“هذيك الأيّام” : سليمان جبران
رفضتنا حيفا.. فاستقبلتنا تل أبيب في الأحضان!
تل أبيب لم تكن على البال ولا على الخاطر. لكنْ رفضتنا جامعة حيفا، فاستقبلتنا تل أبيب في الأحضان. “أهله في القرية شيوعيّون كلّهم”- هكذا كان قرار الشين بيت في الشمال، فسدّ بذلك طريقنا إلى الجامعة في حيفا. قرار الشين بيت كان في جامعة حيفا يومها فصل المقال. لا يُصدّ ولا يُردّ!
بعد ما جرى معنا في جامعة حيفا، من مطامح مفاجئة فإحباط سريع، محوت الجامعة من فكري. أعمل في المدرسة الثانويّة في الشمال، كما اقترح عليّ الأستاذ الألماني، قلت في نفسي. تعليم اللغة العربيّة في مدرسة ثانويّة كان، أوّل الأمر، أقصى مطامحي. مالي وللعمل في الجامعة. الطمع ضرّ ما نفع!
لكن شاءت الصدف في تلك الأيّام، صيف 1970، أن أتلقّى دعوة لحضور عرس أحد الأصدقاء في كفرياسيف. الصديق المذكور كان شاعرا ربطتني به صداقة قديمة، من أيّام المدرسة الثانويّة في كفرياسيف، وكان من أوائل من درسوا في الجامعة العبريّة. معارفه من طلّاب جامعة وأساتذة كانوا كثيرين. بل كان بينهم أساتذة من جامعة تل أبيب أيضا. كانت جامعة تل أبيب يومها في طور البناء ، وأقسام كثيرة فيها كانت تابعة للجامعة العبريّة في القدس. قسم اللغة العربيّة مثلا.
في عرس الصديق الطيّب الذكر من كفرياسيف، التقيت بكثيرين. من المعارف القدامى في كفرياسيف والمنطقة، وكثيرين من الأساتذة في الجامعات الإسرائيلية أيضا. بعض هؤلاء الأساتذة عرفتهم في جامعة حيفا، وكثيرون لم أعرفهم، فأسلّم عليهم أو نتبادل الحديث.
من بين الأستاذة الذين لبّوا الدعوة، فقدموا للمشاركة في عرس الصديق المذكور، كان دكتور عراقي. أستاذ عربيّ الثقافة، يهوديّ الدين. الدكتور المذكور كان في أوائل الخمسينات شيوعيّا، قدم من العراق في الموجة الكبيرة من اليهود العراقيّين. بل نشر بعض أشعاره اليساريّة في صحف الحزب. في “الجديد” بشكل خاص. سلّمت على الدكتور العراقي، كما سلّمت على كثيرين غيره، بل تبادلنا محادثة قصيرة في الأدب والشعر أيضا. قبل أن نفترق قال لي الدكتور العراقي بالحرف: إذا جئت تل أبيب اتّصل بنا مسبقا فنلتقي.
الدكتور العراقي المذكور كان على علم بكلّ ما جرى معي في جامعة حيفا. من زميله الدكتور الفرنسي الذي عرف كلّ التفاصيل لما جرى معي في حيفا، كما أسلفنا. أمّا أنا فكان الحديث معه في نظري حديثا عابرا. مجاملات لا أكثر. مع ذلك كانت دعوته إلى لقائه في تل أبيب غريبة في نظري. وإن كانت بأسلوب الشرط ! ماذا قصد بقوله لي حين افترقنا: إذا جئت تل أبيب أخبرني سلفا فنلتقي؟ هل لدعوته الشرطيّة هذه صلة بالعمل في جامعة تل أبيب ؟ هل أسافر إلى تل أبيب، فألتقي به هناك لأستجلي غايته من دعوته للقائنا في تل أبيب؟ هل في جامعة تل أبيب فرصة للعمل؟
الدكتور العراقي المذكور أنهى الثانويّة في بغداد، وهاجر مباشرة إلى إسرائيل في الموجة الكبيرة أوائل الخمسينات. معرفتي به لم تتعدّ قراءة ما كان يكتب في الصحافة الشيوعيّة أوائل الخمسينات، من شعر شيوعي، في المبنى التفعيلي الجديد، ونقد أدبي تقدّمي أيضا. في أواخر الخمسينات، كما عرفت منه لاحقا، التحق بالجامعة العبريّة في القدس، ودرس اللغة العبريّة والألسنيّة الساميّة، فحصل في هذا الحقل على اللقب الأوّل والثاني. بل عمل سنوات سكرتيرا لأكاديميّة اللغة العبريّة في القدس. ثمّ سافر إلى أكسفورد ليتابع دراسته في الألسنيّة العبريّة.
