نحو تصويب البعد القومي للقضية الفلسطينية
مقدمة
تمر القضية الفلسطينية بمنعطف خطير سواء على مستوى الأوضاع الداخلية أو على مستوى شبكة العلاقات والتحالفات الخارجية . كما تُطرح تساؤلات عميقة حول المستقبل : مستقبل الفلسطينيين من كان منهم داخل فلسطين أو خارجها ،ومستقبل الأمة العربية وعلاقتها بالكيان الصهيوني وبالعالم الخارجي وبمجمل ما اختزنته ذاكرة الإنسان العربي والمسلم من مفاهيم وتصورات حول ذاته وعلاقته بإسرائيل والغرب ، وهي تساؤلات في غالبيتها دون إجابة واضحة ، ليس فقط لأن المفكر أو المثقف أو السياسي العربي لا يعرف الإجابة عنها بل أيضا لأنه لا يريد أن يعترف بالحقيقة أو لا يجرؤ على الاعتراف بها،لأنها حقيقة مؤلمة تصدم رومانسيته الثورية أو الدينية وقد تخرجه من حالة العطالة الفكرية التي استمرأ العيش فيها ومعها .
إن مقاربة شاملة لتطورات القضية يتطلب اتخاذ موقف منحاز إما للواقع باسم الواقعية ، أو للمبادئ والثوابت الوطنية والقومية باسم المبدئية وقدسية القضية ،وكلا الموقفين أشق على النفس من الآخر . حاول كثيرون الجمع بين الاثنين بين المبادئ والواقعية ،ولكنها كانت توفيقية تلفيقية تخفي العجز عن اتخاذ موقف ،عجز عن الاعتراف بالحقيقة ،حقيقة أن رياح التحولات الدولية والإقليمية وواقع مجتمعاتنا لم تأت بما تشتهي سفن أحلامنا وتطلعاتنا القومية وخصوصا قضيتي تحرير فلسطين والوحدة العربية .
كل مراقب للأحداث سيلمس التراجع الكبير على مستوى الكتابة والتنظير والأنشطة الثقافية والإعلامية حول القضية الفلسطينية باعتبارها قضية قومية عربية وإسلامية تختزل الصراع والمواجهة مع الصهيونية العالمية والمصالح الإمبريالية في المنطقة العربية ، وما ارتبط بهذا الصراع من أيديولوجيات وأفكار وتنظيمات وشبكة علاقات وتحالفات ،حتى صح القول إن القضية الفلسطينية كانت تمثل العمود الفقري لحركة التحرر العربي والمشروع الحضاري العربي طوال قرن تقريبا.
هذا التراجع لمسناه من خلال اختفاء كثير من الأقلام التي عهدناها تكتب عن الشأن الفلسطيني من منطلق قومي وثوري وتحرري ،وتواريها عن الأنظار أو تحولها إلى ساحاتها الوطني لتناضل فيها بقلمها وشعاراتها ،كما أن الندوات التي كانت شبه يومية أصبحت نادرة الحدوث ،وحتى على مستوى نشرات الأخبار ووسائل الإعلام أصبح الحيز المخصص للقضية جد محدود أو يتم تناولها بحيادية صارمة وكأنها قضية لا تختلف عن أية مشكلة دولية ، وأحيانا لا يُشار إليها مجرد إشارة ،ونفس الأمر لمسناه في خطابات السياسيين وزعماء الأحزاب السياسية الذين كانت القضية شغلهم الشاغل و قضيتهم الأولى ،أصبح حديثهم حول القضية مقتضب وحذر بل وصل الأمر ببعضهم إلى تجاهل القضية الفلسطينية كليا.
هذا التراجع الرسمي انعكس سلبا على الاهتمام الشعبي بحيث أصبحنا نلمس حالة من عدم المبالاة والتجاهل أحيانا لكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ، فكثير من الناس العاديين اصبحوا شبه مذهولين مما يجري لا يعرفون حقيقة الأمر وما هو الصحيح وما هو الخطأ . والأخطر من ذلك ما نلمسه من انتشار جو معاد للفلسطينيين في أكثر من بلد عربي يغذيه إعلاميون موتورون ومرتبطون بجهات مشبوهة .
فكيف نفسر الأمر ؟ .هل مرد ذلك قناعة المثقفين والسياسيين بأن الشعب الفلسطيني هو المسؤول الوحيد عن قضيته ؟ هل هو غياب الحرية التي تسمح بالتعبير الحر عن الرأي ؟ أم هو شعور بالعجز واليأس و إحساس بعدم جدوى الكلمة في وقت سيطرت فيه القوة ونفوذ المال والمصالح القُطرية الضيقة ؟ أم هو قناعة بطفولة وعبثية الشعارات والمبادئ التي صاحبت القضية منذ سنواتها الأولى ؟ أم أن الفلسطينيين أخطئوا بالفعل بحق الدول والشعوب العربية ؟.
