هيروشيما و الحضارة الفاجرة – محمد سيف الدولة
السطور التالية من كتاب ((قـراءة فى يوميـات هيروشيما ـ من 6 أغسطس إلي 30 سبتمبر 1945))، للطبيب اليابانى متشهيكو هاتشيا، وترجمه الدكتور/ رؤوف عباس حامد.
***
تحل هذ العام الذكرى الثانية والسبعون لأكبر وأسرع جريمة ابادة حرب شهدتها البشرية منذ بداية الخليقة.
والتى كانت من المشاهد الأخيرة فى الحرب العالمية الثانية، التى أوقعت ما يقرب من 50 مليون قتيل، اضيفوا الى الـ 20 مليون قتيل ضحايا الحرب العالمية الأولى، فى اطار الصراع الامبريالى العالمى الاجرامى على اقتسام مناطق الثروة والنفوذ والسيطرة على العالم.
ناهيك عن مئات الملايين من ضحايا عصر الاستعمار الاوروبى العسكرى المباشر منذ القرن السادس عشر حتى منتصف القرن العشرين لسائر بلاد العالم، وكذلك مئات الملايين من الضحايا من السكان الاصليين فى الامريكتين، ومن ضحايا تجارة العبيد واسترقاق واستعباد شعوب افريقيا.
***
وتحل هذه الذكرى اليوم ونحن متهمون كعرب ومسلمين بأننا شعوب منتجة ومصدرة للعنف والكراهية والإرهاب، واننا اصبحنا خطرا على العالم وعلى الشعوب الاوروبية والأمريكية الحرة الديمقراطية المتحضرة.
وتحل وقد اصبحت “ظاهرة داعش” المريبة والمشبوهة تستخدم من”السادة المتحضرين فى الغرب”، للترويج لنظرية “الشر الكامن فى بلادنا وفى ثقافتنا وفى عقائدنا”. احتشدت جيوشهم وبوارجهم وطائراتهم جميعا بذريعة انقاذ العالم منه، حيث تنقل وسائل الاعلام العالمية صورا يومية بشعة عن اعمال القتل والذبح والحرق والتفجير والدهس التى يرتكبها هؤلاء الأشرار الذين ينتسبون الينا بالتجنس او بالاصل والثقافة والمرجعية الدينية.
حتى أصبحت الغالبية منا، تحت وطئة الصدمة والخجل من هذه الجرائم الارهابية، تتبنى بدون تمحيص او تفكير أو مراجعة ذات الروايات العنصرية التى يرددها الغرب عنا، متجاهلة الدور الامريكى فى زراعة ورعاية ودعم وتمويل هذه الحركات منذ الغزو السوفيتى لافغانستان، ومتجاهلة كذلك الآثار المدمرة والمولدة للعنف والكراهية، للحقبة الاستعمارية العدوانية الطويلة لبلادنا التى لم تنتهِ بعد وفى القلب منها جريمتهم الكبرى فى فلسطين، وما فيها من اذلال للشعوب، وإخضاع واستسلام للنظم والحكام العرب. وقبل ذلك وبعده متجاهلة لقرون من الارهاب والاستعباد والاسترقاق الغربى لكل شعوب العالم، وبالطبع متجاهلة الاسباب والدوافع والمصالح الاستعمارية الحقيقية الكامنة وراء مثل هذه الادعاءات.
***
الى هذه الغالبية من أهالينا الطيبيين، نهديهم هذه الشهادة اليابانية الخارجة من وسط غبار القنبلة الذرية الامريكية القذرة، وهى ليست تحليلا سياسيا أو عسكريا، وانما وصفا تفصيليا لما حدث للضحايا بأعين طبيب باحد مستشفيات هيروشيما كان شاهدا على ما جرى، لنتعرف على الوجه الحقيقى للسادة المتحضرين:
بدأت الوقائع فى 6 أغسطس 1945 بإلقاء القوات الأمريكية لقنبلة ذرية وزنها هائل هبطت بمظلتين وتم تفجيرها فى الجو قبل هبوطها على الأرض وامتلأت السماء بدخان كثيف .
