هل بدأ مَسَار انهيار الإمبريالية الأمريكية؟ – الطاهر المعز
تَنْشُر وسائل الإعلام وكذلك الدّوريات والمُؤسسات المتخصصة بيانات تُؤَشِّرُ لتراجع دور الإمبريالية الأمريكية في العالم، بسبب تفاقم المشاكل الدّاخلية وزيادة مَرْكَزة الثروة بين أيدي القِلّة من الأثرياء، مما يُعَمِّقُ الفَجْوة الطبقية بين رأس المال والعمل، بين العاملين و”المُسْتَثْمِرِين”، أي الرأسمالِيِّين، وبين الفُقراء والأثرياء، بشكل عام، وكذلك بسبب الإفراط في استعراض القُوة (ومنها القُوّة العسكرية) في الخارج، وفرض مصلحة الرأسمالية الأمريكية، دون مُراعاة مصالح الحُلَفاء، أو من يُفْتَرضُ أنهم حُلفاء أمريكا… يستنتج البعض من الأصدقاء إن الإمبريالية الأمريكية في حالة ضعف وانهيار، وقد يكون ذلك صائبًا، لكنه مَسار طويل، وغير مَضْمُون العواقب لنا كشعوب وكادحين وفُقَراء عرب، إذا لم نُغَيِّرْ واقِعنا بأنْفُسِنا، لأن انهيار الولايات المتحدة وصعود الصين أو الإتحاد الأوروبي أو روسيا، لن يُفِيدَنا، ولن يُعيد لنا فلسطين ولواء إسكندرون والأهواز وسبتة ومليلة، ولن يُحَرِّرَ العُمال والفلاحين والحِرَفِيِّين العرب وغير العرب من الإستغلال والإضطهاد…
في ما يلي فَقْرَتان من أعداد لاحقة لنشرة الإقتصاد السياسي بشأن هذه المُؤَشِرات، مع التّذْكِير ببعض أسباب الحَذَر من المبالغة في التّفاؤل…
أمريكا- ديمقراطية أم “هَمَجِيّة مُوَجّهة”؟ نشأت الولايات المُتّحدة على جماجم السكان الأصليين، وحصل فيها التراكم البدائي لرأس المال من عرق ودماء سكان إفريقيا الذين اصطادهم سلاح ال”واسب” (البيض الأوروبيون البروتستنت) وجلبوهم بالسفن ليعملوا حتى الموت في مزارع الأمريكيين الأوروبيين البيض… هذه بدايات الولايات المتحدة، أما حاليا، فيتشَدَّقُ رُؤساؤُها ومنظماتها وزعماء أحزابها بالديمقراطية ويريدون تلقين العالم دُرُوسًا في الديمقراطية، ولكن المجتمع الأمريكي أحد أعنف مجتمعات العالم، حيث تتعمّق الفجوة بين الأثرياء والفُقراء، ويعتبر معظم الأمريكيين (نتيجة التظليل وفرض الإيديولوجيا السّائدة على العُقول) إن شراء وحمل السلاح النّاري ممارسة حضارية لِلْحُرّيّات الفَردية، مما يُثْرِي صانعي وبائعي السلاح الفردي، ويدعم الحركات اليمينية والعنصرية المتطرفة، وذَكَرْتُ بنهاية كل فَقْرَة مصدر المعلومات الخام…
بلغ عدد سُكان الولايات المتحدة حوالي 320 مليون نسمة سنة 2014 وأحصت الدولة (الإتحادية) 371 مليون قطعة سلاح فردي لدى الأفراد ورجال الشرطة، أو نحو 89 قطعة سلاح لكل 100 مواطن أميركي، ما يعادل نسبة 35% من الأسلحة الفردية في العالم، فيما لا يُشَكِّلُ سكان الولايات المتحدة سوى 5% فقط من إجمالي عدد سكان العالم، ويُمكن شراء الأسلحة النارية الفردية من متاجر مُختصّة، مرخص لها أو بواسطة موزعين خصوصيين. أنتجت مصانع السلاح 5,5 ملايين قطعة سلاح فردي سنة 2011 بيعت نسبة 95% منها في السّوق الدّاخلية الأمريكية، وصَدّرت 5% إلى الخارج، وكانت 31% من الأسر الأمريكية تمتلك سلاحًا في المنزل سنة 2014، وهي أدنى نسبة منذ 40 عاما، وارتفعت النسبة كثيرًا منذ انتخاب “دونالد ترامب” رئيسًا، وتحتكر نحو 20% من مالكي السلاح نحو 65% من الأسلحة الفردية في البلاد، وتتفق جميع المصادر على عدم تدقيق