وعد بلفور و”شرعية” الكيان الصهيوني – منير شفيق
مع اقتراب مرور مائة عام على وعد بلفور الذي وعدت فيه بريطانيا الاستعمارية الإمبريالية بإقامة “وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”، يثور جدال واسع داخل الكيان الصهيوني حول الأساس الذي يمكن أن يُبنى عليه إعطاء هذا الحق لليهود في فلسطين. إنها مشكلة الشرعية المفقودة والمُحالة.
فثمة من يصرّون على أساس “الوعد الإلهي”، وهم الآن الأغلبية في حكومة نتنياهو من أحزاب صغيرة أخذت تتجاوز حزبَيْ العمل والليكود في التطرف، في ادّعاء “الحق اليهودي” في فلسطين وفي الإمعان في سياسات الاستيطان والإبادة والتهجير للفلسطينيين، باعتبارها عملية مستمرة.
وثمة من يحاولون التخلص من نظرية “الوعد الإلهي”، لضعفها كحجّة على المستوى العالمي إلى جانب سقوطها في الصراع الديني الإسلامي والمسيحي بالنسبة إلى الحق في فلسطين. ولهذا أخذوا يتجرأون على إقامة ذلك الحق في فلسطين (مع تغيير في الاسم الجغرافي باختراع اسم “بلاد إسرائيل”) على أساس “قانون الشعوب” (شاؤول أرئيلي، هآرتس 29/7/2016، ترجمة “القدس العربي”). وهذا القانون يعتمد على حق الشعوب في تقرير المصير، كما تجسّد في القانون الدولي وعدد من المواثيق الدولية.
فإذا كانت حجة “الوعد الإلهي” واهية، ومردوداً عليها، فإن الحجّة الثانية تواجه ضعفاً أشدّ، أو في الأصح تدخل في باطل وتزوير لا مثيل لهما.
المشكل الأول: كيف يمكن إثبات أن اليهود شعب موحّد على أرض موحدّة تاريخياً مثله مثل كل الشعوب التي عناها القانون الدولي، وانطبق عليها واقعياً وتاريخياً، وتحقق بشكل سلس وبلا خلافيات في بلدان المستعمرات. وذلك بعد إزالة الاستعمار الحديث، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية؟ أي كيف يمكن إعطاؤه الصفة القومية وهو شتات على مدى مئات السنين، في الأقل، ولا حاجة إلى الذهاب أبعد من ذلك على مدى آلاف السنين؟ فاليهود ينتمون عملياً للشعوب والقوميات التي عاشوا بين ظهرانيها، أو كانوا منها، تاريخياً، كاليهود العرب واليهود البولونيين أو الألمان أو الفرنسيين والهولنديين.. إلخ، الأمر الذي يمنع تسميتهم شعباً ضمن الشروط التي تنطبق على الشعوب الأخرى كافة، وذلك من النواحي الجغرافية (الأرض المشتركة) أو من ناحية التاريخ المشترك أو الحضارة المشتركة وغيره من الشروط. قأنت هنا مضطر دائماً أن تعطيهم سمات أخرى غريبة على السمات العامّة التي تنطبق على الشعوب كافة؛ إذا أردت أن تعتبرهم “شعباً وقومية” وتعطيهم حق تقرير المصير الذي يقرّه القانون الدولي للشعوب. وأين؟ على أرض شعب آخر وعلى حساب تشريده ونهب ممتلكاته.
المشكل الثاني، والمترتب على الأول، وهو ما حدث مع وعد بلفور وما سار على نهجه في صك الانتداب البريطاني الاستعماري على فلسطين، وصولاً إلى قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، أو أيّة صكوك أو قرارات أو اعترافات دولية لاحقة. فالذي حدث هو محاولة تجميع اليهود (طبعاً بعضهم فقط بسبب الاصطناعية والقسرية) من خلال تهجيرهم من مختلف البلدان والشعوب التي ينتمون إليها، إلى فلسطين، وفرضهم بالقوّة السافرة البريطانية التي استعمرت فلسطين وقمعت شعبها وجرّدته من السلاح. ولكن حتى عملية تحويلهم إلى مستوطنين لأرض فلسطين؛ ما كانت لتتحقق بإقامة الكيان الصهيوني إلاّ من خلال تهجير الفلسطينيين (هُجِّر ثلثا الشعب بالقوّة والإرهاب في العام 1948)، والاستيلاء على حوالى 80 في المئة من فلسطين لإقامة دولة الاستيطان الصهيوني عليها.