لكن شاءت الصدف أن يلتقي هناك بأستاذ كبير من مؤسّسي الجامعة في تل أبيب. لماذا لا تكتب رسالة الدكتوراه في الأدب العربي بالذات؟ نحن في حاجة إلى دكتور في الأدب العربي، ليبني قسم اللغة العربيّة في الجامعة عندنا، فاجأه الأستاذ ذاك. في الماضي كتبتَ الشعر العربي، وليس صعبا عليك كتابة رسالة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث، أردف الأستاذ. المقترَح المذكور راق الأستاذ العراقي، فكتب دكتوراه في أدب نجيب محفوظ، بإشراف أستاذ مصري معروف في جامعة أكسفورد، وعاد إلينا دكتورا في الأدب العربي الحديث بالذات.
دعوة الدكتور العراقي الشرطيّة لزيارته في تل أبيب، وضعتني على مفرق مصيري يتفرّع إلى طريقين. الواحد قد يكون على حساب الْآخر فيُلغيه. إذا قصد الدكتور العراقي أن يعرض عليّ العمل في جامعة تل أبيب، كما أخبرني حدسي، فذاك طريق قد تتغيّر به حياتي، إذا سلكته، في كلّ شيء. وإذا كان لقاء عاديّا، نشرب فيه القهوة ونتحدّث، في الأدب والشعر، فلن أخسر شيئا طبعا، سوى أجرة الباص!
هكذا قرّرت، ولم يبارحني الشكّ في جدوى السفر إلى تل أبيب، اختيار هذه الطريق بالذات. واليوم كثيرا ما أقف، وأنا أتأمّل شريط الماضي ذاك، فأسأل نفسي: أهي المصادفة وحدها، “خبط العشواء”، جعلتني أحزم أمري فأسافر إلى تل أبيب، أم كان سفري إلى هذه المدينة البعيدة تقرّر سلفا، فرضخت إلى هذا الخيار مُجبرا ؟ بكلمة أخرى: مسيّر أنا في هذه الحياة، أسير في مخطّط موضوع سلفا، أم تُراني سيّد مصيري، مالكا زمام مستقبلي ؟ “أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير” ؟ ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال، وأنا أيضا لست أدري، صدّقوني!
سافرت إلى تل أبيب. هناك التقيت بالدكتور العراقي. شربنا القهوة في كافيتيريا بناية غلمان – بناية العلوم الإنسانيّة. بدأت جلستنا بحديث طويل تناول الأدب العربي الحديث. طال الحديث ذاك، وأنا أسأل نفسي طوال الوقت: ألهذا جئت من حيفا إلى تل أبيب؟ نظرة عامّة على تاريخ الأدب العربي الحديث ؟ بعد الحديث المستفيض في بدايات أدب النهضة، وصلنا الجملة التي انتظرتها وقد نفد صبري. قال الدكتور العراقي في ختام قعدتنا تلك: اِسمع سليمان. أريدك معيدا في الجامعة عندنا. لكنّ الأمر ليس سهلا. السنة الجامعيّة على الأبواب. نحن في شهر آب، وبرامج السنة الجامعيّة جاهزة كلّها طبعا. لكنّي سأحاول. انتظر رسالة مني، على كلّ حال، أنقل لك فيها ما يجدّ من أمور بهذا الشأن. أرجو خيرا، لك ولنا!
بعد أيّام وصلتني من الدكتور العراقي رسالة في البريد. رسالة مكتوبة على الطابعة، التايب رايتر. طبعا لم تكن يومها حواسيب في البيوت، ولا كنا سمعنا بالإيميل، هذا المخترع المدهش ينقل الرسالة، مهما طالت، آلاف الكيلومترات في لحظات! أخبرني في رسالته البريديّة تلك أنّ الجامعة وافقت على مقترحه، وأني سأتلقّى في أقرب وقت تعيينا رسميّا من سلطاتها، لأبدأ عملي في شهر تشرين الأوّل المقبل.
فرحت بالرسالة طبعا. تحقّق مبتغاي. يبدو أنّ الشين بيت لم يعرف بالمستجدّات. أو لعلّه لم يكن صاحب القرار في جامعة تل أبيب. لم يسألني أيّ إنسان سؤالا واحدا في السياسة. هل تختلف تل أبيب عن حيفا، سألت نفسي. أتراها مؤسّسة أكاديميّة بحقّ، تُعنى بالعلم، وبالعلم فقط. وإلّا فما معنى بدء الدكتور العراقي العمل فيها، وهو من كان شيوعيّا حزبيّا معلنا ؟!
سفرة واحدة إلى تل أبيب غيّرت مسار حياتي، ورسمت لي طريقي حتّى آخره. تُرى لماذا سافرت إلى تل أبيب، ولم أختر طريق التعليم في المدرسة الثانويّة في الجليل، وكان قبل حين أقصى مطامحي ؟ أتراني سيّد مصيري، مالكا زمام أمري؟ “أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير؟”. ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال، وأنا لست أدري، صدّقوني!