هل تكون انتفاضة عون مدخلا “لتحرير لبنان من الانتداب السعودي “؟
العميد د. أمين محمد حطيط :
قد تتباين النظرة إلى “الانتفاضة ” التي يقودها العماد ميشال عون اليوم تحت عنوان “إصلاح النظام و استعادة حقوق المسيحيين ” ، فمن جهة يمكن لمن يلزم نفسه بالنظرة الأحادية الجانب أن يقول بان العماد يجازف في خوض معركة خاسرة لا يملك مقومات النصر فيها ، لكن نظرة شمولية عامة للمشهد تمكن من قول العكس أي أن العماد اختار اللحظة المناسبة لأطلاق تحركه الإصلاحي في ظل الحريق الذي يلتهم المنطقة و الذي بات من المؤكد أن يؤدي إلى تغييرات هامة و جذرية في خريطتها الجيوسياسية على وقع ما يجري من حروب في الميدان و تفاهمات أو اتفاقات فوق الطائرة أو تحتها في غرف التفاوض .فأي من الوجهتين اقرب للواقعية؟
قبل الخوض في الإجابة لا بد من التذكير بان العماد يجد نفسه اليوم و بعد 25 سنة على اتفاق الطائف ، ملزما أدبيا بخوض مثل هذه الانتفاضة –الثورة ضد نظام سياسي ارسي على ذاك الاتفاق – الخديعة التي انتزعت من المسيحيين “سلطة حكم لبنان و السيطرة على مقدرات الدولة ” ، و ارتضوا هم بذلك آملين أن يقوم مكان نهج الاستئثار و الحكم المنفرد الذي كان يمارسه رئيس الجمهورية الماروني ، نهج المشاركة و الحكم الجماعي المتمثل بمجلس الوزراء الذي تم النص على أن يشكل بمراعاة التوزان بين جميع الطوائف و أن يتولى مجتمعا السلطة التنفيذية في البلاد .
هذا في النص، أما في الواقع العملي للتطبيقي فقد شهد لبنان مرحلتين: مرحلة الوجود السوري الذي مارس ضبطا للممارسة منع فريق لبناني من تجميع السلطة بيده، ومرحلة ما بعد الخروج السوري التي أظهرت حقيقة الطائف وخلفيته وانه كان خديعة محبوكة لنقل السلطة من رئيس الجمهورية الماروني إلى رئيس الوزراء السني، الذي لا يعين ألا بقرار سعودي والذي يحكم منفردا ومستأثرا رضي الأخرون أم اعتكفوا …وعبارات الحريرية السياسية في هذا المجال الاستعلائي شهيرة من قبيل “طويلة ع رقبتهم “…” البلد ماشي. يحكوا ” . “ما برف لي جفن ” …يستقيلوا منضل ماشيين” (قصدهم عن جميع ووراء الشيعة.)
لقد جعل نظام الطائف من لبنان وفقا لتطبيقيه بعد 2005 على يد الحريرية السياسية أمارة من أمارات المملكة العربية السعودية مع خلاف بسيط هو أن في السعودية يلزم الأمير بالإقامة في إمارته أما هنا فان الأمير المعين يقيم في السعودية أيضا حيث بات السعودي سعد الحريري الذي يحمل جنسية لبنانية أيضا ، هو الممثل أو الأمير الذي ينفذ قرار المملكة بحق لبنان فالسعودية بعد الخروج السوري راحت تنظر إلى لبنان ليس على أساس انه جزء من فضائها الاستراتيجي فحسب بل على أساس انه جزء من ممتلكاتها خاصة بعد أن تمكنت و بشكل احتيالي و عبر أموالها و مندوبها رفيق الحريري أن تشتري العاصمة بيروت تحت عنوان شركة سوليدير .
لكن ما نغص على السعودية هذا الأمر كان وجود حزب الله والمقاومة التي نظمها حيث رأت فيه قنبلة موقوتة قد تنفجر بمخططها في لبنان في أي لحظة، ورغم أن الحزب تحاشى إثارة المملكة أو استفزازها لا بل نجده في أكثر من مرة ابدى تنازلا أو مرونة زائدة في التعامل مع الوضع ألا أن السعودية استمرت على حذرها العلني وعدائها الخفي لحزب الله الذي تراه جزءا من “عدوها الإيراني” لذا راحت تعمل المستحيل لتطويقه ومحاصرته وإيذائه ولم يكن الافتراء عليه بجريمة قتل الحريري ألا واحد من تلك السلوكيات. والملاحظ أن مصالح السعودية ومصالح إسرائيل تلاقت تطابقا في العداء لحزب الله فكان التعاون الوثيق بينهما هنا مضوعا إضافيا يضاف إلى رزمة المواضيع الأخرى.
