وأنا جالس وحدي – رشاد أبوشاور
وأنا جالس وحدي تحيط بي وجوههم، وبعيون ذابلة حزينة تتأملني لا أدري ماذا تقول! ترى ماذا تريد منّي؟ أهي تستحثني؟ أهي تعاتبني؟ أهي تريدني أن ألحق بأصحابها بسرعة نجاة من شعوري بوحشة حياة الوحدة والقهر من الخُذلان والتخاذل؟!
أُغمض عينيّ وتبدأ أسئلة نسيت أن أطرحها عليهم ظنا مني أننا باقون معا، وأن الموت لن يختطفنا قريبا، فإذا به كصياد ماهر يبدأ في القنص، فيباغتنا..ويصرعنا واحدا بعد الآخر ونحن لم نكمل الجدل بيننا، وفي حميّا الاختلاف حول كيفية بناء القصيدة، وهل (قصيدة النثر) شعر، أم تراها تتشبه بالشعر؟! و..هل ماتت القصّة القصيرة وانتهى أمرها؟ وما هو شعر المقاومة، وبماذا امتازت قصيدة المقاومة، وكيف اختلفت قصائد شعراء المقاومة مع إنهم يعيشون في نفس الزمن، وينتسبون لمأساة واحدة، ويكتبون بلغة واحدة، ويشكلون امتدادا لشعر عربي واحد؟
وجوههم..وعيونهم المفتوحة تتركني في الدهشة والحيرة وبحر الأسئلة التي لم يخطر ببالي أن أطرحها عليهم فتركوها لي تقلق منامي وصحوي، فأندم..ويزداد النبض في رأسي: لماذا لم أسألها لهم ونحن معا؟ أهو إهمال مني، أم انشغال، أم رهان على أن الزمن ما زال معنا، وأننا ما زلنا شبابا، وأن الوقت متاح لطرحها وغيرها في آتيات الأيام؟!
مررت على النصيحة: أكتب اليوم كأنك تموت غدا، واقتنعت بها، ولكنني لم أنفذها بدقّة، مع إنني حرصت على الكتابة شبه اليومية، لأنني منذ بداية رحلتي الكتابية عملت في الصحافة الفلسطينية، صحافة الثورة، ولم أتوقف عن الكتابة الأدبية التي آمنت أنها ستكون خياري الذي لا محيد عنه، ولكن(وقع) حزيران على رؤوسنا، ومن جديد بتنا لاجئين وذقنا مرارة هزيمة لم يكن لنا بها ذنب، فقد أُبلغنا بحرب، ومن أبلغونا انهزموا ودّفعونا كأفراد، وكفلسطين، وكشعب عربي فلسطيني، وكأمة ثمنها، فاكتمل احتلال فلسطين، ووضع الصهاينة دبابتهم على قمة الجولان، وركضت دباباتهم على رمال سيناء…
_2_
نحن الآن في أيّار، وقريبا في حزيران، وهما شهرا ضياع فلسطين، بل إضاعتها ممن لا يجدر أن يكونوا في مواقعهم، فهم لم يصونوها، ولم يستردوها، وقتلوا من تقدموا ليفتدوها، وطاردوهم، وشردوهم، ولاحقوهم بالتهم الملفقة، وماذا يأتي ممن هرولوا أمام الأعداء…
كل طرف (عربي) يقدّم الحجج عن أسباب هزائمه، ويبررها بأنه وحده ماذا بيده ليفعله؟!
ولا يجيب على الأسئلة: ولماذا أنت وحدك؟ لماذا أنت ضعيف؟ ولماذا أنت في حالة حرب دائمة مع شقيقك القريب؟
يخطر ببالي حكّام المماليك، قطز وبيبرس و..كل من حاربوا الصليبيين، الذين لم يناموا في قصورهم، بل كانو ينامون على ظهور خيولهم وهي تنهب المسافات بين مصر وفلسطين، وقاتلوا الصليبيين والتتار، وحرروا القدس..وفلسطين، وحموا بلاد العرب الممتدة شرقا وغربا، وهم ليسوا عربا، بل كانوا (مماليك) جُلبوا إلى مصر كمماليك، ووصلوا إلى الحكم بعد أن ارتقوا في مواقعهم كعسكر، ثم (أخذوا) الحكم بجدارتهم، وحموا مصر من الفرنجة والتتار، واندفعوا لتحرير فلسطين ، وبهذا انتزعوا جدارتهم كحُكّام بالسيوف وعلى ظهور الخيول.
رحم الله الشاعر الكبير خليل حاوي:
وتباركت رحم التي ولدت على ظهر الخيول
ولدت وما زالت بتول
وهذا الشاعر الفّذ الكبير،الشاعر الحضاري كما وصفه المفكّر والروائي والباحث مطاع صفدي، كان يقصد الأمة التي ولدت على ظهر الخيول وهي تقاوم وتقاتل..وعندما رأى (اليهود) يقتحمون بيروت..أنهى حياته، لروحه الرحمة والسلام، وآه لو أنه انتظر مجئ الشاب البيروتي الذي أطلق الرصاص على رأس ضابط مُحتل في مقهى الومبي.. فانتفضت بيروت، واندفعت المقاومة مطاردة للغزاة الصهاينة حتى أقصى الجنوب، ثم خاضت حرب تموز وأذلّت الغزاة الصهاينة، ووقفت قبالة مزارع شبعا، ونظرها يمتد فوق جليل فلسطين حتى بحر حيفا، وزرعت الذعر في نفوس أفراد الكيان وجنرالاته…
_3_
الآن نعيش ذكريات أيّار 1948
الآن تهب علينا مهانات حزيران، والعدو يقضم القدس، ويتلمّظ للانقضاض على ما تبقي منها..والقدس حررها صلاح الدين، والظاهر بيبرس، وقلاوون، و..نور الدين زنكي (البكاء)، هكذا وصف لأنه بعد كل معركة تقرّبه من القدس، بعد كل انتصار كان يبكي، وعندما يُسال عن سبب بكائه يجيب: انا لم أُحرر القدس بعد…
نحن نبكي قهرا ونحن نرى القدس وحيدة، ولا نرى المتسابقين على تحريرها..الباكين لأنهم لم يحرروها بعد…
فصيل فلسطيني يوصف بأنه (صغير)،الجهاد الإسلامي، وهو بفعله الكبير أوقف القادة الصهاينة في معركة (ثأر الأحرار) على رجل ونص، والمطبعون يواصلون تطبيعهم، والكيد بفلسطين، ومقاوميها، و..لكن فلسطين وشعبها وعربها المنحازون لها سيواصلون مقاومتهم بما تمتلك أيديهم من قوّة، فلا تقنطوا، فاليمن صامد، ودمشق تمضي قويّة مرفوعة الرأس في معركتها، ويا ترى: كيف يشعر من تآمروا عليها وهم يجلسون (على كراسيّهم) بحضورها؟!
أصدقائي: من رحل ومن يمتد به العُمر، طريقنا طويل..وصبرنا لا ينضب، وفلسطين كانت وستبقى دائما حُرّة سيدةً..تباركت رحمها التي على خيولها تلد الأمة من جديد، وتشرق شمسها…