ورقة الانتخابات بين عباس وحماس! – د. أيوب عثمان
ها هو الزمن الفلسطيني الرديء يجود على هذا الشعب الفلسطيني الأبي المقاوم بما يُضَيِّقُ عليه فينغص حياته، ويزيد حسراته، ويهزم آماله وتطلعاته، ويضاعف من آلامه وأوجاعه ببعثرة جهده، وتفريق شمله، وزيادة الانقسام والتشظي في كل أنحائه.
إنها الانتخابات! مخرجٌ من الأزمة، ومنقذٌ للوطن والقضية، ومُذْهِبٌ لوجع شعب موجوع، ومُفَرِّجٌ (إن شاء الله) لهمٍّ يأكل الناس، فيما هي ذريعة لمناكفة الآخر عند كل من عباس وحماس!
يا له من زمن رديء يجود علينا بما يفرقنا، ويباعد بيننا وبين أحلامنا وتطلعاتنا، فها هي رداءة زمننا الفلسطيني المبعثر والمنقسم والمتشظي تجود علينا بما هو رديء ويزداد رداءة، فلا ندفعه عنا، بل يحتضنه كل طرف منا ويتمسك به، ويزداد به التصاقاً، دون أن يدرك هول المصيبة الكبرى التي يستجلبها على مستقبل قضيتنا وشعبنا، ظناً أن هذا الطرف أو ذاك بما يفعل أو يفتعل من مناكفات- كالانتخابات مثلاً- إنما يكسر شوكة الآخر كي تخلو له ساحة الوطن فيسرح في كل أرجائها ويمرح كما يشاء، دون مساءلة أو حساب!
ليس في مثل رداءة هذا الزمن الفلسطيني رداءة كالتي نشهد اليوم ونعيش. فمشكلة الانتخابات ها قد عادت تقض مضاجعنا، وتوجع قلوبنا، وتؤذي أسماعنا، من جديد: عباس يطلب ورقة مختومة من حماس تعلن فيها موافقتها على إجراء الانتخابات فيصار إلى عقد المجلس التشريعي بدعوة منه ليقر قانون الانتخابات، توطئةً إلى إصدار مرسوم رئاسي يقضي بإجرائها، ولكن دونما أي التزام بموعد محدد!!! أما حماس، فظلت ترحب بإجراء الانتخابات، مؤكدة موافقتها، في كل مرة، على إجرائها، ولكن دون تلك الموافقة الخطية المختومة منها، كما اشترط عباس عليها.
فعباس من ناحيته يضع شرطاً لا لزوم- البتة- له على حماس التي وافقت، ورحبت، وجددت موافقتها، وأكدت غير مرة، وإلى الآن، أمام شعبنا والدنيا بأسرها، عليها. أما حماس، فمن ناحيتها ترفض شرط عباس لأنها ترى فيه- على ما يبدو- إذعاناً لا يليق بها كحركة مقاومة فازت بالأغلبية في انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، وكحركة مقاومة استطاعت أن تصمد بجدارة أمام حصار خانق في البر والبحر والجو، كما استطاعت المواجهة باقتدار في ثلاثة حروب على مدار ستة أعوام دون أن تتمكن دولة الاحتلال رغم قوتها وبطشها من تحقيق أهدافها.
إذاً، عباس يشترط ما لا لزوم له على حماس، وما ليس من حقه، وما لا ينبغي له أن يشترطه، دون أن يضع- ولو في أضيق هوامش اعتباره- المصلحة الوطنية العليا، فيما حماس لا توافق على شرط عباس، واضعةً في اعتبارها كينونتها وكيانها وانتقاص مكانتها إن هي وافقت على شرط عباس، ناسية أو متناسية أن استجابتها لشرط عباس- الذي نؤكد للمرة الألف أنه لا لزوم له، وأنه تذرع غير مبرر، وغير وطني، وفي غير محله- دليل جديد للتفوق عليه (على عباس) ودليل جديد ثانٍ لتسامٍ وإعلاءٍ وطني، ودليل آخر جديد على تقديمها المصلحة الوطنية العليا على كل ما سواها، بما فيها حزبيتها.
