نذالة الانتقام بعد عملية سجن جلبوع – منير شفيق
بعد أن تمّ اعتقال الأبطال الستة الذين حفروا نفق الهروب من سجن جلبوع، أمكن تجميع الكثير من تفاصيل العملية نفسها، وما لحقها من تفاصيل، مطاردةً واعتقالاً، وما نُقل من تصريحات شجاعة أدلى بها أولئك الأبطال بعد اعتقالهم، وهم يعانون أشد ألوان العذاب والنكال.
منذ أن أُعلن عن هروب الأسرى الستة من خلال نفق حفروه في سجنٍ يُعتبر من أشد سجون العالم منعةً، في وجه الحفر والأنفاق والإختراق ونجاح الهروب والإفلات منه.. منذ اللحظات الأولى اعتُبرت العملية حالة فذة واستثنائية، وتستحق الكثير الكثير من الإعجاب إلى حد يمكن وصفها بالمعجزة. طبعاً هي ليست معجزة، وإنما حدثٌ بشري مقاوم يشبه المعجزة.
شهدت السجون في العالم كله عمليات هروب، ولكن هذه العملية اختلفت بظاهرة فريدة من زاوية ما بعد النجاح من اختراق الجدران والخروج إلى الحرية. المشترك العام كان تأمين الهروب بعد الخروج إلى الحرية؛ إما من خلال إعداد مساعدة خارجية، وإما من خلال رجحان تأمين الهروب بسبب الفرص التي توفرها الظروف المحيطة بالسجن بعد الإفلات من جدرانه. إذ لا بد من أن يكون الهروب بعد الانطلاق مؤمناً، أو شبه متوقع إلى حدٍّ بعيد، وذلك لأن الهدف، في العادة، هو الخلاص من السجن.
المشترك العام كان تأمين الهروب بعد الخروج إلى الحرية؛ إما من خلال إعداد مساعدة خارجية، وإما من خلال رجحان تأمين الهروب بسبب الفرص التي توفرها الظروف المحيطة بالسجن بعد الإفلات من جدرانه. إذ لا بد من أن يكون الهروب بعد الانطلاق مؤمناً
لقد تبين من عملية الهروب من سجن جلبوع بأنها كانت عملية جهادية استشهادية ضد العدو الصهيوني، كما لو كانت هدفاً قائماً بذاته، أولاً وقبل كل شيء. أما فرص النجاح بعد الهروب فكانت ضئيلة جداً جداً، وغير مضمونة، بدليل أنهم أقدموا عليها من دون أن يؤمّنوا مساعدة خارجية؛ إما بسبب عدم إمكان تأمين ذلك في ظروف سجن جلبوع، وإما لضمان سرية نجاح العملية الأساسية، والتي هدفها الأول إنزال هزيمة بأمن الكيان الصهيوني.
أما الدليل الثاني فكانوا سعداء بنيل الحرية، ولو لبضعة أيام، وبعد ذلك فليكن ما يكون من الاستشهاد إلى التعذيب، أو العودة إلى الزنازين والسجن.
في بضعة الأيام هذه قد يصلون إلى الضفة، أو سيسيرون على أرض فلسطين 1948، فيصلون الناصرة وضواحيها، ويأكلون من ثمار مرج ابن عامر (السجادة المدهشة بألوان البساتين والحقول لمن يراها من علٍ). وبالفعل، ووجهوا بحواجز أمنية منعتهم من التوجه إلى الضفة الغربية. أربعة منهم اعتقلوا في الناصرة وما حولها، واثنان تمكنا من الوصول إلى جنين تحت النيران والاختباء في أحد البيوت لبضعة أيام أخرى، بعد اعتقال زملائهم، ليتم اعتقالهما بمعلومات أمنية دقيقة مشروطة بالحرص على عدم قتلهم، خوفاً مما سيسببه استشهادهم من ردة فعل شعبية؛ ضد سلطة التنسيق الأمني التي شاركت في مطاردة الأبطال الستة. وقد بدأت مهمتها منذ أن اكتشف هروبهم، وهذا ما أُعلن من جانب قيادة الأمن الصهيوني.
