نظرة في التاريخ العربي والإسلامي- منير شفيق
ثمة نظرية تستند إلى التاريخ وتنطحه. ولكنها لا تشعر كما يشعر الوعل حين ينطح صخرا. وقد وصفه الشاعر قائلا “كَنَاطِحٍ صَخرَة يَوْما ليوهنها/ فَلَمْ يَضِرْها وَأوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ” فهي تقدّم نفسها كمسلمة تاريخية. ولكنها، بالتأكيد ليست كذلك.
تلك النظرية يتبناها بعض القوميين العلمانيين، تقول: “إن العرب، بما يزيد على ألف ومائتي سنة، كانوا تحت وصاية غيرهم من الأقوام التي حكمتهم. فلم يحققوا ذاتهم، ولم يصنعوا تاريخهم. بل كانوا خارج التاريخ”؟ وهنا يشار إلى عهود حَكَمَهم فيها البويهيون والسلاجقة والطولونيون والأيوبيون والمماليك والألبان والزنج والعثمانيون وغيرهم.
هذه النظرية تتأسّس على رؤية تستند إلى المفهوم الغربي الحداثي للقومية وللعلاقات بين الأقوام. ومن ثم فهي رؤية للتاريخ لعربي الإسلامي من الخارج تتسّم بالجزئية والسطحية. ولم تتعمّق في فهم العلاقة بين الأمّة العربية والإسلام كما بين الأقوام الإسلامية التي دخلت دار الإسلام من خلال الفتوحات العربية والإسلامية.
قبل الدخول في الرد التفصيلي/الموجز على هذه النظرية يمكن أن تُرمى في وجهها الحقيقة الواقعية التالية: إذا كان هذا التاريخ الممتد منذ ألف ومائتي سنة قد همّش العرب وأخرجهم من التاريخ فكيف تشكلت هذه الأمّة العربية الممتدة على رقعة من الأرض من المحيط إلى الخليج، وعلى التحديد عبر ذلك التاريخ. وكانت تلك الرقعة من الأرض من قبل، في أغلبها، تتشكل من عدّة أقوام ولغات وأعراق وثقافات وحضارات. الأمر الذي يعني أن تلك الرقعة من الأرض كانت البوتقة التي تشكلت فيها الأمّة العربية الراهنة. فهي ليست عرقية منحدرة من عدنان وقحطان فحسب وإنما هي اختلاط جماع تلك الأقوام واللغات والثقافات والحضارات عبر عملية تاريخية طويلة كان العامل الأساسي فيها حمل العرب لرسالة الإسلام وانتشار العربية. بل اسهم في تشكلها أمّة عربية من المحيط إلى الخليج عدد من العهود التي كان حكامها من غير اصول عربية. ولكنهم اعتبروا تلك الدار (المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج) وما حولها دارهم ولغة القرآن لغتهم وبنوا مجتمعين ما يمكن تسميته بالحضارة العربية الإسلامية. ولهذا تفصيل لاحق.
فالأمّة العربية ليست أمّة مشكّلة من عرق واحد. وقد جعلها الإسلام أمّة منفتحة يمكن لكل من يسكن الدار الممتدة من المحيط إلى الخليج أن يدخل فيها ويصبح جزءا منها وحتى وهو حاكمها. وقد جاء من أقوام آخرين. ومن ثم لا يمكن أن يُفهم تاريخ العرب ما لم تفهم طبيعة العلاقة التي قامت بين العرب والإسلام كما بين العرب والأقوام التي أسلمت، أو في ما بين رابطة الإسلام والعلاقات بين الأمم والشعوب الإسلامية أو المسلمة، ولا سيما مع الترك والفرس.
وهنا يمكن أن نفرق ضمن هذه الرابطة العامة في ما بين ثلاث حالات من الذي حكموا في البلاد العربية عبر تلك المرحلة التاريخية. وقد حملت كل حالة سمات خاصة ضمن السمة العامة – رابطة الإسلام.
الحالة الأولى والأهم في تشكّل الأمّة العربية الراهنة هي حالة الشعوب التي كانت تسكن المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج وإلى جانبها الحكام والأقوام من غير الأصول العربية وقد توطنوا في تلك المنطقة وقطعوا، أو انقطعت، علاقتهم بمواطنهم وشعوبهم الأصلية مثل حالة المماليك، أو الفرق العسكرية الإنكشارية كحالة محمد علي الكبير الألباني في مصر.