فإذا كان عباس يصر على أن يضع في يديه ورقة الموافقة على إجراء الانتخابات ممهورة من حماس، وهي ورقة لا أهمية ولا لزوم- البتة- لها، كما أسلفنا، فما الذي يضير حماس أن تترجم عملياً- بتفوق وتسامٍ وإعلاء وطني منها- المثل القائل: “لاحق العيار لباب الدار”، فتسحب الذريعة من عباس لترى الدنيا كلها ويرى الناس من هو الرئيس عباس ومن تكون حماس؟!!!
وإذا ظلت حماس مصرة على ألا تستجيب لشرط عباس، فما الذي يضير عباس أن يترجم عملياً مسؤوليته الرئاسية وحرصه الوطني الطافح، فيتنازل عن شرطه ويسحب الذريعة من حماس لترى الدنيا كلها ويرى الناس من هي حماس ومن يكون الرئيس عباس؟!
أمّا إن بقي الأمر هكذا، حيث لا يريد عباس ما تريده حماس، وحيث ترفض حماس ما يشترطه عليها عباس، فليس- والحالة هذه- إلا ضياع الوطن وتصفية القضية وانكفاء الشعب وتيه الناس. وعليه، فمن يثبت أنه “أبو الولد”؟ الرئيس عباس أم حركة المقاومة الإسلامية “حماس”؟!
أما أنا، ففي الحقيقة لا أدري لماذا يشترط عباس في إجراء الانتخابات على موافقة خطية من حماس، على الرغم من قناعتي وقناعة كثيرين غيري أنه ليس في أدنى حاجة إليها! ولا أدري لماذا لا يستغني عباس عن شرطه على امتلاك ورقة مختومة من حماس تعلن بموجبها عن موافقتها التي سبق وأن أعلنتها غير مرة، وجددتها مائة مرة، ثم أكدت عليها ألف مرة ومرة، والشواهد على ذلك أكثر بكثير مما يُمَكِّنها من أن تنكره أو أن تنسلخ عنه أو أن تتحلل منه، لا سيما إذا كان الهاجس عند عباس هاجساً وطنياً وإذا كانت الغيرة عنده غيرة وطنية!! وفي المقابل، فإنني أتساءل حقاً: لماذا لا تسد حماس باب الذرائع- وهو مطلب ديني- فتسحب الذريعة من عباس، لتجرى الانتخابات فتثبت حماس أنها من يحمل بكل جدارة واقتدار هم الناس والوطن، وأنها “الأب للولد وأمه معاً”، وأنها الأحرص على القضية ومستقبلها؟!
ألا يدرك عباس أنه ليس في أدنى حاجة إلى ورقة موافقة ممهورة من حماس؟! ألا يعرف عباس أن القانون الأساسي الفلسطيني يكفل حق الرئيس- ضمن صلاحياته ومسؤولياته واختصاصاته- في إصدار المراسيم الخاصة بإجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية، عند انتهاء الولاية القانونية لكل من الرئيس والمجلس التشريعي؟! وألا يعرف عباس أن ولايته قد انتهت منذ ستة أعوام، وأن ولاية المجلس التشريعي قد انتهت بعد انتهاء ولايته بعام، أي منذ خمسة أعوام؟! وألا يعلم أن تجديد شرعية المجلس التشريعي لا يمكن أن تتأتى إلا بانتخابات تشريعية ينبغي له أن يوجه هو في شأنها دعوة للانعقاد وأن يصدر مرسوماً لإجراء الانتخابات؟! وفوق كل ذلك وقبله، ألا يعلم سيادة الرئيس أن كلاً من “اتفاق القاهرة” و”إعلان الدوحة” و”بيان الشاطئ” قد نص على إجراء الانتخابات، بل أكد على إجرائها؟!