المحور الأول : جدلية العلاقة بين المشروع الوطني الفلسطيني والبعدين العربي والإسلامي
تاريخيا حدث تلازم ما بين القضية الفلسطينية ومحيطها العربي والإسلامي،حيث تزامن فكر النهضة العربية الإسلامية نهاية القرن التاسع عشر مع ظهور الحركة الصهيونية كما أن ظهور القضية الوطنية الفلسطينية بداية القرن العشرين لم يكن منقطع الصلة بظهور الحركة القومية العربية من جانب وبالمخططات الاستعمارية لتقسيم المنطقة العربية والهيمنة عليها من جانب آخر.
ففي عام 1905 كتب نجيب عازوري في كتابه (يقظة العرب) : “هناك حادثان هامان من طبيعة واحدة ولكنهما متعارضان، وهما يقظة الأمة العربية والجهد اليهودي الخفي لإنشاء مملكة إسرائيل القديمة من جديد وعلى مقياس أوسع ، إن مصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر إلى أن تغلب إحداهما الأخرى ” .
وهكذا تأسست العلاقة المصيرية بين فلسطين ومحيطها العربي ، وتجلى هذا الارتباط منذ بداية القرن العشرين من خلال علاقة القضية العربية الناهضة بالمخططات الاستعمارية لتقسيم المنطقة العربية وزرع الكيان الصهيوني في قلبها ، وليس عبثا التزامن والتداخل ما بين ثورة الشريف حسين على العثمانيين 1915 ، ومخطط سايكس – بيكو 1916، ووعد بلفور 1917 ، ثم الانتداب البريطاني على فلسطين . واستمرت القضية الفلسطينية قضية قومية عربية إلى بداية تراجع المد القومي الوحدوي بعد حرب حزيران 1967 وانشغال الشعوب والأنظمة العربية بمشاكلها الداخلية .
منذ ذلك التاريخ والحديث يجري عن (البُعد القومي للقضية الفلسطينية) دون غيرها من القضايا العربية ، وكان هذا البُعد حاضرا طوال مسيرة القضية كما كان المسلمون ينظرون بقدسية لمدينة القدس وبعضهم يعتبر فلسطين وقفا إسلاميا أو الأرض المباركة الخ. ومن هذا المنطلق لم تحظى قضية وطنية أو تحررية عربية باهتمام عربي وإسلامي كما كان الشأن مع القضية الفلسطينية ، وإلى وقت قريب ، ما كانت تُعقد قمة عربية او إسلامية أو يَخطب زعيم أو رئيس عربي أو مسلم إلا كانت القضية الفلسطينية على سُلم الاهتمامات ، وبالمقابل كان كثير من الفلسطينيين يتطلعون لهذه القمم ويبنون عليها آمالا كبيرة ، كيف لا ، وقد كانت الانظمة والأحزاب العربية والإسلامية تُهدد وتتوعد إسرائيل وترفع الشعارات الكبيرة عن تحرير فلسطين والخطر الصهيوني ومقاطعة إسرائيل والواجب العربي والإسلامي في نصرة الفلسطينيين الخ ، دون ممارسة فعلية على أرض الواقع ،أما الجماهير العربية والإسلامية فهي صادقة في مشاعرها المُحِبة للفلسطينيين والمتعاطفة معهم ولكنها ليست صاحبة قرار ومغلوبة على أمرها .
كانت أية تحولات أو متغيرات كبيرة تحدث في العالم العربي تنعكس مباشرة على القضية الفلسطينية ،فعندما تنتكس الحركة القومية والثورية العربية تنتكس القضية الفلسطينية وعندما تنهض الحالة العربية أو الإسلامية تنهض معها القضية،فما كانت فلسطين تضيع وتحدث النكبة عام 1948 لو لم تكن الحالة العربية والإسلامية عاجزة بل ومتواطئة مع بريطانيا والغرب،وما كانت الحركة الوطنية الفلسطينية تعرف نهوضا مع منظمة التحرير الفلسطينية وبقية القوى الوطنية منتصف الستينيات لولا حالة المد الثوري والتقدمي العربي ،في المقابل فإن الانتكاسات التي أصابت القضية الفلسطينية أخيرا غير منقطعة الصلة بتراجع الحالة الثورية والتقدمية العربية منذ توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل ثم انهيار النظام الإقليمي العربي بعد حرب الخليج الثانية وأخيرا فوضى ما يسمى بالربيع العربي.
فبعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل لأراضي عربية بدأت الأمور بالتغير نسبيا بحيث لم تعد القضية الفلسطينية القضية الأولى للعرب ، وأصبح هدف تحرير الاراضي العربية المحتلة عام 1967 أسبق في الأهمية والأولوية على تحرير فلسطين ، وفي نفس الوقت تراجعت المراهنات الفلسطينية على الانظمة والأحزاب العربية ، من مراهنة وصلت لحد انتظار الجيوش العربية لتشكل كماشة تُطبق على إسرائيل وتحرر فلسطين ، إلى مراهنة خجولة واستجدائية على بعض المساعدات المالية ، أو دعم الموقف الرسمي الفلسطيني في المنظمات والمحافل الدولية . وفي نفس الوقت تعرضت الحركة الوطنية لعدة نكسات ودخلت في صراعات عربية داخلية ، كأحداث الأردن 1970 والحرب الاهلية اللبنانية 1975 والتي امتدت لحين غزو إسرائيل للبنان 1982 وإخراج قوات منظمة التحرير من بيروت .
بعد توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد 1978 والتي تزامنت مع المد الإسلامي الاصولي مع ثورتي أفغانستان وإيران وظهور تنظيم القاعدة وتفرعاته ، راهنت بعض القوى السياسية الفلسطينية وقطاع مهم من الشعب الفلسطيني على الأمة الإسلامية وأنظمتها وأحزابها بدلا من المراهنة السابقة على الامة العربية وأحزابها وأنظمتها ، إلا أن حال (البعد الإسلامي) لم يكن افضل من حال (البعد القومي) ، بل كانت الصدمة والخيبة اكثر إيلاما على الفلسطينيين ، ليس فقط بسبب تجاهل الأمة الإسلامية ، أمة المليار والنصف مليار ، للقضية الفلسطينية وللقدس حيث ذهب ( المجاهدون ) ليقاتلوا في كل مكان في العالم من قندهار إلى البوسنا وسوريا وليبيا، دون ان يفكروا بالقدوم للجهاد في فلسطين ، بل لأن من تَدخَّل منهم سياسيا في الشأن الفلسطيني كان تدخله فجا ومسيئا للقضية الوطنية ، حيث تدخلوا لا لتحرير فلسطين ودعم المشروع الوطني ، بل لتوظيف القضية الفلسطينية لخدمة مشاريعهم وأجندتهم الخاصة ، وعلى حساب المشروع الوطني الفلسطيني .
كان ما يسمى بالربيع العربي وتداعياته مثالا على استعداد جماعات الإسلام السياسي التضحية بفلسطين والقدس لخدمة مصالحها . وهناك نقطة تقاطع ما بين إسرائيل وجماعات الإسلام السياسي ، فإذا كانت إسرائيل لا تريد قيام دولة فلسطينية مستقلة ، فإن سلوك غالبية جماعات الإسلام السياسي يقول بعدم ضرورة وجود دولة للفلسطينيين ، أو أنها ليست في أولوية سلم اهتمامها .
لم يكن الخلل في فكر القومية والوحدة العربية ولا في حقيقة العلاقة الجدلية بين القضية الفلسطينية والعالم العربي ، كما لم يكن الخلل في الإسلام كدين بما يتضمن من دعوات للجهاد ونصرة المسلمين ووحدتهم ، ولكن الخلل يكمن في أدلجة هاتين الهويتين والبُعدين ، فعندما تتحول الهوية والفكرة القومية إلى أيديولوجيا لحزب او نظام فإنها تفقد ماهيتها وقيمها الجوهرية المتسامية على الأشخاص وحسابات السلطة الضيقة ، وتتحول لأداة لخدمة الحزب وبالتالي السلطة ورجالاتها ، وعندما يتم أدلجة الدين ويتم تطويعه تفسيرا وتأويلا بما يتماشى مع التطلعات السلطوية لأحزاب تدعي أنها إسلامية ، آنذاك يفقد الدين جوهرتيه وقيمه السامية التوحيدية ويتحول لأداة للأحزاب والقوى المتصارعة على السلطة . أيضا النخب السياسية الفلسطينية مسئولة نسبيا عن هذا التراجع عندما تراجعت عن نهج المقاومة لتحرير فلسطين وباتت مطالبها مالية أو في حدود دعم السلطة القائمة سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة ، وهو الامر الذي سمح للأنظمة العربية التهرب من مسؤولياتها القومية تحت شعار أنهم لن يكونوا فلسطينيين اكثر من الفلسطينيين انفسهم ،وأنهم يقبلون سياسيا ما يقبل به الفلسطينيون .