الباعة في السجل القضائي للأشخاص الذين يشترون السلاح، ونتيجة لهذا الإنتشار الكبير للأسلحة النّارية، حَدَثَتْ 14249 جريمة قتل في الولايات المتحدة خلال سنة 2014 من بينها 9675 بواسطة الأسلحة النارية أي 68% من هذه الجرائم، ووقعت 5,9 مليون جريمة عنف في الولايات المتحدة سنة 2014 وارتكب 10% منها أي حوالي 600 ألف جريمة، جناة كانوا يحملون أسلحة بشكل ظاهر عند ارتكابها، فيما ارتكب ذَوُ السوابق العدلية باستخدام السلاح الناري 56% من جرائم الاعتداء و 30% من السرقات و 39% من جرائم الاغتصاب و 65% من جرائم القتل التي تم إبلاغ الشرطة عنها سنة 2014 ارتكبها أشخاص معروفون لدى السلطات القضائية الامريكية، وتشير بيانات سنة 2011 إلى سقوط 33 ألف شخص ضحية جرائم بواسطة السلاح الناري أي بمعدل 268 شخص في اليوم الواحد، وبلغ معدل ضحايا السلاح (سنة 2011) اكثر من عشرة أشخاص من بين كل 100 ألف أمريكي، ومعظم الضحايا من المواطنين السود، وتُشكل النساء الأمريكيات 95% من ضحايا السلاح الناري في العالم، ورغم ارتفاع عدد الضحايا، ارتفعت نسبة المدافعين
عن اقتناء الأسلحة الشخصية من 30% منتصف تسعينيات القرن العشرين إلى 50% بعد عقدَيْن (سنة 2015)… وردت هذه البيانات عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المُخدّرات والجريمة وعن وكالة “أسُّوشيتد برس” 04/10/2017
الدولار أحد أدوات الهيمنة الأمريكية: تستخدم الولايات المتحدة ترسانتها العسكرية الضّخمة للهيمنة على العالم، وتستخدم أيضًا (بالتوازي مع السلاح) أدوات أخرى، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، بعضها سياسي (منظمات الأمم المتحدة و”حقوق الإنسان” و”المُساعدة الإنسانية”، وتمويل ما يُسَمّى “المجتمع المدني”…) وبعضها اقتصادي ومالي، ومن ذلك هيمنة الدولار، سواء لمّا كان مرتبطًا بالذهب أو بعد فك هذا الإرتباط، سنة 1971، الذي فرضته الولايات المتحدة ليصبح “العملة المعيارية” شبه الوحيدة (أو هي الأولى) التي تُحدّد قوة وضعف باقي العُملات في العالم، بالإضافة إلى ارتباط سوق الطاقة وعملات الخليج وغيرها بالدولار، ومن مظاهر هذه الهيمنة، تَتِمُّ 85% من عمليات التجارة الدّولية بالدولار، الذي يُمثِّلُ كذلك أكثر من 60% من احتياطات الأرصدة المالية في العالم، ولهذين السَّبَبَيْن (وغيرهما) يتأثر الإقتصاد العالمي وحركة التجارة الدّولية وأرصدة المصارف المركزية ودُيون الدّول والشركات، بأي تقلّب أو تذَبْذُب يحصل على سعر الدولار، وتتحول وجهة رؤوس الأموال (الإستثمارات) الباحثة عن الرّبح ولا شيء غير الربح، بحسب قرار الإحيتاطي الإتحادي الأمريكي (المصرف المركزي) رفع أو خَفْضَ سعر الفائدة، فتحدث أزمات بسبب خروج الأموال “السّاخنة” من ما يُسَمّى الإقتصادات “النّاشِئة” عند رَفْع الإحتياطي الأمريكي سعر الفائدة، وهو ما يحدث حاليا في تركيا (رغم وجود أسباب أخرى للأزمة)، مما يُسَبِّبُ خفض قيمة العُملة المَحَلِّية وارتفاع الأسعار ونسبة التّضخم (لأن المواد المُسْتَوْرَدَة مُقَوّمة بالدولار، ولأن الدولار يمثل 85% من العُملات المُتداولة في التجارة الدّولية) ونسبة البطالة، وغير ذلك من التّداعِيات، ومما يزيح الشّرْعِية عن هذا النّظام الإقتصادي العالمي، الذي تتلاعب به الولايات المتحدة، وفق مصالح شركاتها العابرة للقارّات…