أما العماد عون فقد شكل للسعودية “عدوا” آخر تتجدد عدواته و تتفاقم من مرحلة إلى مرحلة ، ففي البدء كانت عداوته بسبب رفضه لاتفاق الطائف أي رفضا ضمنيا للسيطرة السعودية ، ثم كانت عداوة جديدة عندما طالب بتطبيق ما تبقى لرئيس المجهرية من صلاحيات تحفظ للوجود المسيحي فعاليته المبتورة ، ففسرت مطالبته بانها محاولة للانتقاص من سلطة رئيس الحكومة و بالتالي من الدور السعودي لكن الطامة الكبرى كانت عندما وقع العماد عون التفاهم مع حزب الله الوثيقة التي أكدت على سيادة لبنان و استقلاله (رفض الهيمنة الخارجية بما فيها السعودية ) و على مقاومة إسرائيل لمنعها من الاعتداء على لبنان .
ومع هذا الفاهم وعطفا على الماضي بات العماد عون عدوا للسعودية يهدد بطروحاته وسلوكياته “الاستعمار السعودي للبنان ” فكان قرار السعودية بتهميشه ومحاصرته إلى حد شطبه أن أمكن من المعادلة اللبنانية، ومن اجل هذه الأهداف مارست السعودية ضد العماد عون والفريق الذي يمثل سياسة كيدية مركبة من خداع سياسي ترجمت لقاءات ووعود تبين زيفها، ومحاصرة تمثلت بمنعه من تحقيق أي مطلب أو مصلحة أو مكسب حتى ولو كان تعيين موظف بسيط في الدولة.
كانت السعودية تظن ولا زالت كما يبدو، أن مسألة لبنان مسالة فرعية تحسم بساعات بعد حسم الوضع السوري، ولذلك قررت إدارة الملف اللبناني وفقا لقاعدتين الأولى المحافظة على السلطة والإمساك بها من غير أي تنازل أو مشاركة مع أحد حتى ولو أدى الأمر إلى تعطيلها، تأجيل إعادة تشكيل أنتاج المؤسسات الدستورية حتى “أسقاط الدولة السورية ” وعندها تفرض هي من تشاء بشكل منفرد لا يضطرها لاسترضاء أحد. وترجمة لهذا القرار كانت المواقف المعطلة لانتخابات رئاسة الجمهورية وتأجيل الانتخابات النيابية وقبلها تعطيل مجلس النواب ثم تشكيل الحكومة الحالية التي تريد منها السعودية أن ترسي في ممارستها أعراف تجعل من رئيس الحكومة هو كل السلطة في لبنان من غير حاجة إلى رئيس جمهورية أو مجلس نواب.
أما العماد عون الذي يدرك جيدا كل ما ذكرنا فانه يقرأ المشهد الدولي والإقليمي خلافا أو عكس ما تراه السعودية، فالسعودية اليوم كما نراها ويراها معظم الاستراتيجيون الذي لا تتعطل قدراتهم التحليلية والاستقرائية بالمال السعودي، في حالة انحسار وتلقي الهزائم، انحسار فضائها الاستراتيجي الحيوي بدءا من العراق إلى اليمن واهتزاز مواقعها في الخليج فضلا عما أصابها في شمال أفريقيا، وهزائم عسكرية يكفي للدلالة على عمقها مراقبة ما يجري في اليمن وسورية.
ولان القائد العسكري الحاذق استراتيجيا يوقت هجومه في لحظة بدء تراجع الخصم وسقوطه عن القمة، فأننا نرى أن العماد عون أحسن في توقيت انتفاضته، وأحسن في التحضير لها وأحسن باختيار بعض شعاراته، سلوك يجعل من فرص نجاحه في “حرب الإصلاح والتغيير “وإعادة لتوازن إلى النظام السياسي اللبناني بشكل يكون فيه اقل تبعية للخارج، فرص عالية الاحتمال وتبقى مسألة الإرادة في المتابعة والقدرة على التحمل لبعض الوقت.
أن نجاح عون ممكن خاصة وأن السعودية دخلت في مدار الهزائم أمام محور له وجود فاعل في لبنان لن يمكنها أن تعوض خسارتها وستفرد بلبنان، وأن نظام الطائف السعودي الذي شكل صك ملكية سعودية للبنان وفقا لتطبيقه المنحرف المخادع، هو نظام يستحيل استمراره ولهذا قد نطرح السؤال بصيغة أخرى ما حجم انتصار عون المحتمل؟
الإجابة هنا تعيدنا إلى المنطقة فالأمر ليس محصور في لبنان رغم انه في ظاهره مطالبة بحقوق المسيحيين، وهو في العمق متركز على موقع لبنان على خريطة المنطقة فهل يكون سعوديا أم معاد للسعودية أو منطقة تعايش السعودية مع خصومها؟ امر لا يمكن الإجابة القطعية عليه الأن وأن كنا نجنح إلى الفرضية الثالثة التي تعني نهاية عهد الطائف السعودية وضرورة البحث عن نظام جديد يترجم هذا التعايش والمساكنة …والمسالة تتطلب بعض الوقت الذي لا يقاس بالأيام والأسابيع.
لكن ما نؤكد عليه اليوم بان “انتفاضة العماد عون ” تعني كل لبنان وهي انتفاضة وطنية مشروعة حتى ولو رفعت شعارات طائفية لان الاستقرار الوطني يتطلب عدالة ولا عدالة مع تهميش طائفة أو فئة. وأن انتصار عون سيرتد على لبنان كله إيجابا أما الخسارة فهي تعني تكريس الانتداب السعودي للبنان.
“البناء”، بيروت