نتنياهو والشارع العربي – عبد اللطيف مهنا
في خطاب له أمام الكنيست قال نتنياهو، إنني “بكل أسف، لم التق حتى الآن بالسادات الفلسطيني، الذي سيعلن رغبته في انهاء الصراع ويعترف بدولة (إسرائيل) بأي حدود كانت ويدعم حقنا بالعيش بأمن وسلام”!
المفارقة أن كل هذا قد حققته له، وقبل ما يقارب الربع قرن، “اتفاقية أوسلو”. انهاء الصراع تحت يافطة وهم “حل الدولتين”، والذي ما انفكت الأدبيات الأوسلوية تردفه بلازمة “تعيشان جنباً إلى جنب بأمن وسلام”، والاعتراف بكيان الاحتلال، وبالتالي التنازل له عن 78% من فلسطين التاريخية، أو ما اغتُصب اثر النكبة الأولى عام 1948، واعتبار ما احتُل بعيد النكبة الثانية عام 1967، أي ما تبقى منها، أراض متنازع عليها وتحت طائلة المساومة، وعملياً طائلة التهويد كما هو الحال راهناً…ثم جاءت “مبادرة السلام العربية” لتبارك هذا وتصادق عليه وتزيد من عندها من مغريات مسالمتها تطبيعاً عربياً شاملاً.
خطاب نتنياهو هذا كان بمناسبة احياء الكنيست لذكرى مرور أربعين عاماً على زيارة السادات للكيان الصهيوني، وفيه خاطب صهاينته وكأنما هو يكشف سراً، بأنه، وبرغم مرور كل هاته السنين، فإن “العقبة الكبرى أمام توسيع السلام لا تعود لقادة الدول حولنا، وإنما للرأي العام السائد في الشارع العربي”، بمعنى أنه لم يعد يرى سوى هذا الشارع رافضاً مسالمة كيانه المغتصب لفلسطين.
في مقال سبق تعرضنا لما وصفناه بالفجور العدواني الصهيوني المتصاعد طرداً مع تفاقم حال التردي في الواقعين الرسميين العربي والفلسطيني، وازدياد مناسيب التصهين الأميركي وبالتالي امتداداته الكونية ومنها العربية. ما قاله نتنياهو يأتي في ذاك السياق، وجديده دعوته الصريحة، الآخذة بحسبانها الاتكاء على الأجواء السائدة اقليمياً ودولياً والضابطة حركتها على النبض الترامبوي، للفلسطينيين بإعلان الاستسلام النهائي دون قيد أو شرط، وموافقتهم النهائية على تصفية قضيتهم، باعترافهم “بدولة إسرائيل بأي حدود كانت”، مقابل تعالوا لنتحدث على راحتنا حول كنه وشكل ومسمى التواجد الفلسطيني المتبقي تحت هيمنة هذه الدولة اليهودية التي اعترفتم بها…”دولة بلا حدود”، جوهرها حكم ذاتي لكانتونات متباعدة لجاليات سكانية معزولة، أو الحاقها كونفدرالياً بالمملكة الأردنية، وحتى البقاء بلا هوية وفق رؤية الوزيرة غيلا غلميئيل، وإلى أن تحين الظروف المناسبة لتعمل مخططات الترانسفير عملها.
لأسبوع خلى ظل الشغل الشاغل للإعلام الصهيوني ما طفى على سطحه من تسريبات تدور طاحونتها حول كنه “صفقة القرن” الترامبوية الرافلة في غموضها المقصود، والتي لا تبتعد عن كونها نسخة أميركية من حل نتنياهو “الإقليمي”، لحمتها وسداتها الاستعانه بالضغط العربي لإكراه الفلسطينيين على القبول سلفاً، وقبل “تعالوا لنتحدث”، بلاءات اربع هي، لا اخلاء لمستعمرات الضفة، ولا حديث عن القدس، ولا لحدود الخامس من حزيران، ولا انسحاب من الأغوار، ويردفن بنعمين لتبادل الأراضي والالتزام بمفهوم الأمن الاحتلالي، بمعنى السيطرة الأمنية الشاملة على المسخ الذي سوف تلده هذه الصفقة…مع مغريات التلويح بتدفق المليارات العربية لتحقيق “تنمية هائلة”، وعدم نسيان أنه ولتشجيع نتنياهو على القبول بهذا الحل ستنقل السفارة الأميركية إلى لقدس مع الاعتراف بها عاصمة لدولته اليهودية.
بينما صمت نتنياهو حاول الأميركان نفي هذه التسريبات ، لكنهم أتو بما يؤكدها. قرار وتوقيت اقفال مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإن كان تحت دريئة تبريرات تتذرع بقانون كان قد استنه الكونغرس ابتغاء منعهم من اللجوء لمحكمة الجنايات الدولية طلباً لملاحقتها جرائم المحتلين، ثم التهديد بإيقاف مساعداتهم للسلطة أو تخفيضها، لا يمكن عزلهما عن ضغوط التهيئة لمفاوضات تمرير الصفقة المزمعة، وانتزاع القبول باللاءات الممهدة لعقد بازارها، وكلام نتنياهو في الكنيست وقبله في لندن انما هو بعض من عزف منفرد على ذات الرتم.
رد رام الله على اقفال الأميركان لمكتب المنظمة في واشنطن والقاضي بتعليق كافة الاتصالات الفلسطينية معهم، يذكّرنا بقرارها وقف التنسيق الأمني مع المحتلين إثر اندلاع مواجهات الحرم القدسي. عندم اعلنت وقفه وأكد المحتلون تواصله، ليعلن رئيس شرطتها لاحقاً أن 95% منه لم يتوقف، وإن ما توقف منه فعلاُ قد اقتصر على ال5%، التي هي اللقاءات الميدانية بين الطرفين، وهذه لم تلبث وأن عادت لاحقاُ. والآن، إما وقد أعلنت السلطة عن قرارها القاضي بتجميد اتصالاتها بالأميركان لم يؤكد هؤلاء ذلك. لاحقاً يعتبر نبيل أبو اردينة، المسألة برمتها “فرصة لتصويب العلاقات الفلسطينية الأميركية”، ويعلن رئيس السلطة من مدريد عن استعداده لعقد “صفقة سلام تاريخية مع (إسرائيل) تحت رعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب”…اضف إليه، اعاقة “المصالحة” بذريعة تمكين حكومتها المستلمة لكامل سلطتها في غزة، وعدم الغاء قرارات معاقبة الغزيين المحاصرين، أو فتح معبر رفح، واستجابة لضغوط أميركية!!!
…إن أي حل يطرح، لاسيما في مثل هذه المرحلة بالذات، بل وفي كافة المراحل التي لا يكون حلها يعني التحرير والعودة، إنما هو شكل من اشكال التصفية المرادة للقضية الفلسطينية ووفق رؤية المحتلين لها، كما وبغض النظر عن الطارحين للحلول ومسمياتها، فهي لا تأتي إلاً لإنقاذ الاحتلال من صيرورة تأخذه إلى حيثما يجد نفسه وجها لوجه أمام تنامي مسألتين حاكمتين تهددان وجودة مهما طال الزمن، الديموغرافيا الفلسطينية وثقافة المقاومة.