل وحتى محاولات تغير الدستور وتكريس الحكم الرئاسي ومنحه كل الصلاحيات مثلما حاول حزب التنمية والعدالة التركية بما يخدم مصالحهم, وكما هو جاري في العراق !!!.
لقد جاء التفسير السياسي العربي للانتخابات التركية أسقاطيا وهو يعكس الحالة المزمنة المرضية لانعدام الديمقراطية في العالم العربي, فقد فسر خسارة حزب العدالة والتنمية بأنه ذهاب بلا عودة وأنه نهاية مميتة للحزب الاسلاموي ـ السياسي, وهذا التفسير يعكس تراكمات القمع وانتفاء الحالة الصحية السياسية في العالم العربي والإسلامي الناتجة من خضوع العقل العربي والإسلامي لعقود تحت أنظمة حكم الاستبداد والتي ألقت بظلالها على طرائق العمل والتفكير والاستنتاج والتنبؤ, مما شكلت فكرا ذو مسحة سيكولوجية إسقاطيه.
وقد جاءت إسقاطات التحليل العربي لحدث الانتخابات التركية على نسق إسقاطاتنا النفسية في الفرح او الحزن لما يحصل في العالم العربي من انقلابات دورية, فتارة نكون مع الانقلابي, وتارة أخرى ضده, وهكذا تربينا على ردود الأفعال السريعة في قراءة الأحداث السياسية. الإسلام السياسي التركي أتقن من الناحية الشكلية اللعبة الديمقراطية بعد صراع طويل مع المؤسسة العسكرية ” حامية الديمقراطية ” !!!.
حقق الإسلام السياسي التركي في فترة حكمه تقدما اقتصاديا كبيرا بنسبة نمو 7% واحتلت تركيا الدولة رقم 17 في مكانة الاقتصاد العالمي, وانعكس ذلك نسبيا على ظروف الناس المعيشية وتحسنها وتوفير فرص متزايدة للعمل في داخل تركيا وخارجها, واستطاع أن يجد مزيدا من وطأة القدم في الاستثمارات الخارجية, بل واجتياح اقتصادي لمناطق مختلفة في المنطقة كما هو أمام أعيننا نموذج إقليم كردستان الذي بات سوقا اقتصاديا تركيا بمختلف فروعه الإنتاجية والخدمية !!!.
فقد الإسلام التركي ” وسطيته ” كما يقال عنه بعد دخوله طرف في الصراعات العربية والإسلامية والإقليمية, فقد ألحق أضرار بالغة في ثورات الربيع العربي من خلال دعمه للتيارات الإسلامية وفرض البديل الإسلامي السياسي كبديل وحيد وتهميش قوى المعارضة الأخرى, كما دعم الإرهاب علنا ووضع شروطا مسبقا لمحاربته ودخوله في المحور القطري السعودي لعرقلة أي خيارات تغير للأنظمة الدكتاتورية في المنطقة إلا ضمن شروط هذا المحور, والموقف من داعش في دعمها علنا والمراوغة في محاربتها دوليا, كما يشار بأصابع الاتهام له في التمهيد لاحتلال أجزاء من العراق من قبل داعش وخاصة مدينة الموصل, ووصل حد التدخل إلى إعلان عدم رغبتها في تغير محافظ الموصل الذي قرره البرلمان العراقي والذي يشار له بتهمة توفير غطاء في دخول داعش للمدينة, كما أصبح الإسلام التركي طرفا أساسيا في تغذية الصراع الخليجي الإيراني !!!.
وكان لابد إن تنعكس هذه المواقف على مزاج الناخب التركي في عدم إعطاء صوته لحزب التنمية والعدالة. فقد حصل هذا الحزب على 40% بعد إن تعود على الفوز بالأغلبية لدورتين انتخابيتين سابقتين وقيادته للحكومة بأغلبيته, إلى جانب طبعا قضايا أخرى داخلية متعلقة بالفساد الإداري والاقتصادي والقضائي كانت أيضا من أسباب ذلك الانحسار. فانتكاسته هنا هو عدم مقدرته في تشكيل حكومة بمفرده, ولكنه يتمتع بأعلى نسبة أصوات بمفرده, ومن هنا تأتي أهمية وقدرات هذا الحزب في السعي لتشكيل حكومة ائتلافية مع قوة أخرى, ولكن المؤشرات الأولية إن هناك صعوبات جدية في العثور على حلفاء له !!!.
وفي الطرف الآخر المعارض والذي فاز بمجمله ب 60% من المقاعد تقع مسؤولية كبيرة في قيادة تركيا وحكومتها ان حصل ذلك, وخاصة في ميادين الاقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية, والقدرة على التعايش ألاثني والمذهبي والديني وبعث الاستقرار في السلم الاجتماعي التي أضعفتها سياسة حزب التنمية والعدالة والتي كانت احد أسباب خسارته النسبية في الانتخابات !!!.
بدأت القوى السياسية التركية والتي ستمثل في البرلمان الجديد, نشاطا محموما للبحث عن حلفاء لتشكيل الحكومة القادمة, كما ان حزب التنمية والعدالة التركي هو الآخر سيقوم بنشاطات مكثفة مع قوى المعارضة للبحث عن حلفاء, وسنرى ماذا تقرر الديمقراطية التركية !!!.