بَدأ دور الدّولار يتراجع قليلاً لصالح اليورو الأوروبي، لكن الإتحاد الأوروبي مرتبط في نفس الوقت بالولايات المتحدة وحلفها العسكري، حلف شمال الأطلسي – “ناتو”، وللولايات المتحدة قواعد عسكرية ضخمة في أوروبا (إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا واليونان…)، أو يتراجع لصالح عملات أخرى كالين الياباني واليوان الصيني، لكن حصة هذه العُمُلات مجتمعة ضعيفة، من حجم التبادل التجاري الدولي وحجم احتياطي العملات في المصارف المركزية… تستخدم الولايات المتحدة الدولار كأداة هيمنة على التجارة الدّولية، فهي تُخَفِّض قيمته وتُخَفِّضُ سعر فائدة قروض الشركات، بهدف خفض سعر التكلفة وزيادة حجم صادرات الولايات المتحدة في العالم، وخفض العجز التجاري المُسْتَمِر والمتزايد، وتُمثل زيادة حصة الولايات المتحدة من التجارة الدولية إحدى أسباب “الحرب التجارية” الحالية التي أعلنها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” ضد الحلفاء ( إن كان للولايات المتحدة حُلفاء) والمنافسين والخصوم، ومن تعتبرهم “أعداء”، أي ضد كل العالم، وهو ما يفسِّرُهُ البعض كتعبير عن بداية انهيار القُوّة الأمريكية، وإذا كانت أمريكا في حالة انهيار فسيكون بَطِيئًا جِدًّا قد يَدُوم عُقُودًا طويلة، لكن لفائدة من؟ أو أي قُوّة سَتحتل مكان الولايات المتحدة؟ وما مدى استفادة الشعوب المُضْطَهَدَة والطبقة العاملة وصغار المُزارِعِين والحِرَفِيِّين في العالم، وفي الولايات المتحدة من هذا الإنهيار، إن حَصَل؟
هناك تَغْيِير (بوتيرة بطيئة) في موازين القُوى الإقتصادي في العالم، وتَرَاجُعٌ في ثقل حصّة الدّولار، إذْ انخَفَضَ نصيب الدولار من الاحتياطي العالمي للعملات خلال الربع الأول من سنة 2018 إلى أدنى مستوى خلال السنوات الأربع الماضية، بينما زادت حصة اليورو واليوان والجُنَيْه الاسترليني، وفق بيانات صندوق النّقد الدّولي، وانخفضت هذه الإحتياطات (بالدولار) من 6,49 تريليون دولار أو ما يعادل 62,47% في الربع الأول من سنة 2017، إلى 6,28 تريليون دولار في الربع الأول من سنة 2018 أو ما نسبته 62,72% من الاحتياطات العالمية، مما يعني انخفاضًا طفيفًا في جاذبية الدولار كملاذ آمن (مثل الذّهَب) للمُسْتثمرين والمُضارِبين (رأس المال الطّفيْلِي والمُضارب، وليس رأس المال المُنْتِج)، بسبب عدم استقراره، وبسبب بعض القرارات السياسية الأمريكية التي قد تُؤَدِّي إلى حرب اقتصادية أوْسَع مما نراه حاليا، ويأمل المُشْرِفُون على أسواق الأسهم الأوروبية واليابانية (حُلَفاء أمريكا) استغلال الفُرْصَة للنمو، عبر الإستحواذ على أي حِصّة تخسرها أسواق الأسهم الأمريكية، وتشير البيانات المتوفرة منذ بداية العام الحالي (2018) إن أسواق الأسهم في الإتحاد الأوروبي واليابان اقل تَوتّرًا وأكثر استقرارًا من أسواق الولايات المتحدة، مما يخدم مصلحة هذه الرأسماليات على مدى متوسط أو طويل، إلى جانب الصين وربما الهند وروسيا، لكن من يحْمِي مصالحنا نحن،
فُقراء وكادحو العالم، وشعوب الوطن العربي والبلدان الواقعة تحت الهيمنة. هل نكتفي باستبدال هيمنة بأخرى مِثْلها أو أسوأ منها؟ عن صندوق النقد الدّولي + “الإقتصادية” 27/08/18
كنعان