هل عمّقت الانتخابات الأمريكية الشرخ الداخلي؟ – منير شفيق
هل عمّقت الانتخابات الأمريكية الشرخ الداخلي؟ – منير شفيق
لعل أول مَن أفاد من خسارة دونالد ترمب وفوز جو بايدن كانت الدولة الأمريكية نفسها، وليس الوضع العالمي أو أية دولة أخرى في العالم.
لأن دونالد ترمب مثّل أول ما مثّل مشروعاً تغييرياً داخلياً أمريكياً، أكثر ممَّا أثار من ضجيج عالمي حول سياساته ومواقفه من الدول الأخرى.
حظيت هذه الأخيرة باهتمام أكثر بكثير ممَّا كان يُبيّته من مشروع تغييري داخلي في أمريكا نفسها. فترمب كان سيفعل الأفاعيل داخل أمريكا لو قُيّض له أن يستمر في الرئاسة لأربع سنوات أخرى.
سوف تثبت الأيام أن الفارق لن يكون عميقاً ونوعياً ما بين ترمب وبايدن في معالجة الصراع/التنافس الأمريكي الصيني، والأمريكي الروسي، والأمريكي الأوروبي، والأمريكي الإيراني، والأمريكي التركي. وعليه قس بقية القضايا، بما في ذلك قضية فلسطين (بل إن بايدن أشد خطراً على قضية فلسطين من ترامب).
طبعاً سيكون هنالك فروق في أشكال الأداء والخطاب والمعالجة. ولكن ليس من ناحية المحتوى، أو الجوهر. فليس هنالك من مجال إلا أن يواجه بايدن الصين، وذلك بسبب مسارها في التفوق على أمريكا في الاقتصاد والتكنولوجيا والثراء المالي.
وليس هنالك من مفر إلا أن يتصدى البنتاغون في عهد بايدن للتفوق الروسي في الأسلحة الصاروخية التي تسبق سرعة الصوت عشرات المرات، كما في مجالات عسكرية أخرى. وليس هنالك من بد بالنسبة إلى بايدن من إعادة نسج العلاقات التحالفية الأمريكية الأوروبية (الأطلسية). وهو ما كان سيفعله دونالد ترمب متجاوزاً مرحلته السابقة حين يُحمى الوطيس بينه وبين الصين وروسيا، أو إيران.
أما الموضوع الإيراني فسيعمد بايدن إلى فتح ملف الصواريخ الباليستية الإيرانية، ويحاول استعادة الاتفاق النووي من جديد. الأمر الذي سيفتح توتراً جديداً بين أمريكا وإيران. فالمشكل سيكون حول الصواريخ الإيرانية، ودور إيران في المنطقة. وليس كما كان الحال في مرحلة أوباما واتفاق خمسة زائد واحد مع إيران حول الاتفاق النووي السابق. فالتوتر بين إيران وأمريكا سوف يزيد أكثر ممَّا ينقص مع بايدن، وإن اختلفت بعض أشكال الصراع التي استخدمها ترمب، أو كان سيستخدمها.
ومن هنا نعود إلى أول هذه المقالة التي اعتبرت أن الدولة الأمريكية نفسها هي أول من أفاد من نجاح بايدن، وخسارة ترمب. ولكن كيف؟
إن الذي يدقق في مشروع دونالد ترمب خلال السنوات الأربع الماضية يجده منصباً على الداخل الأمريكي. وهو الذي أدى إلى الانقسام العمودي الخطر الذي شهدته الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة. وهو ما حدا ببايدن إلى اتهام ترمب بتقسيم أمريكا. وبناء على ذلك فإن هدفه الأول القادم هو توحيد أمريكا، أو إعادة وحدة الشعب الأمريكي.
هنالك تيار أمريكي داخل “الواسبس” (البيض الأمريكان البروتستانت الأنكلوسكسون) منزعج من التطورات الليبرالية التي أخذت تحدث في الدولة والمجتمع الأمريكي. ممَّا أخذ يضعف هيمنتهم التقليدية، ويوسّع من دائرة نفوذ الأقليات والمهاجرين والملونين. فترمب جاء تعبيراً عن هذه المجموعات، حين راح يسعى لاستعادة دورها في الدولة العميقة وسياساتها، كما في المجتمع والحياة العامة.
ولهذا اصطدم ترمب في السنوات الأربع الماضية بالدولة العميقة بما في ذلك مع الـ سي. آي. إي. والـ إف.بي.آي. وأجهزة الدولة الأخرى والمؤسسة السياسية، كما اصطدم بأغلبية الإعلام ومراكز البحوث والدراسات. وقد ظهر هذا بوضوح في المعركة الانتخابية الرئاسية الأخيرة، وانحياز الدولة العميقة والإعلام عموماً، ضد ترمب في مصلحة جو بايدن.