إن في مكنة أي منا أن يفهم أو يتفهم أن حماس لا ترفض إجراء الانتخابات في سياق تطبيق كل ما تم الاتفاق عليه في موضوع المصالحة، دون الانحراف عن الاتفاق بكليته إلى جزئيات منه، حيث هذا أريده وذاك لا أريده. وعلى الرغم من ذلك، فإنني أرى أن حماس- وهي تثبت بسحبها الذريعة من عباس أنها أب الولد وأمه، وأنها الأحرص على الصف الوطني وعلى القضية برمتها وأنها واجهت ثلاثة حروب كبرى ضد فلسطين وقطاع غزة تحديداً- لن تخسر أبداً، إن هي سحبت من عباس هذه الذريعة التي يمتشقها فأعطته الورقة التي يطلبها كي تُجرى الانتخابات ضمن شرط واحد مفاده: “إتمام المصالحة بكليتها دون انحراف عنها ودون اجتزاء أو انتقائية منها تمهيداً وتهيئةً وإعداداً لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية”.
غير أننا إذا عدنا إلى الوراء قليلاً، فإننا نخلص إلى أنّ السبب الشكلي لإعاقة تنفيذ “اتفاق القاهرة” هو عدم الاتفاق على موعد الانتخابات، فيما الأصل هو إصرار عباس على إجراء الانتخابات فقط، دون الاهتمام بأمور أخرى، تأسيساً على أن الانتخابات ستنتج الفائز بالأغلبية، فيتم الالتزام بحكمها وببرنامجها، على الرغم من أن الاحتلال العسكري الإسرائيلي جاثم على صدر الفائز في الانتخابات والخاسر فيها على حد سواء. أما “إعلان الدوحة”، فقد أعاق تنفيذه إصرار عباس على أن تجرى الانتخابات بعد تشكيل الحكومة بثلاثة أشهر، فيما تذرعت حماس بأن مدة الأشهر الثلاثة لا تكفي لتهيئة الأجواء المناسبة لإجراء الانتخابات من ناحية، ولتنفيذ بنود “اتفاق القاهرة” من ناحية أخرى. أمّا “بيان الشاطئ” الذي نص على إجراء الانتخابات بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني بستة أشهر، فإن ما أعاق تطبيقه هو أن الموعد الذي ينبغي أن يتم فيه إجراء الانتخابات لم يحدد له سقف غير مسموح تجاوزه. فبيان الشاطئ الذي تم التوقيع عليه في أبريل الماضي 2014 ما يزال الزمن الفلسطيني الرديء آخذاً في تجاوزه دون أن يحدث شيء حتى اللحظة، على الرغم من انقضاء عام وأكثر عليه، ودون أن يعلم أحد موعداً محدداً لهذه الانتخابات التي سرعان ما تتبارى كل الأطراف في استدعائها واستحضارها، باعتبارها مشكلة لشعب صابر مناضل وليست حلاً له ومخرجاً لأزماته، مع بالغ الأسف وأشده.
والحالة كذلك، فإن من حقنا- كشعب ينتفع من الصواب والتوحد ويتضرر من الخطأ والانقسام والتفرق- أن نقول: إن كلاً من عباس وفتح وحماس يريد انتخابات يضمن أن تكون نتيجتها على مقاسه وحسب هواه. فالرئيس عباس ليس من السذاجة إلى حد يدفعه إلى إجراء انتخابات في سياق ذي أبعاد متعددة، دون أن يلوح في الأفق السياسي ما يمكن أن يكون بديلاً عن أوسلو، الأمر الذي يدخله ويدخل حركة فتح في حالة من الريبة والتوجس وعدم الاطمئنان إلى الفوز. فضلاً عن ذلك، فإن عباس لن يأمن الذهاب إلى الانتخابات قبل أن ينجز التهيئة الكاملة كما يريدها لانعقاد المؤتمر الفتحاوي السابع، وقبل أن يتضح له الخيط الأبيض من الخيط الأسود في الحالة الدحلانية وكل ما يتصل بها.
