وصايا للعائدين – رشاد أبوشاور
الفلسطينيون لا يتوارثون مفاتيح البيوت العتيقة فقط، ولكنهم يتوارثون الوصايا، وهم بهذا متأكدون من تنفيذها.
قال لي أبي، وقد ذبل جسده، وهو يمسك براحتيّ، وكان ممدداً على السرير بمستشفى الجامعة في عمّان، وكان ذلك في آخر أيام شهر آذار/مارس عام 1994:
– جدتك فاطمة، أمي، أوصتني بأن ألمّ عظامها وأضعها في صندوق خشبي صغير، وأن أعيدها معنا عندما نعود إلى قريتنا ذكرين، القريبة على مدينة الخليل، وأن أفرغ الصندوق من العظام، ثمّ أخلطها بعظام والدتها ووالدها. حتى تُسلّم العظام على بعضها البعض، وترتاح بعد الغربة التي طالت كثيراً.
تنهّد أبي وضغط على راحتيّ، وأغمض عينيه قليلاً وقال بهمس:
– إنني أُثقل عليك بما سأوصيك به: إحمل عظام جدتك فاطمة وعظامي وأعدها معك إلى ذكرين، وادفني بجوار والدي، وعظام جدتك فاطمة بجوار والدها ووالدتها، و..لتسلّم العظام على بعضها.. ولترتح مع عظام الأهل في تراب قريتنا ذكرين.
كانت جدتي فاطمة واثقة من عودة أبي، ولذلك أوصته، وحمل أبي الوصية، وحمّلني وصيته بإعادة العظام إلى ذكرين..الكنعانية، والتي كتب عنها المؤرّخ والجغرافي الفلسطيني المرحوم مصطفى مراد الدبّاغ في موسوعته الضخمة (بلادنا فلسطين) في الجزء الخاص بديار الخليل: ذكرين قرية كنعانية، واسمها جذره من الذكر. كانت موقعاً للاحتفالات الدينية، والمناسبات…
هذه الوصية يتوارثها الفلسطينيون، ويُحمّلوها أمانة لأبنائهم وبناتهم، وهم واثقون من أن الجيل الذي أتى بعدهم سيعود إلى قراه ومدنه، وأنه سيهنأ بفلسطين الحرّة الآمنة المطمئنة، وأن زمن الغربة سينتهي، وأن ما حدث لفلسطين سيُكتب.. ويضاف إلى زمن الغزو (الصليبي) والمغولي، فلا احتلال يدوم لفلسطين، وكل احتلال إلى زوال.
هزّ أبي رأسه وابتسم:
– قالت لي جدتك فاطمة: لن يكون للعظام رائحة، وستكون ناشفة وخفيفة، فيسهل لمّها ووضعها في صندوق من صناديق الخضار الصغيرة الرخيصة الثمن. أعرف أنك فقير، لكنك يا ولدي ستجد خمسة قروش تدفعها ثمناً لهكذا صندوق يلُّم عظامي!
وأضاف أبي:
– ستعودون.. من يمتد عمره سيعود.. لذا فوصيتي غير مكلفة، وليست ثقيلة الحمل.
ثُمّ كأنه فطن:
– بل ثقيلة. أرى هذا الكلام في عينيك.. ولكن جيلكم: تعلّم، وكبُر على أيام الجوع في المخيمات بعد النكبة، وهو قوي ويحقق المعجزات.. و..و..لم ييأس.. نعم لم ييأس.
وهكذا صار عليّ عبء حمل عظام جدتي فاطمة، وعظام أبي، أمّا والدتي فلم توصني بشئ لأنها ماتت في قريتنا، ودفنت في ثراها مع عظام أهلها الذين سبقوها إلى العالم الآخر..يرحمها الله، وحسرتي أنني لا أعرفها، ولا أتذكر سمات وجهها فقد كنت في الرابعة من عمري عندما رحلت، ولا توجد صورة لها..على الأقل صورة..يا حسرتي!
