نحو جمع ذاكرة فلسطينية ضائعة – معين الطاهر
إذا سلّمنا بالقول الدارج الذي يربط ذاكرة الشعوب بمستقبلها، فإنّ ثمّة ثقوباً عدة في الذاكرة الفلسطينية يجب ملؤها، وخصوصاً في الفترة التي أعقبت نكبة 1948 وحتى لحظتنا الراهنة. قبل هذا التاريخ، امتلأت المكتبة الوطنية الفلسطينية بعدد وافر من المذكرات والكتب التي تؤرّخ لتلك المرحلة، وتكشف بعضًا من أسرارها، حيث دوّن أكرم زعيتر يومياته، ونشر أوراقه ووثائقه، وأنشأ مصطفى الدباغ عمله الموسوعي ” بلادنا فلسطين”، وتحدّث محمد عزة دروزة عن النكبة، كما فعل عارف العارف، ولخّصت بيان نويهض الحوت نضال الشعب الفلسطيني حتى عام 1948 بعملها الأكاديمي المميز “القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948”.
لا شك أنّ ثمّة كُتّاباً وباحثين جادّين، وقامات كبرى قد كتبوا عن المرحلة التالية، وتناولوا جوانب مهمة فيها على صعيد الفكر السياسي، أو التأريخ، لا يتّسع الحيز هنا لتعداد مآثرهم، لكنْ ثمّة أسئلة كبرى ما زالت إجاباتها حائرة، وثمّة فراغ كبير في حيّز الذاكرة الفلسطينية، ينبغي على السياسيين والقادة والمفكرين والباحثين، وأولئك المناضلين والمناضلات الذين ساهموا كل بقدره في تشكيل المرحلة الممتدة منذ سنة 1948، أن يشاركوا جميعًا بتعبئته.
وهنا، يطرأ سؤال عن سبب غياب سردية فلسطينية موثقة لتلك المرحلة التي اختلطت، في بداياتها، معاناة النكبة بمأساة اللجوء، واندمج العمل الفلسطيني من أجل التحرير والعودة، أو الإعداد لهما، بالعمل السياسي والجهد العربي، وانخرط الفلسطينيون في الأحزاب العربية على اختلاف تلاوينها، وأصبحت نضالاتهم جزءاً من نضالاتها، وصار تاريخهم جزءاً من تاريخ الواقع العربي، وإن كانت فكرة العمل الفلسطيني قد بدأت بالتبلور في أوساط فلسطينية متعدّدة، وخصوصًا في قطاع غزة، منذ أواسط الخمسينيات.
لم تُوثّق بعد، وعلى نحو كافٍ، إرهاصات بدايات العمل الفلسطيني، ولا تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية في الضفة والقطاع ومناطق 1948 والشتات. ومن المستغرب أنّنا، وبعد أكثر من نصف قرن على إطلاق الكفاح المسلح، وأكثر من ستين عامًا على تأسيس حركة فتح، لا نملك بعد رواية مُوثّقة لبدايات تأسيس الحركة ومساراتها، وعندما حاول خليل الوزير كتابة كرّاس سماه “البدايات”، اضطر إلى جمع النسخ التي تمّت طباعتها وإتلافها، تجنبًا لحساسياتٍ كان من الممكن أن تثيرها تلك النسخة عن دور قيادات الصف الأول.
بعد سنة 1948، تشكّلت حكومة عموم فلسطين في قطاع غزة، وسرعان ما غادر معظم أركانها إلى الأردن. وبعد برهة وجيزة، رُحّل الحاج أمين الحسيني إلى القاهرة، قبل أن يغادرها منتصف الخمسينيات، وما أن غادرها حتى داهم أمن الدولة المصري مقرّ الهيئة العربية العليا، وصادر كل أوراقها. ويحدّثني غازي الحسيني، نجل الشهيد عبد القادر الحسيني، والمناضل المعروف، والذي كان فتىً يافعًا في القاهرة حيث استقرت عائلته، أنّ الأمن المصري بعد فترة قرّر التخلّص من جميع الأوراق التي صودرت من مقرّ الهيئة، وربما من مقرّاتٍ مصرية أخرى، فأعلن عن بيعها لتتحوّل إلى عجينة ورق، فاشتراها تاجر فلسطيني، يُدعى أبو علي شحتة، ليكتشف أبو علي أنّ جزءًا كبيرًا من الأوراق، يناهز الطن ونصف الطن، يعود للهيئة، فيفرزها، ويحتفظ بها في مستودعٍ سرعان ما تُؤمه الفئران، وللخلاص منها يتم رشّ الورق بمبيداتٍ تؤدي إلى إتلاف موجوداته.