فلكي يُصطنع من المهاجرين المستوطنين اليهود “شعب واحد”، كان يجب أن يتعلموا اللغة العبرية لتصبح لهم لغة مشتركة، ويتشكل منهم جيش يقوم بمهمة العمود الفقري لإقامة المجتمع والدولة. أما العدو الذي سيتوحدون ضده؛ فهو شعب فلسطين الذي يجب أن يُطرد من مدنه وقراه وتتم مصادرة أراضيه وبيوته وممتلكاته، ليحلّ مكانه فيها المستوطنون الذين سيصعب على ملامح وضعهم الجديد أن يشبه حالة الشعوب الأخرى. وهو ما ولّد حالة استيطانية عنصرية لا تشبه حالات الاستيطان التي عرفتها أفريقيا وعدد من بلدان أخرى. فما من استيطان سكن بيوت الشعب الأصلي وقد راح يتمتع بأثاثها وجمالها، وبعضها كان أرقى من البيوت التي جاء من دولها. فالمستوطنون في جنوبي أفريقيا بنوا بيوتهم وأحياءهم، ولم يسكنوا أكواخ الشعب الذي احتلوا بلاده وعمدوا على اغتصاب أراضيه واستغلالها. فليس هنالك في أفريقيا مشكلة اسمها عودة شعب إلى بيوته ومدنه وقراه، أو مُطالَبة من سَكَنها بإعادتها أو التعويض عن استخدامها منذ 1948. ثم هنالك فارق آخر يتعلق بتهجيره من وطنه وإنكار عودته إليه.
أما المشكلة الثالثة: فكيف يمكن أن ينكر على الشعب الفلسطيني حقه في فلسطين كما هو الحال بالنسبة إلى أي شعب آخر في العالم؟ فكل الشروط التاريخية والقومية والدينية واللغوية والحضارية والاقتصادية والجغرافية التي يقرّ بها القانون الدولي للشعوب في أن تكون صاحبة الحق في تقرير المصير متوفرّة (وبفائض من الوفرة) للشعب الفلسطيني. هذا دون التطرق إلى الحق العربي والإسلامي في فلسطين.
وإذا كان هذا الإنكار غير ممكن، وبصورة مطلقة، فكيف يمكن أن يحلّ مكانه حق آخر يقوم على أساس “قانون الشعوب” حتى لو اخترع “شعب” لمثل هذا الحق اختراعاً أو افتراضياً أو نظرياً؟ وبالمناسبة حتى التاريخ الموغل في القدم لم يجد علماء الآثار أثراً واحداً له، علماً أن هؤلاء العلماء نقبّوا في فلسطين كما لم يفعلوا في أي بلد آخر.
ثم هنالك مشكل رابع، وهو إحجام أغلبية اليهود في العالم من أن يقبلوا باستراتيجية الهجرة إلى فلسطين وتشكّلهم كشعب موحّد فيها. وذلك بالرغم مما بُذِل من جهود وضغوط وإغراءات، بل حتى ثمة أكثر من 30 في المائة (والبعض يرفعها إلى 40 أو 50) وهي في حالة تزايد في كل الأحوال، احتفظوا بجنسياتهم التي هاجروا من بلدانها. وقد جعلوا “قدماً هنا وقدماً هناك”. أما دلالة هذين البُعْدَيْن: إحجام أغلبية اليهود من أن يستوطنوا في فلسطين وبقوا في أوطانهم، كما الاحتفاظ بالجنسيتين لأعداد كبيرة من الذين هاجروا إليها، فترجع إلى لا واقعية ولا علمية الإدّعائين: الوعد الإلهي، و”قانون الشعوب” بالنسبة إلى اغتصاب فلسطين ومحاولة تهويدها.