لم يسمع الطبيب دوى القنبلة لأنه أصيب بالصمم المؤقت من جراء الانفجار و هو يبعد عن موقع الانفجار بحوالى 1500م و طبقا لما رواه الطبيب وهو ما سنورد نصه على لسانه فيما يلى :
” كان جنبى الأيمن مثخنا بالجراح ينزف دما . وثمة شظية كبيرة تبرز من جرح متهتك فى فخذى وشئ دافئ أحس به فى فمى ، أما خدودى فقد تمزقت وتحسست وجهى بحذر لاكتشف أن شفتى السفلى قد شجت شجاً واسعاً وعلى رقبتى هناك شظايا متناثرة من الزجاج أخذت أزيحها بصعوبة بالغة واكتشفت إنني عارياً تماما “
وقد تبادر إلى ذهن الطبيب أنها قنبلة وزنها خمسمائة طن وحاول الوصول للمستشفى بصعوبة بالغة وفى أثناء ذلك قابلته جثث متفحمة كثيرة ليس لديها أي معالم وحتى الأحياء المصابين كانوا جميعهم عرايا من جراء القنبلة ووصل للمستشفى وشاهد الكثير من الجرحى والمصابين وكلا منهم يروى ما شاهده وتعرض له أحدهم الدكتور ( تابوتشى ) قائلاً :
” لقد كان منظراً مخيفاً . كان المئات من الجرحى الذين يحاولون الهرب إلى التلال يمرون أمام بيتنا وكان منظرهم لا تطيق العين رؤيته فقد احترقت وجوهم وأيديهم وتورمت وسلخت مساحات واسعة من جلودهم وتدلت من أجسامهم وكانوا يسيرون كصف طويل من النمل وطوال الليل استمر هذا الصف بلا انقطاع يمر من أمام منزلنا ولكنه توقف فى الصباح فوجدتهم يتراصون على جانبى الطريق بصورة جعلت من الصعب على المرء أن يسير دون أن يخطو فوقهم “
***
وشهادة أخرى يقدمها لنا أحد المواطنين المقيمين بالمدينة :
” يبدو أن معظم من ماتوا كانوا إما فوق الجسر أو تحته فقد نزل كثيرون إلى مجرى النهر يلتمسون شربة ماء ثم ماتوا هناك . وقد رأيت بعينى رأسى بعض الأحياء لا زالوا يقفون فى مجرى النهر بين الجثث الطافية ولابد أن يكون المئات بل الألوف ممن التمسوا سبيلاً للفرار من الحريق باللجوء إلى النهر قد غرقوا . وكان منظر الجنود المصابين لا يقل بشاعة عن منظر أولئك الذين طفت جثثهم وأجسادهم فوق مياه النهر – وسلخت جلودهم وبدا لحمهم لزجا متهتكا .. الخ
***
وشهادة ثالثة لأحد المصابين :
” وفى أحد الخزانات أيضا كان عدد الموتى يملأ الخزان تماما حتى أنه لم يكن هناك مكان لموضع قدم فى الخزان ويبدو أنهم لفظوا أنفاسهم الأخيرة بينما كانوا يجلسون فى الماء . وحتى حمام السباحة بمدرسة المحافظة كان مملوء بجثث الموتى ويبدو أنهم قد اختنقوا عندما كانوا يقفزون إلى الماء هرباً من النيران لأنه لم تكن تبدو عليهم أثر حروق . ولم يتسع حمام السباحة لجميع من حاولوا الدخول فيه لأن الكثير من الجثث كانت حول الحمام من كل جانب وقد تدلت روؤسها فى الماء ”
***
وهناك الكثير من الروايات لشهود الواقعة وكثير من القصص الإنسانية التى سببت مأساة لكل منزل وكل أسرة فى مدينة هيروشيما ، وهى ليست قصص أو مشاهد لقطات أحد الأفلام الأمريكية ولكنها وقائع حقيقية حدثت بالفعل دليل على همجية ووحشية الإدارة الأمريكية أينما وجدت فى كل زمان بدءاً من طرد الهنود أصحاب الأرض الأصلية وحتى الآن باستخدامهم القوة العسكرية ضد العراق .
ومن خلال وجود الطبيب بالمستشفى بعد شفاءه قام بتدوين وتسجيل ملاحظات عن الصعوبات وأعراض المرض الذى أصاب الناس من جراء القنبلة وكانوا يطلقون عليها اسم ( بيكادون ) وهى تعنى بريق لامع يعقبه انفجار هائل والأعراض العامة لدى جميع المرضى كالاتى :
1) الإصابة بالصمم المؤقت والعمى لمن كانوا قريبين من مركز الانفجار .
2) معظم من كانوا قريبين من مركز الانفجار عرايا فقدوا ثيابهم تماما بسبب الانفجار .
3) ظهور حالات فقدان الشهية والمعاناة من حالات الغثيان .
4) عسر هضم مصحوب بغازات قيء وإسهال دموي .
5) ظهور بثور وبقع جلدية وقرحة فى الفم والتهاب فى الحلق ونزيف .
6) وجود أنيميا حادة .
7) الأنفاس ضعيفة جداً
8) شحوب لون الجلد .
9) ضعف النبض وسرعته بمعدل 130 فى الدقيقة .
10) ارتفاع درجة حرارة الجسم يصل إلى 41 درجة .
11) حدوث وفيات كثيرة بعد الإحساس بضيق شديد فى التنفس .
12) اكتشاف نقص حاد فى كرات الدم البيضاء ومعظمها خالى من الصفائح الدموية فالمعدل الطبيعى عدد 6 آلاف كرة بيضاء بينما كان لدى المرضى يتراوح حول 200 كرة دم بيضاء فقط .