لو قدر لدونالد ترمب أن يعود إلى الرئاسة للسنوات الأربع القادمة لأحدث تغييرات جذرية في مؤسسة الدولة العميقة نفسها. كما بعدد من القوانين. وذلك ليحقق أهداف عودة سيطرة ذلك التيار من البيض الأمريكان البروتستانت الأنكلوسكسون في الدولة العميقة والإعلام والمؤسسات عموماً.
وبالفعل لو نجح ترمب لكانت أمريكا بعد أربع سنوات مختلفة عن أمريكا التي تطورت عبر مرحلة الحرب الباردة، وما بعدها في السنوات الثلاثين الأخيرة.
فالخلاف الحقيقي ليس في السياسة الخارجية أو في الأداء السياسي لترمب، وليس في التناقضات التقليدية ما بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي وكلاهما يقاد من “الواسبس” (؟) وإنما كيف تحكم أمريكا، ومن يسيطر على الدولة العميقة وعلى الإعلام، وعلى الوضع الداخلي، قبل الحديث عن استعادة عظمة أمريكا أو نفوذها العالمي.
ومن هنا فإن عمق التناقض الداخلي الذي كشفته، أو أخفته، هذه المعركة الانتخابية بين بايدن وترمب يتعدى قدرة بايدن على توحيد أمريكا. بل إن هزيمة ترمب ستترك جراحاً عميقة، وأحقاداً أبعد كثيراً من كل تصوّر. فما تشكّل من تيار شعبي واسع وراء ترمب سيحضر للجولة القادمة وسيعمق الانقسام أكثر.
صحيح أن فوز بايدن أنقذ أمريكا الداخل من تغييرات كان ترمب مصمماً على تحقيقها خلال السنوات الأربع القادمة، إلاّ أن الصراع سيستمر ويتعمق ويعبر عن نفسه بأشكال مختلفة. وقد يشق الحزب الجمهوري ليخرج تياراً ثالثاً.
وباختصار، شُعِر الزجاج، ووقع العطب، وفُتحت أبواب جهنم، في دولة كبرى قد أخذت بالتراجع، والدخول في مرحلة الشيخوخة.
فبايدن سيحاول الترقيع، والإنقاذ. ولكن تيار ترمب وحش جريح، ولن يستسلم أبداً. وقد خرج من الانتخابات بقوة شعبية هائلة (70 مليون صوّتوا لترمب). ومن يعش فسيرَى.
دونالد ترامب والحرب- منير شفيق
الجمعة 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2020
مع فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ورفض دونالد ترامب الاعتراف بهزيمته، ومع إقالة ترامب وزير الدفاع مارك إسبر، وتعيين وزير دفاع بالوكالة، وإجراء تعيينات «جديدة» في البنتاغون، علا صوت احتمال لجوء ترامب إلى شنّ حرب ضدّ إيران. وقد أبدت أوساط بايدن انزعاجها وخوفها من هذه التطوّرات، ولا سيما المتعلّق منها بما جرى ويجري في «البنتاغون»، مركز القوة الرئيس في تقرير اللجوء إلى حرب أو عدم اللجوء إليها. ومن هنا، اعتُبرت إقالة إسبر وما تبعها من تعيينات، بما في ذلك تعيين وزير دفاع بالوكالة، مؤشّراً إلى احتمال لجوء ترامب إلى ارتكاب مغامرة عسكرية غير محسوبة وغير مدروسة، كردّ فعل على ما جرى عليه من «تآمر»، أدى إلى سقوطه في الانتخابات. ولمّا كان «جسم» ترامب «لبّيساً» لكلّ الاحتمالات، بما فيها المفاجِئة وغير المتوقعة، وضع كثيرون احتمال شنّ حرب على رأس الأجندة.