فبعض هؤلاء الذين حكموا جاء بهم الحكام العرب ليكونوا جندا للدولة كالمماليك، ثم تمكنوا من أن يصبحوا حكام البلاد. أما الحالة الثانية فتتشكل ممن حافظوا على تماسكهم ولغتهم مثل الأمازيغ والكرد فقد اعتنقوا الإسلام، وأصبحوا جزءا من دار الإسلام العربية، شأنهم شأن العرب القحطانيين والعدنانيين، وبعضهم وصل إلى القيادة على مستوى الفقه والعلم والثقافة (الشعر والأدب) وإلى الحكم. ولم يُعتبروا قوما غرباء. ولم تقم بينهم وبين قوم العرب ما يُعرف بالنزاع العرقي أو الإثني لا من جانبهم ولا من جانب العرب. أما ما كان يقوم من نزاعات وصراعات فلا علاقة له بلغة أو عرق وإنما كانت تتعلق بالظلم والإجحاف من جانب الحاكم. بل كان الحاكم الذي يذود عن البلاد ضدّ الغزاة الأجانب محط حب الجماهير باعتباره واحدا من الأمّة. وهو ما انطبق أيضا على حكام المماليك وما دار من صراعات في ظلهم.
فعلى مستوى العرب أكان على مستوى الناس أم العلماء أم النخب فلم ينظروا إلى حكم أي من المماليك أو الأمازيغ أو الكرد أو الزنج باعتبارهم محتلين غرباء. ولم يقيموا العلاقة بهم على أسس تعود لأصول عرقية أو قومية. ولم يتعاملوا مع أي عالم أو شاعر أو أديب انطلاقا من أصوله الإثنية أو الشعوب أو الأمم التي جاء منها. فأخوة الإسلام التي حملها العرب ولسان العرب كانا الغالبين في تلك العلاقات كما في الوعي والمشاعر:
فمثلا لم يسأل أحد أبا حنيفة أو سيبويه أو أبا نواس من أين جاءوا. فهم من “صُنع” الكوفة والبصرة وبغداد. فهاهنا نشأوا وتثقفوا وترعرعوا وعلموا وأبدعوا وأسهموا في الثقافة والحضارة العربية أو في عالم الفقه.
والحاكم المملوكي، وعلى مدى مئات السنين انتسب إلى الأرض العربية وللدولة العربية الإسلامية التي حكمها. وكان يذود الأعداء عنها باعتبارها بلده وشعبها شعبه وهو جزء من أمتّها. بل هو مملوك دولتها التي يحكمها. ومن ثم لا يمكن إلاّ أن يُعتبر جزءا عضويا أصيلا من أمّة العرب ومن التاريخ العربي الإسلامي. ولعل من الخفة اعتباره أجنبيا حكم العرب. هذا ويدخل المسيحيون العرب في هذه الحالة سواء من كانوا من أصول عربية أم غير عربية فقد حافظوا على دينهم وطقوسهم. وكانوا جزءا من أمّة العرب ومن الحضارة العربية الإسلامية التي أسهموا في ثقافتها ومختلف جوانب النهضة فيها.
وبكلمات أخرى في أي إطار أو مكان توضع معركة حطين التي قادها صلاح الدين الأيوبي. فهي وصلاح الدين وعهد الدولة الأيوبية جزء من تاريخ العرب ومن تاريخ الإسلام، ولا إشكال إذا اعتبره الكرد أيضا جزءا من تاريخهم. فصلاح الدين من إقليمي سورية ومصر العربيين ومعاركه ضدّ الفرنجة معارك العرب. فبأي منطق يؤرّخ قومي عربي لتاريخ العرب ويُخرج منه صلاح الدين باعتباره كردي الأصل، أو يُخرج العرب من ذلك التاريخ وهم كانوا لحمته وسداه.
وأن الأمر لكذلك بالنسبة إلى يوسف بن تشفين في المغرب مثلا فهو أمازيغي وعربي سواء بسواء ومثله الكثيرون من قادة وعلماء وأدباء. ولم يتحدث أحد عن تفريق إثني بين أمازيغ وعرب من قبل.