البعدان القومي والإسلامي كانا صادقين وضروريين من حيث المنطلقات ، ولكنهما انحرفا عن أهدافهما وخرجا عن مبادئهما الأولى عندما حدث الانفكاك أولا ما بين الهوية أو الفكرة من جانب وأدواتها التنفيذية التنظيمية والحزبية من جانب آخر ، وعندما حدث الانفكاك ثانيا ما بين الشعب المؤمن بصدق بهذين البعدين والمستعد للكفاح من اجل تجسدهما عمليا ، من جانب ، والأنظمة والأحزاب التي صادرت هاتين الفكرتين والهويتين وحولتهما لأدوات في صراعها من اجل السلطة حتى بين من يحملون أو يزعمون انهم ينتمون لنفس الهوية ، من جانب آخر.
فشلت وانكشفت الايديولوجيات والتوظيف السياسي للقومية العربية وللدين الإسلامي في التعامل مع القضية الفلسطينية ، بل فشلت هذه القوى حتى في حل إشكالات المجتمعات الوطنية التي تنتمي لها وتعمل في إطارها . لكن الواقع وبعد حالة الفتنة والحرب الاهلية التي تعم عديد الدول العربية ، يؤكد على أن المخرج للقضية الفلسطينية من مأزقها ، والمخرج لكل إشكالات العالم العربي لن يكون إلا بالعودة لتصحيح وتقييم العلاقة ما بين الوطنية – هوية وكيانا سياسيا – من جانب والفكر القومي العربي والحاضنة العربية من جانب آخر ، ولكن على أسس ومنطلقات جديدة تُحرر الفكر الوحدوي العربي من أوهام الايدولوجيا والمصالح الحزبية والسلطوية ، وتُحرر الدولة الوطنية من الدكتاتورية والاستبداد .
أيضا لا يمكن أن نفك القضية الفلسطينية عن العالم الإسلامي ما دامت القدس في قلب القضية الفلسطينية ، وما دام الصهاينة يوظفون الدين في صراعهم مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين ، بل يطالبون بدولة يهودية ، ولكن ايضا نحتاج إلى إعادة موضعة العلاقة أولا بين السياسي والديني ، وثانيا ما بين الوطني والديني ، أو المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع / المشاريع الموسومة بالإسلامية ، بحيث يتم توظيف الدين لصالح المشروع الوطني فكرا ودولة وليس إلحاق المشروع الوطني بهذه المشاريع المغامرة والغامضة ، والتي فشلت حتى الآن ليس فقط في تحقيق دولة الخلافة الموعودة ، بل كانت سببا في تدمير الدولة الوطنية في أكثر من بلد عربي وخلق فتنة وحرب أهلية مدمرة .
إن كنا نتمنى من الانظمة والقوى السياسية العربية والإسلامية تصويب علاقتها مع القضية الفلسطينية واحترام الهوية والشخصية الوطنية الفلسطينية والتوقف عن توظيف الفلسطينيين ومعاناتهم لخدمة صراعاتها الداخلية على السلطة ولخدمة مصالحها ومشاريعها الإقليمية ، فإنه مطلوب في نفس الوقت من القوى السياسية الفلسطينية بكل مشاربها ، وخصوصا بعد ما كشفه العدوان الإسرائيلي الاخير على غزة من حقائق ، مطلوب منهم عمل مراجعات استراتيجية لفكرها وسياساتها ، والتوقف عن الحديث عن انتصارات مُبالغ فيها ، أو إلقاء المسؤولية عما حدث فقط على العدو الإسرائيلي وتخاذل العرب والمسلمين ، أو إلقاء كل طرف فلسطيني بالمسؤولية على الطرف الفلسطيني الآخر وينزه نفسه عن كل خطأ .
لا يمكن لمنظمة التحرير والسلطة المراهنة فقط على واشنطن والغرب في تحركهم السياسي وتجاهل الرأي العام العربي والإسلامي ، وتجاهل القدرات الكامنة عند الشعب الفلسطيني التي ظهرت خلال العدوان على غزة ، حتى وإن كانت قدرات الصمود والصبر . أيضا لا يمكن لحماس والجهاد الإسلامي المراهنة على جماعات الإسلام السياسي والأنظمة الإسلامية ، وتجاهل المصلحة الوطنية التي لها الأولوية على اية انتماءات أو ارتباطات أيديولوجية آخرى ، حيث كشفت الحرب محدودية ما يمكن أن تقدمة الأنظمة والحركات الإسلامية .
على القوى السياسية الفلسطينية بكل مشاربها أن تعرف انها لن تكون قوى قومية حقيقية أو إسلامية حقيقية إلا إذا انطلقت من حاضنة وطنية حقيقية ، وسيكون موقعها هامشيا وذيلي في أي مشروع سياسي قومي عربي أو اممي إسلامي إن لم تنطلق من منطلق وطني ومن قاعدة وجود الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة .
المحور الثاني : فوضى (الربيع العربي) وحسابات الربح والخسارة فلسطينيا
الاهتمام العربي الشعبي والرسمي بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية ، أو ما كان يسمى بالبعد القومي ، شهد في ظل ما يسمى بالربيع العربي حالة تراجع وتدهور متسارعة مما ترك تداعيات خطيرة على القضية الفلسطينية حيث تجري عملية ممنهجة لفك الارتباط التاريخي والمصيري والاستراتيجي والنفسي ما بين فلسطين والأمة العربية .
الخطورة في هذا الشأن أن التراجع وعدم الاهتمام لم يعد رسميا فقط بحيث يمكن تفسيره بعلاقات المصالح التي تربط الأنظمة والنخب السياسية بالغرب وبإسرائيل وباستحقاقات الالتزامات الدولية ، بل نخشى من محاولات خبيثة تجري لفك الارتباط المصيري بين الشعوب العربية وفلسطين من خلال كي وعي هذه الشعوب لتُغِّير من إيمانها والتزامها بالقضية الفلسطينية كقضية عادلة ، وتغييب إسرائيل كخطر اساسي وثابت للأمة العربية .
إن كنا لا نبرئ بعض الاحزاب الفلسطينية من مسؤولية التحول في المواقف العربية تجاه القضية الفلسطينية ، حيث أخطأت بعض الأحزاب والقيادات الفلسطينية عندما اخترقت المبدأ والقاعدة التي تحكم الثورة الفلسطينية بمحيطها العربي وهي عدم التدخل في الشأن الداخلي لأية دولة عربية ، والوقوف موقف الحياد في النزاعات العربية العربية ، إلا أن ردة بعض الانظمة العربية والقوى السياسية التي أفرزها ما يسمى بالربيع العربي عن القضية الفلسطينية لا تعود للتجاوزات الفلسطينية المحدودة بل تم توظيف هذه التجاوزات لتنفيذ مخطط معد مسبقا لكسر العلاقة بين الشعوب العربية وفلسطين وحتى تتحرر الأنظمة من التزاماتها ومسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية وتعزز علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن وإسرائيل دون ربط ذلك بحل القضية الفلسطينية أو على الأقل وقف حالة العدوان المستمرة على الفلسطينيين ، بعد أن تكون هيأت القاعدة الشعبية لقبول هكذا علاقات ، بالإضافة إلى أن بعض الأنظمة العربية تريد توجيه الأنظار إلى عدو خارجي للتغطية على الفشل في حل مشاكلها الداخلية .
ومع ذلك وبالرغم من هذه المؤشرات المقلقة فإن أي حديث حول تأثير ما يجري في العالم العربي اليوم على القضية الفلسطينية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار حداثة الظاهرة وعدم اكتمالها حتى الآن.
لا شك انه من حق الشعوب العربية أن تثور على أنظمة لم تكن فقط حملا ثقيلا علىها وسببا في فقرها وبؤسها وكبت حرياتها بل كانت أيضا سببا في ضياع فلسطين ومحاصرة حركة التحرر الفلسطينية وفي التواطؤ مع إسرائيل وواشنطن على المصلحة الفلسطينية. أن تصبح الشعوب العربية المؤيدة والمتعاطفة مع عدالة القضية الفلسطينية سيدة نفسها وصاحبة القرار فهذا إضافة لقوة الشعب الفلسطيني في فلسطين وإعادة تفعيل وتنشيط حضور القضية الفلسطينية في الدول العربية حيث يعيش فيها حوالي نصف الشعب الفلسطيني .
الثورات العربية بعد اكتمال كل حلقاتها وتمكين الشعوب العربية من السلطة والحكم ستعيد الاعتبار لمفهوم البعد القومي للقضية الفلسطينية حيث سيؤسَس على أرضية ممارسة واقعية شعبية وليس على خطاب للأنظمة والنخب يوظف كأداة للتدخل في الشأن الفلسطيني ومصادرة قراره المستقل.
المتغيرات التي يشهدها العالم العربي وحتى في حالة صيرورتها متغيرات تتجاوب مع التطلعات المشروعة للشعوب بالديمقراطية ،فإنها على المدى القريب ستشغل الشعوب العربية بمشاكلها وهمومها الداخلية لحين من الوقت ،الأمر الذي قد تستغله إسرائيل لتصعيد عدوانها على قطاع غزة و لتسريع سياسة الاستيطان والتهويد ما دام العرب والعالم منشغلين بما يجري داخل بلدانهم.
إن كانت المحصلة النهائية لما يجري في العالم العربي سيؤثر على القضية الفلسطينية إلا أن التأثير سيختلف من دولة إلى أخرى بل لا نستبعد أن تكون النتائج في بلد ما سلبية بالنسبة للقضية الفلسطينية ،وفي جميع الحالات فالأمر يرتبط بالقوى الثورية أو التي ستستلم مقاليد السلطة بعد الثورة ،أيضا بدرجة التدخل الخارجي في مجريات الثورة ،فالغرب وتركيا يتدخلان في الثورة الليبية والسورية ، وإيران تتدخل في الثورة البحرينية وفي احداث اليمن .
بسبب وعي قادة المحتجين وبسبب قوة التدخل الذي تقوم به واشنطن والغرب في التأثير على مجريات الأحداث فإن القيادة القادمة ستكون في المرحلة القريبة ذات توجهات إصلاحية داخلية ولن تفتح الملفات الكبرى كاتفاقية كامب ديفد والالتزام بالسلام مع إسرائيل وخصوصية علاقة مصر بواشنطن والغرب ،بمعنى أنه سيتغير رأس النظام ولن يتغير النظام كثيرا في بنيته الأساسية.
من حيث المبدأ فإن كل ما فيه مصلحة الشعوب العربية والإسلامية سيكون فيه مصلحة للفلسطينيين ،وبالتالي فإن الثورات العربية التي تعبر عن إرادة غالبية الشعوب العربية بالتغيير ستخدم القضية الفلسطينية إن لم يكن عاجلا فآجلا. ما سنتحدث عنه هو تداعيات المرحلة الانتقالية للثورات العربية على القضية الفلسطينية،حيث نلمس تداعيات سلبية تستوجب من القيادة الفلسطينية التعامل معها بحذر لحين استقرار حال الثورات العربية ،ونقصد بالتعامل الحذر عدم تمكين هذه التداعيات السلبية من التأثير على الخيارات الإستراتيجية للشعب الفلسطيني ،فهذه الخيارات يجب أن تبنى على استقلالية القرار من جانب وعلى التحولات الإستراتيجية التي ستتمخض عنها الثورات بعد استقرار الأمور.
يمكن رصد أهم التداعيات السلبية الآنية للحالة العربية غير المستقرة على القضية الفلسطينية بما يلي:-
1- انشغال الشعوب العربية بمشاكلها الداخلية :السياسية والاقتصادية والاجتماعية .فدون تقليل من تعاطف الجماهير العربية تجاه الفلسطينيين ورغبة الثوار بفتح صفحة جديدة مع الفلسطينيين يتم فيها تجاوز أخطاء النظم السابقة،إلا أن الشعوب العربية الثائرة ستنشغل بهمومها الداخلية وخصوصا في ثورات تؤشر إلى تحولها لحرب أهلية كما يجري في ليبيا واليمن وسوريا والعراق،وفي هذه المرحلة من عدم الاستقرار قد تلجأ الجماعات الثائرة لنسج علاقات مع الغرب ومع واشنطن لمواجهة النظام القائم كما هو الأمر في ليبيا بل قد تلجا النظم السياسية نفسها لكسب ود واشنطن لمواجهة الثوار وللحفاظ على وجودها ،وواشنطن لن تتورع عن ابتزاز الطرفين سياسيا.
2- الثورات العربية وما أدت من حالة عدم استقرار ومستقبل مفتوح على كل الاحتمال أوجد قناعة لدى واشنطن بأنه لا يمكنها المراهنة على أي نظام عربي أو شرق أوسطي كحليف استراتيجي ،وان الحليف الوحيد المضمون هو إسرائيل ،فالأمريكيون اقتنعوا بأن لا حليف استراتيجي لهم في المنطقة إلا إسرائيل.
3- كان للبعد القومي لفلسطين مضمونا معاديا للغرب وخصوصا لواشنطن،أما جماعات الإسلام السياسي المهيمن على المشهد السياسي العربي فلا تخفي مهادنتها للغرب بل والحفاظ على العلاقات الخارجية بما فيها مع إسرائيل.هذا التحالف مع الغرب سيقيد من توجهات الأنظمة العربية (الثورية) نحو الصدام مع إسرائيل ،مما يجعل الفلسطينيين وحدهم في مواجهة إسرائيل.
4- انتقال الثورة لسوريا سيؤدي لنتائج سيواستراتيجية خطيرة على القضية الفلسطينية حيث سيؤثر سقوط نظام على الوضع في لبنان وخصوصا على حزب الله وسيؤثر أيضا على الأردن وإيران والعراق.
