واحدة تُحسب للأنروا! – عبداللطيف مهنا
من باب اعط لكل ذي حق حقه، يتوجب علينا الاعتراف لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأنروا”، التابعة لهيئة الأمم المتحدة، بواحدة مما جادت بها مؤخراً من حسناتها القليلة، والتي اخذت تقل أكثر فأكثر في السنوات الأخيرة. ذلك عندما ذكَّرت العرب، بما ارادت أن تذكِّر به العالم، أو ما حاولته، وهو أن هناك معتقلاً مساحته لاتعدو 360 ميلاً مربعاً، يكتظ بما تعداده يفوق المليون وثمانمئة انسان، وفي طريقهم لأن يصبحوا المليونين قريباً، اسمه قطاع غزة المحاصر…المحاصر صهيونياً وعربياً، وبالتالي دولياً، والى اجل غير مسمى، أو الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا…صاحبة الفضل “الأنروا” ذكَّرت بما ذكَّرت به عندما قررت ايقاف ما كان يتيسر لها، وبالتالي يتيسَّر منها من مساعدات شحيحة لمن دُمِّرت بيوتهم ولم يعاد اعمارها بعد، أومن هم شرِّدوا داخل اسوار هذا المعتقل ولا من مأوى يتوفر لهم. نقول هذا، لأنه يبدو أن الخمسة اشهر التي اعقبت محرقة الحرب العدوانية الصهيونية الأخيرة على قطاع غزة كانت كافية وزيادة لأن ينسى هذا العالم بسهولة وكعادته فظائع المعتدين على هولها وبشاعتها، والتي صابحته وماسته على الشاشات لمدة 52 يوماً، وأن يسارع العرب، وكعادتهم أيضاً، فيكفوا عن التغنِّي ببطولات الغزيين واسطورية مقاومتهم وفرادة صمودهم وعظيم تضحياتهم، ومن ثم العودة لسالف نعمة النسيان التي تفرَّدوا من بين الأمم بسرعة لجوئهم الى ملاذها الآمن.
كانت ذريعة “الأنروا” لوقف نزر مساعداتها لمنكوبي غزة هو أن ما سموا ب”المانحين”، والعرب منهم، واللذين ذكَّرتنا خطوتها هذه بأنهم كانوا قد اجتمعوا في القاهرة بعيد وقف اطلاق النار وتعهَّدوا بتقديم ما مقداره الخمسة مليارات ونصف المليار دولار لإعادة إعمار القطاع المدمَّر، لم يفو بما تعهَّدوا به، وأن جل ما وصل هذه “الأنروا” منهم لم يزد على 135 مليوناً فقط لاغير. وعليه، فهى قامت بخطوتها قائلةً كلمتها، ومن ثم استراحت، بعد أن ابلغت من عسى أن يهمه الأمر، إن هو وجد، بأن الوضع في القطاع المدمَّر والمحاصر “كارثي وصادم”، تاركة للإحصائيات المختلفة أن تتكفل بالبقية: هناك ما تعداده المليون من ما هم المليون والثمانمئة من اهالي القطاع ممن يعيشون على المساعدات، ومئة الف مشرَّدون وبلا مأوى، وإن اربعين في المئة من الغزيين هم تحت خط الفقر، واجمالاً متوسط دخل الفرد في القطاع لايزد على دولار واحد. وحيث 80% من مصانع القطاع متوقفة فإن عمَّاله بلاعمل، كما أن موظفيه بفضل أوسلوية ما تدعى “حكومة الوفاق الوطني” الملتزمة باشتراطات مانحيها هم بلا رواتب، والمستشفيات لاتنقصها الأجهزة فحسب بل هى بلا أدوية، ثم يأتي انقطاع الكهرباء، يضاف اليه، أن 95% من المياه غير صالحة للشرب، والباقي برسم النفاد في الأعوام الأربعة القادمة، والصرف الصحي بات يأخذ طريقه الى البحر دونما معالجة…وقد نستطرد فلا نفي راهن الجحيم الغزي، أو هذا المعتقل الذي دمَّرت الحرب العدوانية حجره وشجره وكل ما يدعى البنى التحتية فيه، والذي قدَّم الفين ومئتي شهيد واكثر من عشرة آلاف جريح، حقه توصيفاً، فلا الحصار رفع ، ولا المعابر فتحت، ومسألة فتحها واحدة مما نص عليه اتفاق وقف اطلاق النار، ولا اعادة الأعمار تمت ولا حتى بدأت، وما جرى حتى الآن منها كان بالقطارة الصهيونية، والتي إن ظلت على هذا المنوال، فقد يلزمها، إن هى تواصلت، ثلاثة عقود قادمة لتتم على اقل تقدير!!!
وإذا كان المفترض، وفق اتفاق وقف اطلاق النار، العودة للتفاوض غير المباشر لرفع الحصار واقامة الميناء، أو ما أمل الفلسطينيون أن يكون معبرهم البحري الآمن من غوائل الإقفال، فإن المسألة برمتها قد طويت الآن بعد أن أجلها الوسيط المصري وساطته إلى اجل غير مسمى، بمعنى أنها لم تعد واردة. لكنما الأدهى هو أن جهة واحدة من المشكوك فيه أن خطوة مثل خطوة “الأنروا”، على خطورتها، قد تهمها أو تعنيها كثيراً، أو ربما حتى تُذكِّرها مع من ذكَّرته بكارثية الوضع الإنساني في غزة، ذلك لالتزامها تناسياً متعمِّداً له، وهى سلطة أوسلو، وعليه، تحجم حكومة “توافقها الوطني”، أو التي شُكِّلت إثر مصالحة التكاذب، أو “اتفاق الشاطىء”، عن بسط سيطرتها على القطاع المحاصر، ليس تهرباً من مسؤولية وكيدية منها لمن لايتفقون مع نهجها فحسب، وإنما أيضاً انسجاماً منها مع ما تدعى استراتيجية التدويل، والتي لاتعدو تكتيكاً بائساً منتهى استهدافاته تسهيل وتحسين شروط العودة لعبثية المفاوضات واستدراراً لفرصها…هذه المعلقة على ما ستأتي به الانتخابات الصهيونية المنتظرة، بمعنى انتظار الأوسلويين لأن تحدث المعجزة فيمسي الكيان الغاصب ليصبح على حكومة أقل تعنتاً والطف تطرفاً فتفاوضهم وقد تعطيهم شيئاً، أي الأمر الذي لايخفى عكسه إلا على من يدس رأسه في رمال التسوية ومتاهات التسويف الأميركى، إذ أن هذه الانتخابات وفي مثل هكذا كيان لن تنتج إلا صهاينةً أكثر صهينةً وتطرفاً من سابقيهم!
…عرف الفلسطينيون نكبة مستمرة لثلاثة ارباع القرن. محطاتها كانت ثلاثاً، 1948،1967، 1993…لعل الأخيرة، أوسلو، هى الأخطر، لأنه في الأولى، احتفظ الفلسطينيون بمفاتيح بيوتهم ايماناً بالعودة اليها، وفي الثانية، تصاعدت ثورتهم المعاصرة بهدف تحرير كامل وطنهم المغتصب، أما الثالثة، فشهدت تنازل الأوسلويون عن مفاتيحهم ومساومتهم على ماتبقى من الأرض…لكن، حتى “الأنروا” تقول بأن راهن غزة المحاصرة ينذر بقرب الإنفجار…أما حال الضفة المستباحة فينبىء بأنه ما من خيار أمام الفلسطينيين إلا المقاومة…