13) نزيف دموى حاد فى الفم والمعدة والشرج .
14) سقوط شعر الرأس .
بالإضافة لذلك وجد الطبيب ومعاونوه صعوبات هائلة لنقص الإمدادات بداخل المستشفى بعد التدمير الذى تعرضت له أنحاء المدينة حيث واجهتهم صعوبة التخلص من فضلات المرضى ونقلهم ( القيء – الإسهال – وعدم وجود أدوية 00 الخ ) وصعوبة التخلص من الجثث إلى جانب رائحة الجثث وتأثير ذلك على المرض الذين ما زالوا أحياء تحت العلاج وأيضا عدم توافر مكان وأدوات لتشريح الجثث لمعرفة أسباب الأعراض لمعالجتها .. الخ .
ومن خلال تشريح إحدى الجثث ثم ملاحظة وجود التهاب بريتونى بالمعدة وترهل بالبطن نتيجة لآلام شديدة ، وفتق نتيجة حمل خارج الرحم ، تهتك البنكرياس – وجود كثير من السائل الدموى بالمعدة – وجود بقع مخاطية فى الكبد .
ومن جراء هذه الأحداث وتأثيرها على الناس داخل المدينة انتشرت إشاعة أن لا أحد يستطيع أن يسكن أو يدخل هيروشيما بعد 75 عام …
***
وفيما يلى واقعة أحد القريبين من مركز الانفجار وهى سيدة عمرها 41 عام أصيبت على بعد 1.3 كيلومتر من مركز التفجير ، قالت :
” حدث برق شديد وأصفر الجو فجأة و ارتعشت كتفى اليمنى كما لو كان اصابها ماس كهربائى . لم أدرى ماذا أفعل عندما سمعت صوتا يشبه الرعد يتردد بشكل مفزع وكأن السماء انطبقت على الأرض “.
” وعلى مدى البصر كانت مبانى مدينة هيروشيما جميعا قد تهدمت و أصبحت حطاما وأرتفع التراب الأحمر أربعة أقدام فوق سطح الأرض يا له من حادث فظيع ”
” وإحدى جاراتها روت لها أنها رأت المئات والآلاف من تلاميذ وتلميذات المدرسة الإعدادية قد تمزقت قمصانهم كما تمزقت سراويل الأولاد فأصبحوا أشبه عراة وسلخت جلودهم وتشابكت فى بعضها البعض وتورمت وجوههم وأخذوا يقفزون فى النهر فتساقطوا فوق بعضهم البعض ” .
***
شهادة أخرى لسيدة تبلغ من العمر 33 عام ، أصيبت على بعد 1.7 كم من مركز التفجير :
“لا أتذكر أيهما كان الأسبق الضوء أم صوت الانفجار الذى زلزل هديره رحمى ، وما لبث أن أدركت أن رائحة الهواء أصبحت كريهة فتناولت منديل لأحك أنفى وفمى بقوة ظنا منى أن ما القى علينا قد يكون قنابل الفسفور الأصفر الحارقة ولكن صدمت حيث وجدت جلد وجهى قد تساقط على المنديل . آه .. لقد حدث نفس الشيء ليدى وأرجلى أيضا و تدلى جلد يدى اليمنى من المرفق إلى أطراف الأصابع ببشاعة كذلك كان الحال بالنسبة ليدى اليسرى وأصابعها الخمسة ” .
وما رأيته خلف الجسر صدمنى فقد كان المئات من البشر يتلوون فى مجرى النهر ولم استطع أن أتبين ما إذا كانوا رجالاً أم نساء فقد كانوا جميعا متشابهين وجوههم متورمة رمادية اللون ، شعرهم منتصب ، وكان الناس يندفعون إلى النهر رافعين أيديهم إلى أعلى يئنون من الألم ، أحسست بنفس الرغبة مدفوعة الألم الذى استشرى فى جسدي بعد تعرضه لإشعاع حراري على درجة من القوة كانت كافية لحرق سراويلي .
وعندما عبرت جسر كوجن لم استطع التعرف عليه فقد كان سوره المقام من الحديد المسلح لا وجود له . وأصبح الجسر آيلا للسقوط غير مأمون الاجتياز وكانت تطفو تحته الكثير من الجثث التى تبدو كأنها جيف كلاب أو قطط عارية تماما من الثياب إلا من بعض الخرق البالية . وكان ثمة امرأة ترقد فى المياه الضحلة القريبة من الشاطئ ووجهها للسماء وقد تمزق ثدياها وانبثق منها الدم ، ياله من منظر مريع كيف يحدث مثل هذا الشيء الفظيع فى العالم .؟ أن الحكايات الخيالية المفزعة التى كانت تقصها على جدتى بدت متواضعة بجانب ما أراه ماثلا أمام عينى .”
*****
القاهرة فى 7 اغسطس 2016