5- تدخل إيران في مجريات الحراك العربي حرف هذا الحراك من ثورة من اجل الحرية والديمقراطية إلى صراع طائفي بين السنة والشيعة ، وقد ساعدت واشنطن وتل ابيب في حرف الثورات العربية عن مسارها وإطالة امدها حتى تنشغل الشعوب العربية بأعدائها بدلا من إسرائيل كعدو رئيس، وحتى يتم تفكيك الدول العربية القائمة .
المحور الثالث : منطلقات لتصويب العلاقات الفلسطينية العربية
كان لا بد للمتغيرات والتحولات التي جرت وتجري في الدول العربية وعلى مستوى العالم أن تؤثر على القضية الفلسطينية وعلى الصراع العربي الإسرائيلي وعلى شبكة التحالفات والاصطفافات في المنطقة.
فالمشهد السياسي الفلسطيني الراهن ملتبس ، فقوى شر متعددة داخلية وخارجية تعمل على تحطيم المجتمع الفلسطيني من داخله وتشويه قيمه وثقافته ورموزه الوطنية ، تقابلها إرادة صمود وقوة إيمان عند الشعب بعدالة قضيته ورفضه للاستسلام . وإن كانت قوى الشر نجحت نسبيا في رسم معالم مشهد سلبي ، إلا أنه من المؤكد أن نجاحها مؤقت ، لأن الشعب الفلسطيني عودنا دوما على النهوض والتمرد والثورة على كل من يهينه ويحتقره أو يعتقد أنه يستطيع مساومته على حريته وكرامته بالمال أو يرهبه بالسلاح .
نعتقد أن الحلقة المفقودة في المشهد السياسي لا تكمن في ضعف الحق الفلسطيني بالحرية والاستقلال بل تكمن في غياب استراتيجيه عمل وطني وغياب قيادة وطنية محل توافق الجميع تستطيع جني ثمار المتغيرات الإيجابية وثمار العطاء الفلسطيني ،أو بصيغة أخرى هناك أزمة نخبة وأزمة قيادة.غياب استراتيجيه عمل وطني وقيادة وحدة وطنية أدى لظهور نخب وقيادات بدلا من أن تعمل لخدمة القضية باتت تتعيش على القضية ،وبدلا من أن تكون عنصر وحدة وتوحيد كانت سببا في الانقسام ثم أصبحت تتعيش منه.في ظل غياب قيادة وحدة وطنية تصبح الساحة مرتعا لكل انتهازي ومتسلق ومتطلع للسلطة والجاه،في ظل غياب قيادة وحدة وطنية تصبح القضية أداة يتقاذفها ويتلاعب بها أصحاب الأجندة الخارجية تحت مسميات القومية أو الإسلام أو السلام وهم لن يعدموا نخب وقيادات محلية تخدم مسعاهم ،في ظل غياب قيادة وحدة وطنية وإستراتيجية وطنية لن ينجح مشروع مقاومة حقيقية ولا مشروع سلام فلسطيني.
أيضا الحلقة المفقودة تكمن في اضطراب علاقة فلسطين بمحيطها العربي والإسلامي ، مما يتطلب تصويب العلاقة بين الفلسطينيين والعالمين العربي والإسلامي بما يحترم خصوصية كل دولة وبعيدا عن التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة .
لأن العالم يتغير وأولويات الشعوب والدول تتغير ، وحيث لا يمكن أن يكون أحد فلسطيني أكثر من الفلسطينيين انفسهم ، فإن الحاجة ملحة لتصويب وإعادة نسج العلاقات الفلسطينية مع العالم الخارجي على أسس صحيحة وجديدة ونقطة المنطلق تبدأ من الفلسطينيين انفسهم ، وفي هذا السياق نقترح عناوين يجب الاشتغال والتوافق عليها فكريا وثقافيا قبل أن تنتقل لمجال العمل السياسي الرسمي :
1- التأكيد بأن إسرائيل العدو الرئيس والدائم للأمة العربية وهي ليست بعيدة عما يجري من حروب وصراعات في الدول العربية .
2- إن فلسطين مدخل مصر أو أية دولة عربية تسعى لريادة الامة العربية ، ولا يمكن توحيد العرب أو استنهاض المشروع القومي العربي بدون حل القضية الفلسطينية او الوقوف لجانب الفلسطينيين في صراعهم مع الاحتلال .
3- المساعدة في انجاز ملف المصالحة الفلسطينية على أساس التحولات والمستجدات العربية والإسلامية والدولية التي أشرنا إليها اعلاه . وفي هذا السياق يكون الدور العربي أساسيا من حيث توقيف كل أشكال استقطاب الاطراف الفلسطينية المتصارعة لأي مشاريع أو أجندة عربية وإقليمية .