ثم ما القول في الملك قطز والظاهر بيبرس ومعركة عين جالوت على سبيل المثال، أيضا. فالأرض التي وقفا عليها ودافعا عنها وانتسبا إليها وذابا في شعبها بقرارهم وخيارهم وطبيعة وجودهم هي مصر العربية. فكيف يجوز لأحد أن يتحدث عن ذلك التاريخ إلاّ باعتباره تاريخا عربيا وتاريخا إسلاميا. ومن ثم لا يمكن أن ينسبه إلى تاريخ الشعوب التي انحدروا منها. وقد انقطعت كل صلة بينهم وبينها، أو بينهم وبين شعوبهم الأصلية منذ مئات السنين.
وهذا ما ينطبق أيضا على العلماء والشعراء والأدباء وغيرهم ممن ترجع أصولهم لغير العرب. ولكنهم توطنوا في الأرض العربية وأسهموا في تراثها وثقافتها وحضارتها الإسلامية بلسانها العربي وكانوا من نتاجها، حين ولدوا فيها أو وفدوا إلى عواصمها، في الفقه والأدب والشعر. فالعربية كانت لهم اللسان وأرضها كانت الموطن لهم فقد ترعرعوا وأبدعوا بين ظهراني العرب، أو في الأدق ترعرعوا وأبدعوا في البوتقة التي كوّنت الأمّة العربية بصورتها الراهنة.
ولأن الأمر كذلك دخل كل ما تقدّم في تلك البوتقة (البلاد) التي هم من أركانها كما عدنان وقحطان من أركانها. فمصر مثلا أصبحت عربية إسلامية في ظل الطولونيين الذين انحدروا من أصول تركية. فالعرب منذ أن حملوا رسالة الإسلام وبنوا أوّل دولة إسلامية. وقد اتسّعت وانضمت لها أعراق وأقوام كثيرة كانوا أمّة جاذبة مستوعبة لا تفرّق بين عربي وعجمي من سكانها ورعاياها كما اقتضى الإسلام. ولم تجعل الحكم حكرا للعرب فلا ترضى إلاّ بالحاكم العربي. ولم تكن نابذة لأحد من المنتسبين لدارها أكانوا في الأصل من أقوام أخرى أم تبعوا دينا آخر غير الإسلام.
ولهذا تشكّلت الأمّة العربية من المحيط إلى الخليج من الشعوب والأعراق والأديان والأفراد انصهروا في بوتقتها منفعلين وفاعلين. وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من تاريخها وحضارتها ومكوّناتها. فمن يتكلم على المماليك ويخرج بنظريات، مستندا إلى أصولهم، ليسأل: ماذا بقي من ألبانية محمد علي وأسرته أو من الأصول التركية للطولونيين أو الصقالبة الذين استقرّوا في هذه المنطقة.
أما الكرد والأمازيغ ممن حافظوا على وجودهم كشعوب فكانوا جزءا من دار الإسلام العربية. ولم يقم أي تناقض بينهم وبين العرب سواء أكان الحاكم منهم أم كان من أصل عربي أو تركي أو سواه. وما دعوات اليوم للانفصال أو التشكل في دول قومية إنما هي ابنة الحداثة والتغرّب. ولم تُعرَف طوال تاريخ امتدّ إلى أكثر من ألف وأربعماية عام.
ومن هنا لا يمكن أن يُقرأ تاريخ شعوب هذه المنطقة إلاّ من خلال فهم طبيعة العلاقة التي أقامها الإسلام داخل ما يُعرَف الآن بالبلاد العربية. وكذلك الحال بالنسبة إلى العلاقة التاريخية التي قامت بين العرب من جهة وبين الأمتين الفارسية والتركية في كل من تركيا وإيران وهي الحالة الثالثة. فهذا التاريخ يجب أن يُقرَأ أيضا ضمن الإطار الإسلامي في عهدي الدولة العثمانية والدولة الصفوية. كما في العهود السابقة بالنسبة إلى العلاقات في عهد الدولة العباسية وكل من شعوب إيران وبلاد آسيا الوسطى.
ولهذا كله تفصيل آخر غير المتعلق بالمنطقة من المحيط إلى الخليج والتي أصبحت تعرف بالبلاد العربية، موضوع هذه المقالة. ولكن يجب أن يلحظ أن في المنطقة العربية – التركية – الإيرانية ثلاثة أمم كبرى: الأمّة العربية والأمّة الإيرانية والأمّة التركية ضمن معادلة الأمّة الإسلامية التي يشكل الإسلام رابطها الأساسي فضلا عما عرفته العلاقات في ما بينها من روابط توحيدية وصراعات جيو-سياسية عبر التاريخ الممتد أربعة عشر قرنا.