ماتت أمي في بابور الطحين الذي كان في قريتنا قريباً من آبارها، بعد أن صعدت على درجات سلم خشبي لتطحن قمحها، وهناك التقت بصديقة لها، وأخذتا تتمازحان، و..انكسر الخشب تحت قدميها، فهوت من بين ألواح الخشب على الحزام العريض الذي يدور بسرعة فتلقف طرف ثوبها و..برم جسدها وضرب بحافته ثديها وذراعها وفخذها..ونُقلت إلى القدس في سيارة “بيك أب” من دون أن تسعف، وبعد ثلاثة أيام أعيدت في نفس السيارة ممدة على أرضيتها..ودفنت زينب، أُمي، بجوار أهلها في قبر يتسع لعدّة موتى لا يتبقى منهم سوى عظامهم أو رمادها بعد سنوات.
أما أنا الذي حُمّل وصيتين، وصية الجدّة والأب، ففي اليوم الثاني من الشهر الأوّل من هذا العام 2022، وكنت أتهيّأ للسفر إلى دمشق في اليوم التالي للمشاركة في تأبين صديقي الشاعر خالد أبو خالد الذي وافته المنيّة قبل أيّام، وبعد أن تهيأت لارتداء ملابسي للتوجه مع صديقي مصطفى نجم إلى قلب مدينة عمان، فإذا بي أهوي في صالون البيت، ثمّ أنقل إلى المستشفى شبه فاقد للوعي، ولتبدأ معاناة صعبة خطرة، يبدو أنني نجوت من مخاطرها..لكنني ما زلت أعاني بعض نتائجها وتأثيراتها.
وأنا ممدد في سرير المستشفى همست لابني كنعان الذي يستعد للزواج وقد بلغ السابعة والعشرين من عمره: أنت لن تستطيع دفني في قريتنا ذكرين راهناً، ولكن عندما تعودون، وستعودون، أوصيك أن تحفر قبر جدك في مقبرة (سحّاب) وتضع عظامه في صندوق، وتنتقل إلى (مخيم النويعمة) قرب أريحا، وتضع عظام جدتي فاطمة في صندوق صغير، وتدفن عظامي وعظام جدك في قبر يجمعنا معاً مع رماد عمّتك الصغيرة (معزوزة) التي ماتت وهي لم تبلغ الثانية بعد شهر ونصف من موت جدتك زينب، وهكذا لن تبقى وحيدة، و..ستفرح بعظامنا التي ستؤنسها في قبرها.
وجم كنعان فالوصية غير متوقعة.
– لا تبكِ يا بني..فأنت ونسلك ستعودون إلى ذكرين، ربما وأنت في حدود الأربعين.
قبل أيّام عيدني صديقي المورّخ جوني منصور، وأخبرني أنه أعد كتاباً بالإنجليزية بالاشتراك مع المؤرخ إيلان بابيه عن القضية الفلسطينيّة فسألته: ألم تسأل هذا المؤرخ عن مصير هذا الكيان الصهيوني، فأجابني وهو يضحك:
– بل سألته، وقد أخبرني بأن هذا الكيان لن يعيش أكثر من 30 سنة.
قلت بحزن:
– وا أسفاه..لن أعيش ثلاثين سنة فوق عمري الذي يقترب من الثمانين.
ضحك وقال:
– ولا أنا…
الفلسطينيون لا يتوارثون مفاتيح البيوت العتيقة فقط، ولكنهم يتوارثون الوصايا، وهم بهذا متأكدون من تنفيذها، فهم يوصون أبناءهم وبناتهم واثقين من تحققها، فهم لا يشكّون في أن عودتهم قريبة، وأن الجيل الثالث..أو الرابع، على أبعد حد سيعود إلى فلسطين العربية الحرة، التي ستعود كما كانت قلب الوطن العربي، ومركز تواصله، وأن المسافر من القدس، أو عبر القدس ..سيصل إلى مدينة الجزائر، أو الرباط، أو نواكشوط، ناهيك عن القاهرة وطرابلس برّاً، و..سيستحم بمياه المحيط وهو ينشد: بلاد العُرب أوطاني.
كل هذا سيتحقق بتحرير فلسطين وبوصايا الفلسطينيين جيلاً إثر جيل وبثباتهم رغم الخذلان والغدر والتآمر، وهم يرفعون علم فلسطين الذي تحته يخوضون المعارك ويلفون من يسقط منهم به، رجلاً أو امرأة، طفلاً أو طفلة، شيخاً أو جدّة، وفي ثرى فلسطين سيحيي الله العظام وهي رميم.. أتشكّون؟
المصدر: الميادين