جاءت هذه العملية البطولية في مقاومة الكيان الصهيوني لتراكم فوق المعارك والعمليات التي يخوضها الشعب الفلسطيني لتحرير فلسطين، كل فلسطين من الناصرة والناقورة إلى أم الرشراش. وكانت ذات إشعاع خاص في الوعي الشعبي الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي، وستبقى رمزاً نضالياً يستتبع رموزاً في المقاومة والبطولة.
على أن هذه العملية، من حهة أخرى، أعادت إلى الواجهة مشكلة التنسيق الأمني الفلسطيني، واستمرار وجود السلطة الفلسطينية ودورها ووظيفتها. فإذا كانت حركة فتح قد رحبت بالعملية، وكان أحد كوادرها الشاب اللامع المناضل زكريا الزبيدي شريكاً بها، مع الخمسة من كوادر وقادة حركة الجهاد الإسلامي، فكيف تُفسّر مشاركة الأجهزة الأمنية في مطاردة الأبطال الستة، واعتقال اثنين منهم في جنين، الأمر الذي يضع فتح في إحراج شديد، والتباس يجب الخروج منهما؟
وقد تكرر هذا بأكثر من مناسبة كان آخرها في انتفاضة رمضان- أيار/ مايو 2021 في فلسطين، بما في ذلك في الضفة الغربية. وسوف يتكرر لاحقاً، ما دام الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة والانتفاضة في أعلى تصميم لمواجهة الاحتلال والاستيطان، والاعتداءات على المسجد الأقصى، وتهويد القدس، وشنّ الحروب ضد قطاع غزة، جماهير ومقاومة (هنا يرد على الصاع بصاعين).
وإلى متى تبقى فتح قلبها في مكان، وسيفها مع التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني؟ وإلى أي مصير ستنتهي سلطة رام الله دوراً ووظيفة؟
تبقى ملحوظة سياسية كشفتها هذه العملية، من بين ما كشفته، وهي ضعف الكيان الصهيوني، وتخبطه في مواجهة ما بعد انتصار الأبطال الستة في معركتهم، في كسر هيبة السجن الرهيب، وذلك في ردة الفعل الوحشية التي واجه بها اعتقال الأبطال الستة. فبدلاً من احترام البطولة والشجاعة الاستثنائيتين، كما تفعل الجيوش المحترمة في التعامل مع الأبطال من أعدائها حين يقاتلون بشجاعة فائقة، وهم تحت الحصار، إذ تؤدي لهم التحية بعد التغلب عليهم، انتقل إلى التعذيب والضرب المبرح، وتكسير العظام (مثلاً مع ما حدث لزكريا الزبيدي في تكسير فكه).
إن الكيان الصهيوني، وهو يتراجع وتُوجّه له الضربات راح يلجأ إلى الانتقام الجماعي ويُعامِل الأسرى الستة بالوحشية، يكون قد جمع النذالة مع الانتقام والضعف والتراجع، وذلك من علامات السرعة بالانهيار
ثم مال للانتقام من الأسرى كافة، ليشدد الخناق عليهم، ويحرمهم مما أحرزوه بنضالهم وتضحياتهم من مكاسب. ولكن الرد الشجاع الذي أبداه الأسرى بالإعداد للإضراب، والدخول في المواجهة والمعركة، اضطرت سلطات الاحتلال إلى التراجع الفوري، وإبقاء وضع الأسرى على حالهم السابق، عدا المضي في الاستفراد بأسرى الجهاد حيث وزعتهم على الزنازين، وعلى الغرف، ولم تسمح لهم كبقية الأسرى بأن تكون لهم غرفهم الخاصة. وهو ما يوجب أن يواجَه بحملة واسعة، لوقف هذا العقاب الجماعي بسبب عملية الهروب البطولية التي كان من بين أفرادها الستة خمسة من الجهاد. فهذا الانتقام يجب ألاّ يمر مرّ الكرام، ويجب ألاّ يُسمح به أو بالاستفراد بفصيل دون آخر، وكيف إذا ما كان قد صنع هذه المفخرة؟
إن الكيان الصهيوني، وهو يتراجع وتُوجّه له الضربات راح يلجأ إلى الانتقام الجماعي ويُعامِل الأسرى الستة بالوحشية، يكون قد جمع النذالة مع الانتقام والضعف والتراجع، وذلك من علامات السرعة بالانهيار.