امتد حظ مستندات الهيئة العربية العليا العاثر إلى بيروت، حيث أحرقت قوات الكتائب، خلال الحرب الأهلية، مقرّ الهيئة في الحازمية، بما فيه من مستنداتٍ وأوراق، لتُكمل الحرب ما بدأه الأمن، ولم يتبقَ من تراث الحج أمين الحسيني سوى الأوراق الموجودة في منزل شقيقتيه، والتي لم ترَ النور بعد، وقد تداعى، أخيراً، لفيف من أبناء العائلة وبناتها من أجل الحفاظ على هذه الثروة التاريخية.
في زمن منظمة التحرير الفلسطينية، انعكس الخطاب السياسي والدعائي على التوثيق التاريخي، لم تُسجّل رواياتٌ جادة ونقدية لمسار الكفاح المسلح، وبقي المئات جنودًا مجهولين، من منّا يعرف روايةً كاملة لمعركة الكرامة البطولية 1968، والتي كانت نقطة تحوّل بارزة في مسار العمل الفدائي؟ سمعنا كثيرًا عن بطولات الفدائيين الأبطال، وعن قرار المواجهة، لكنّنا لم نحظَ بروايةٍ أردنيةٍ فلسطينيةٍ كاملة وموحّدة، كما شاهدنا صور جثث جنود صهاينة، وهم في مدرعاتهم المحروقة. لكن، لم يتحدّث أحد عن الفدائيين الذين أُسروا في المعركة. وفي أحداث أيلول 1970، وخارج إطار الدعايات المضادة بين الحكومة الأردنية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، حدث تواطؤ صامت بين الطرفين على السكوت عن كل تلك المرحلة، على الرغم من أهميتها التاريخية على المسارين، الأردني والفلسطيني. تكرّرت تلك التجربة في لبنان، حيث أستطيع الزعم أن روايةً كاملةً بعيدة عن الضجيج الإعلامي والسياسي والفصائلي غير متوفرة حتى اللحظة الراهنة.
وللإنصاف، تتعدّى المسألة الرواية الرسمية للحروب والنزاعات التي مرّ بها الشعب الفلسطيني، فقد اجتهد أفراد وجمعيات تُمثّل روابط للعائلات والقرى والمدن، ومؤسسات بحثية عريقة في الداخل الفلسطيني وفي الشتات بتدوين التاريخ الشفوي، والانشغال بالبحث والتوثيق لمفاصل مهمة في تاريخ الشعب الفلسطيني. ولكن، وعلى الرغم من الجهد الجبار لباحثين متميزين، ولمؤسساتٍ رائدة، ولبعض الأراشيف واليوميات، فإنّ نقصًا شديدًا ما زال ملحوظًا في الذاكرة الفلسطينية.
نعترف أنّ الحروب، وظروف الثورة، والمطاردة السياسية، والاعتقال، والنفي، والتشريد،والاستشهاد المبكر أحيانًا لقادة وكوادر قد أثّرت تأثيرًا كبيرًا على عملية توثيق الذاكرة الفلسطينية. ولدينا عشرات القصص عن كيف أُتلفت الكتب، والنشرات، والوثائق، والمذكّرات تحسبًا من مداهمة أو اعتقال مرتقب، أو صودرت هذه الأوراق من الأجهزة الأمنية العربية، ولم تُرجع إلى أصحابها، بل إنّها كثيرًا ما استُخدمت دليل إدانة ضد أصحابها.