4- التركيز على أهمية ودور جمهورية مصر العربية في أية مصالحة فلسطينية أو تسوية سياسية شاملة ،وذلك لمركزية مصر في المنطقة وما تحظى به من تقدير واحترام ، أيضا بسبب الجغرافيا حيث لا يمكن لأية دولة انجاز مصالحة فلسطينية داخلية أو تسوية سياسية ثم يتم فرضها على مصر .
5- من المهم إعادة النظر بالمبادرة العربية للسلام من خلال توفير آليات عملية لجعلها قابلة للتحقيق أو لتجبر إسرائيل على احترامها ، وفي نفس السياق منع أية دولة عربية من لعب دور سواء في إطار المصالحة الفلسطينية أو في إطار العلاقة مع إسرائيل بعيدا عن المبادرة العربية ، حيث نلاحظ أن دولا عربية- غير مصر والأردن- تتواصل مع إسرائيل وتُقيم علاقات معها وهو ما يتعارض مع المبادرة العربية .
6- تنشيط وتفعيل دور جامعة الدول العربية الخاص بالقضية الفلسطينية ، سواء فيما يتعلق بالمصالحة أو التسوية السياسية أو دعم الجهود الفلسطينية على مستوى الحراك الدبلوماسي الدولي ، او بالنسبة لمساعدة إنقاذ اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان .
7- تنشيط دور مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية العربية والإسلامية لدعم نظيراتها في الغرب والأمريكتين ، حيث تجري عملية مقاطعة واسعة لإسرائيل ، ومن المُعيب أن تكون حركة مقاطعة إسرائيل في الغرب أقوى منها في بعض الدول العربية .
8- استعادة حضور القضية الفلسطينية في الوعي والضمير الشعبي ،وفي هذا السياق يأتي في الدرجة الاولى دور الإعلاميين والصحفيين أيضا الأدباء والمثقفين بكل تخصصاتهم ، ومن الملاحظ ان بعض الإعلاميين الفضائيات وكأنهم تخصصوا في نشر ثقافة الحقد والكراهية تجاه الفلسطينيين وتحريض الشعوب العربية عليهم .
9- المساعدة في رفح المعاناة عن الفلسطينيين وخصوصا في قطاع غزة من خلال صيغة عربية توافقية برعاية مصرية حول تشغيل معبر رفح الحدودي ،بما لا يكرس الانقسام وإلى حين إنجاز المصالحة الفلسطينية الشاملة .
10- التأكيد على أن ما يجري في الدول العربية من فوضى وحروب أهلية لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية وأنه يتم توظيف اسم فلسطين لخدمة مشاريع وأجندة إقليمية تتعارض مع المشروع الوطني الفلسطيني كما تتعارض بل وتعادي المشروع القومي العربي .
الخاتمة
فوضى الربيع العربي لن تستمر إلى ما لا نهاية ، فبعد فترة قصيرة ستستقر الأمور وستتكشف كثير من الحقائق ، وأهمها الدور الغربي والإسرائيلي وبعض دول الجوار – تركيا وإيران – في تحويل مسار الربيع العربي من حراك شعبي عفوي مبتغاه الحرية والديمقراطية وتحسين شروط العيش إلى حالة من الفوضى والحروب المذهبية وتدمير الدول الوطنية القائمة .
بعد أن تصمت مدافع فوضى الربيع العربي سيكتشف العرب أن مدافع إسرائيل ما زالت مصوبة نحوهم وأنها أصبحت أكثر قوة وإنها كانت وستبقى العدو الرئيس ليس للفلسطينيين فقط بل للأمة العربية جمعاء . ستتحالف إسرائيل مع قوى وربما دول جديدة ستظهر على الساحة العربية كإفراز لفوضى الربيع العربي ، مما سيزيد من التحديات التي تواجه كل محاولة لتوحيد العرب أو استنهاض المشروع القومي العربي ، وستكون واهمة اية دولة عربية تعتقد أن إسرائيل ستسمح لها بالتقدم والازدهار والاستقرار حتى وإن كانت ملتزمة باتفاقية سلام معها .
ومن هنا تأتي اهمية تصويب وتمتين العلاقات الفلسطينية العربية ولكن على أسس جديدة وعلى قاعدة الالتزام بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إطار القانون الدولي والشرعية الدولية وفي إطار المبادرة العربية للسلام بعد تفعيلها وجعلها اكثر مصداقية وقابلة للتنفيذ .
– أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر في قطاع غزة- فلسطين ، وزير الثقافة الأسبق . بحث تم نشره في مجلة السياسية الدولية الصادرة عن مؤسسة الاهرام ، القاهرة ، العدد : 202 بتاريخ أكتوبر 2015 .*