ولكن ثمّة عدّة أسئلة يجب التوقّف عندها قبل التسليم بهذا الاحتمال، والتسليم لنزوات ترامب الخارجة عن كلّ توقع. وأوّلها، ما الذي تغيّر بعد الانتخابات ليذهب ترامب إلى الحرب، خصوصاً ضدّ إيران، وهو ما كان على الأجندة طوال السنوات الأربع الماضية، ومع ذلك لم يَتّخذ قرار إطلاقها؟ بالتأكيد، ليس هنالك من جديد غير سقوطه في الانتخابات، وفوز بايدن ليقود أميركا من خلال الحزب الديمقراطي للسنوات الأربع المقبلة. وهذا وذاك لا يمكن أن يوازنا الأسباب التي لم تسمح لترامب باللجوء إلى الحرب وهو رئيس للولايات المتحدة غير منازَع، عكسَ وضعه الراهن الذي يتّسم بانتخاب رئيس جديد، وليس هنالك مَن يشكّك في رئاسته، أو أحجم عن تهنئته، غير ترامب ومؤيّديه في الحزب الجمهوري وفي الشارع، علماً أن ثمّة اختراقات وازنة في الحزب الجمهوري تطالبه بالقبول بنتائج الانتخابات، والاعتراف بفوز بايدن. هذا الأمر يعني أن اتّخاذ قرار بشنّ حرب، ضمن ما هو قائم من معادلة أميركية ودولية، سيكون ضرباً من الشذوذ الأقصى الذي لا يسمح للقرار، لو اتُّخذ من ترامب، بأن يُنفّذ، أو أن يُدعَم من موقف أميركي موحّد، أو شبه موحّد، كما هو الشرط في مسألة الحرب.
ثمّ إن حرباً أميركية على إيران تحتاج إلى موافقة شبه إجماعية من جانب مراكز القوى في الكيان الصهيوني، لأنها تتطلّب قراراً صهيونياً بالمشاركة فيها، وتَحمّل كلّ ما يترتّب عليها من نتائج، الأمر الذي ينطبق على هذا القرار ما انطبق عليه طوال السنوات الأربع الماضية، وقد حال دون اتّخاذه أميركياً – “إسرائيلياً” في حينه. فهل هنالك مِن متغيّر في الكيان الصهيوني يقتضي تغيير القرار السابق بعدم اللجوء إلى الحرب في معادلة موازين القوى الدولية والإقليمية، والعامة والخاصة؟
في الواقع، إن التناقض القائم بين أميركا والكيان الصهيوني من جهة، وإيران ومحور المقاومة من جهة أخرى، ومنذ السنوات الأربع الماضية على الأقلّ، لا يُحلّ إلّا بشنّ حرب ضد إيران وذلك المحور. وهذا ما حدث من جانب كلّ من أميركا والكيان الصهيوني في معالجة ما نشأ من تناقضات بينهما، مجتمعَين، أو منفردَين، مع مصر وسوريا والعراق والفلسطينيين، وقد حُلّت جميعها بالحرب طوال النصف الثاني من القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، علماً أن حدّة تلك التناقضات السابقة لم تصل إلى مستوى الحدّة الراهنة مع إيران ومحور المقاومة، لأن التفوّق العسكري الصهيوني في المنطقة لم يَتهدّد من قبل كما هو مُهدّد الآن، الأمر الذي يفترض أن يُلجأ إلى الحرب ضدّه أكثر مما أوجبته التناقضات السابقة بشنّ حرب حاسمة.
أمّا السبب الذي يفسّر لماذا لم يُلجأ إلى الحرب في السنوات الماضية، خصوصاً في زمنَي ترامب ونتنياهو، وهما الأكثر «تطرّفاً» و«تشدّداً»، فهو أن الحروب السابقة كانت قصيرة وسريعة ومضمونة النتائج في كسبها، كما بأقلّ قدر من الخسائر في جبهتَي وجيشَي كلّ من أميركا والكيان الصهيوني. أمّا اليوم، فنتائج الحرب المنتصرة لم تعد قائمة، ولا سيما بعد تجربتَي حرب 2006 ضدّ حزب الله، والحرب ضد قطاع غزة (حماس والجهاد) 2008/2009، 2012، و2014. إن حجم الخسائر التي ستقع بالتأكيد في جيشَي أميركا والكيان الصهيوني، ولا سيما داخل الكيان الصهيوني، أصبحت تُحسَب بثمن قد يفوق الثمن الذي سيدفعه الطرف المقابل في حالة اندلاع الحرب، وهو ما لم يسبق أن حدث من قبل (عدا في حرب تشرين 1973 جزئياً).
وبكلمة، إن الحرب كانت ولم تزل على الأجندة الأميركية – الصهيونية بلا شكّ. ولكنها عرضة للتردّد الشديد في الإقدام عليها، وعرضة للتأجيل، والبحث عن بدائل خلال ذلك التأجيل. ولهذا، لا يستطيع ترامب، أو نتنياهو، اتخاذ قرار حرب في ظروف المعادلة الراهنة في مرحلة برزخ الشهرين المقبلين، إلّا إذا كان الخيار انتحارياً وليس مغامراً. وكلاهما أجبن من الإقدام على الانتحار السياسي.
الترجيح لا حرب، مع إبقاء احتمال ضئيل لجنون انتحاري.