أمّا الحرب مع العدو الصهيوني، فكان لها نتائج كارثية على الأرشيف الفلسطيني، بدءًا من حرب 1948، حيث كان اقتلاع الذاكرة جزءًا محوريًا من عملية اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وتاريخه وتراثه. وفي حرب 1967، ونتيجة الانهيار السريع والمفاجئ للجبهات العربية، استولى الصهاينة على أرشيف الإدارة الأردنية بالكامل، (ماذا عن أرشيف الإدارة المصرية في القطاع؟) ومن ضمنه بطبيعة الحال الأرشيف الأمني، وقد نشر باحثون صهاينة نُتفًا من هذه الوثائق، وعندما حاول الباحث الفلسطيني، موسى البديري، الوصول إليه اصطدم بعراقيل شتى، كان آخرها قرار من الحكومة الإسرائيلية بالتحفظ على هذا الأرشيف؛ لأنّه يخصّ دولةً أصبح بينها وبين دولة العدو اتفاق سلام، وبالتالي، تُعتبر هذه الوثائق من أملاكها، ولها وحدها حق المطالبة بها، أو الاطلاع على محتوياتها.
يُمثّل هذا الأرشيف ثروة هائلة، تُغني الذاكرة الفلسطينية، من سنة 1948 وحتى 1967، فهو يشمل كل الإدارات في الضفة الفلسطينية، وفي مقدمتها الملف الأمني الذي عني بتوثيق كل أشكال العمل السياسي، والنشاط الحزبي، وحوادث الحدود، والاعتداءات، والتسلل. وغني عن القول إنّه شكّل لاحقًا قاعدةً أساسيةً لأجهزة استخبارات العدو، للتعرّف على الناشطين ومطاردتهم، ورسم صورة كاملة عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الضفة.
حسبنا هنا أن نُلقي نظرة سريعة على أربع وثائق، يستعرضها موسى البديري، وهي، بالمناسبة، توضّح النضج المبكر والحرفي لعمل أجهزة المباحث الأردنية، والتي كانت تُقدّم تقاريرها لقيادتها في عمّان. ففي تقرير مبكر مؤرَّخ في 1-1-1950 مّوجه إلى “سيدي الباشا”، ينتقد قائد منطقة نابلس تصرفات سليمان بك طوقان، الحليف الأساسي للحكومة في الضفة، وينتقد الحكومة في عمّان لعدم “التفات المسؤولين فيها لبقية الشعب، وانصياعهم لرغبات سليمان بك الذي يُوهم الحكومة أنَّ هنالك قلاقل وفتن، وأنّه وأعوانه وحدهم القادرون على وضع حدّ لها”.
وفي 28-12-1956 يسجل قائد منطقة القدس اجتماعًا في رام الله، ضم يحيى حمودة وإبراهيم بكر والنائب فائق وراد، وأسفر عن تأسيس نادٍ لمواجهة خصوم سياسيين، والطريف أنّ النائب عن الحزب الشيوعي، فائق وراد، قد اعترض على ضم النساء لهذا النادي.
ويذكر الرئيس أول (رائد) أحمد يعقوب، قائد مباحث نابلس سنة 1961، عدم ثقة الناس في الانتخابات، نتيجة التعقيدات التي وُضعت أمام المرشحين لقبول ترشيحهم، حيث اشتُرط الحصول على شهادة حسن سلوك، ولم تُمنح هذه الشهادة إلّا للنواب السابقين، ورُفضت بقية الطلبات، فتهكّم أهل البلد بقولهم إنّ المرشحين هم أربع عبيد (يبدأ اسم الواحد بعبد…)، وبيك (نعيم طوقان)، وأغا (راشد النمر).
ولم يسلم ياسر عرفات من كتابٍ بتوقيع الرئيس (نقيب) شوكت محمود، والذي أصبح لاحقًا وزيرًا لشؤون الأرض المحتلة، وكان في 25-1-1965 مديرًا لمخابرات الخليل، وفيه طلب من قائد الشرطة لإلقاء القبض على المدعو ياسر عرفات واقتياده مخفورًا، محددًا أوصافه وعمره.
تُرى، هل فكّرت الحكومة الأردنية بأن تطلب استرداد أرشيفها من العدو الإسرائيلي، كي تضعه في مكتبة إحدى الجامعات الأردنية، ليكون في متناول الباحثين؟ شرط ألّا يأتي في صناديق مغلّقة ليختفي مرة أخرى في الدهاليز وبين الأقبية، ويُصبح هباءً منثورًا، كما حدث مع أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، ولهذا المركز قصة تدمع منها العيون، فقد استولى الجيش الإسرائيلي على أرشيف المركز لدى اجتياحه بيروت سنة 1982، ونقل كل وثائقه وكتبه إلى داخل الأرض المحتلة. وحسناً، فعلت القيادة الفلسطينية، حينما وضعت شرطًا لاستعادة هذا الأرشيف ضمن اتفاقية لتبادل الأسرى. وبالفعل، نقلت طائرتان سويسريتان هذا الأرشيف موضبًا في صناديق خشبية محكمة الإغلاق إلى الجزائر، وبقيت الصناديق في عُهدة الحكومة الجزائرية أكثر من سنة، بانتظار أن تُقرر قيادة منظمة التحرير أين ستُنشئ مركز الأبحاث الجديد. وطال الانتظار، ولمّا لم يُتخذ قرار نهائي، سلمت الحكومة الجزائرية الصناديق إلى المعسكر الذي أقامته القوات الفلسطينية في الصحراء الجزائرية في منطقة تبسّة. ولم تتم المحافظة على الصناديق التي فُتحت وعُبث بمحتوياتها، وأكلتها رمال الصحراء وفئرانها.
لم تقتصر نتائج اجتياح بيروت 1982 على سرقة أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني، بل أدّت إلى تدمير هائل في مختلف أراشيف الفصائل والمؤسسات، بل والأفراد الفلسطينين. فقد أرشيف مؤسسة السينما الفلسطينية الذي يضم أكثر من 90 فيلماً، والجهات الفلسطينية التي كانت تعمل في بيروت، وأودعت أرشيفها لدى جهات أو أفراد، على أمل استرداده لاحقًا، فإنّ هؤلاء، وبينهم قيادات فلسطينية ولبنانية، أتلفوا هذه الأراشيف، فور اجتياح القوات الإسرائيلية المدينة، خوفًا من وقوعها بأيدي العدو الصهيوني، ناهيك عمّا حلّ بالمخيمات في الجنوب وبيروت.
وأضاف الانشقاق في حركة فتح ومنظمة التحرير في العام 1983 مأساة جديدة، فلم تعد دمشق مكانًا آمنا، وتراجع الاهتمام بالمحفوظات الموجودة لدى دوائر الإعلام والثقافة في الفصائل المختلفة، وثمّة شهادات تتحدّث عن التراب الذي يعلو الرفوف، وعن الوثائق التي اضمحلت واختفت.
ثمّة أوراق مهمة لم يُتح لها أن ترى النور بعد، ولعلّ من أهمها أرشيف الرئيس ياسر عرفات الموزّع بين تونس ورام الله (هل تم نقل أرشيف بيروت أم فقد؟)، وضاعت بعض وثائقه خلال أحداث الانقسام في غزة. لماذ لا يُرفع الستار عنه، وتوضع هذه الوثائق في متحف أو مركز للأبحاث؟ وخصوصًا أنّه لم يعد هنالك ما يُعتبر سرًا خارج الحسابات الضيقة المعنية بزيادة دور فلان عن دور علان. ينطبق هذا أيضًا على ما يمكن أن يتوفر من أراشيف لدى القيادات الكبرى، أو لدى ذويهم من بعدهم، وضرورة اعتبار هذه الأوراق ملكيةً عامةً للشعب الفلسطيني، من حقه أن يطلّع عليها.
لا يهدف هذا المقال إلى بثّ روح اليأس، بقدر ما يهدف إلى قرع ناقوس الخطر، هل نذكّر بأنّ الأجيال التي صنعت الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة قد تجاوزت العقد السادس من عمرها، وأنّ ثمة تاريخًا مهماً يكاد أن ينطوي معها، وأنّ كوادر فاعلة عديدة لم تروِ بعد قصتها، وأنّ مجموع هذه القصص والمذكرات والشهادات والتجارب هي التي ستوثّق ذاكرتنا الجمعية، وستضع مدماكًا رئيسًا في صياغة مستقبلنا، وهو ما يحتاج إلى جهد جماعي من قطاعات أكاديمية وبحثية وسياسية واجتماعية مختلفة.