أما فيما يتعلق بعباس ذاته، فإنني أرى- بل أجزم- أن عباس يعلم يقيناً أن الحالة الحاضرة هي الأفضل له على الإطلاق! لماذا؟ لأنه إن رشح نفسه للرئاسة فسيؤخذ عليه انعدام المصداقية لديه وانحرافه عن الالتزام بما أعلن عنه في أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة وغير مناسبة، وهو أنه لن يترشح للرئاسة. وعليه، فإن استمرار الحالة الحاضرة- كما قلنا- هي الحالة الأفضل له والأعدل والأمثل، لا سيما وإنه يتحكم في كل مكامن القوة ويمسك بكل مفاتيح السلطة ومغاليقها، الأمر الذي لا يجعله مضطراً للترشح، فهو واثق من قدرته أن يصيد- كما يقول المثل الشعبي- كل العصافير التي على الشجرة بحجر واحد أو برمية واحدة، وكأنه يقول، دون أن يقول: وعدت ألا أترشح للرئاسة، وهأنذا قد صدقتكم ونفسي. والآن ما الذي ينقصني؟! لا شيء، بل هأنذا أملك كل شيء، ففي قبضة يدي كل السلطات وكل الصلاحيات من المنظمة إلى السلطة إلى الحركة (فتح). مفاتيح هذه السلطات الثلاث ومغاليقها ما تزال في يدي. إذاً، لماذا أترشح للرئاسة؟! إن كان ترشحي هو لتجديد شرعيتي، فها هي شرعيتي واضحة دون أن أجددها، وعلى كل من لا يعجبه حالي وكلامي أن يقول ما يشاء، أما أنا فأفعل ما أشاء”!!!
وبعد: فإن الأصل أن نعود إلى ما عرفناه وتعملناه وألفناه واستقرت مداركنا ووطنيتنا وأفهامنا عليه، وهو أن الانتخابات- الرئاسية والتشريعية على نحو خاص- لا تُجرى تحت حراب المحتل، بل إنها تُجرى تحت علم الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية الناجزة، كما أنها لا تُجرى تحت سيف الحصار وحجب الرواتب عن الموظفين، وفي سياق حالة الركود في إعادة الإعمار بعد ما أتت عليه الحرب الصهيونية ضد قطاع غزة من تخريب هائل ودمار كبير.
وفوق ذلك، فهل سألت قياداتنا أنفسهم أو ساءلوها عما إذا كانت الانتخابات- التي تغيب عنا ثم سرعان ما تعود إلينا لتربكنا وتؤذي أسماعنا وأعيننا ومشاعرنا- ستجرى كما الانتحابات السابقة على منوال أوسلو بقيوده ومحدداته وضوابطه والتزاماته، دون أن ننسى أو نتناسى أن دولة الاحتلال قد تجاوزته (أوسلو) حتى أنها لم تبقَ شيئاً واحداً على حاله منه، أم أنها ستجرى على نحو يتناسب مع الصفة الجديدة التي اكتسبتها الدولة الفلسطينية كعضو مراقب في الأمم المتحدة؟! وماذا عن القدس والانتخابات فيها، لا سيما وإن نتنياهو الفائز يرى أنها العاصمة الأبدية لدولة الاحتلال؟! وماذا عن التنسيق الأمني ويهودية الدولة؟! وفضلاً عن كل ذلك، فما هو رأي دولة الاحتلال في انتخابات فلسطينية- على المستوى الرئاسي والنيابي- من شأنها أن تلم شتات الفلسطينيين وتوحدهم أو تبعثرهم وتمزق جمعهم وتفرقهم؟! أليس حرياً بقياداتنا جميعها أن تصل إلى خلاصة مفادها أن دولة الاحتلال لن توافق على أمر فيه ولو بعض خير لنا إلا إذا تيقنت أن بعض الخير هذا سيكون معه أو بعده أكبر الشر وأخطره.
أما آخر الكلام، فإن تذرع عباس بضرورة امتلاكه ورقة الموافقة الخطية الموثقة من حماس، وإن تذرع حماس بأن هذه الورقة لا ضرورة ولا أهمية ولا قيمة ولا لزوم لها في الأصل ولا يحتاجها- البتة- عباس، إنما هو في رأي كثيرين دليل واضح على رضا الطرفين عن الحالة الفلسطينية الحاضرة ورغبتهما في استمرارها لتبقى على ما هي عليه إلى أن تأتي ظروف وأحوال جديدة تؤمن لأحدهما النجاح في الانقضاض على الآخر وتغيير الحالة الحاضرة، دونما استقراء لما قد يستتبعه ذلك من مخاطر ربما تكون فاتحة لما هو أكثر وأكبر وأخطر!
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة