وفاة الأسير الفلسطيني المحرر نادر العفوري..قصة رجل شجاع
رحيل البطل الفلسطيني الكبير الأسير المحرر نادر العفوري
تقرير عن الراحل الكبير للصحفية لارا كنعان من سنة 2016
لم تستطع الكلمات العربية التي سمعها، في حالةٍ يختلط بها الوعي بغيابه، على مدخل مستشفى الأمراض العقلية في بيت لحم أن تنهي حالة القلق التي عاشها نادر العفوري طيلة الساعة والنصف التي قطعتها سيارة إدارة سجون الاحتلال من عزل الرملة إلى بيت لحم، بعد أن أبلغه الضابط “الإسرائيلي” بالإفراج عنه: “عفوري أنت مروح” بلكنته العبرية التي ظلت لعامين اللغة الوحيدة التي رافقت سمعه. حالة القلق هذه غابت بعد استلامه من قبل الأطباء الفلسطينيين في مستشفى الدهيشة الشهير بـ “مستشفى المجانين”.
نادر العفوري الذي اعتقل للمرة الأولى عام 1967، وهو في مطلع العقد الثاني من عمره، ليكون من أقدم الأسرى الفلسطينيين بعد الاحتلال “الإسرائيلي” للضفة الغربية، مورست ضده أبشع أساليب التحقيق في سجن صرفند العسكري، ما دفع الأسرى لنعيه ونشر خبر استشهاده لأكثر من أربع مرات، قبل أن ينفي الخبر في كل مرةٍ ظهوره في أقبية التحقيق في سجون أخرى مع أسرى آخرين.
الأسير نادر العفوري تعرض للتعذيب حتى أُعلن عن استشهاده أربع مرات ثم انتهى به الاعتقال إلى “مستشفى المجانين”
في التحقيق الأول، اتهمه الاحتلال بتنفيذ عملياتٍ وتفجيراتٍ والانتماء إلى تنظيم “إرهابي”، تم شبحه لفتراتٍ طويلةٍ تركت آثارها حتى الآن، إضافةً لتعذيبه نفسيًا، وصولاً لتهديده بجلب نساء الأسرى والاعتداء عليهن، إلّا أنّ الأكثر وحشية كان بقطع “حلمة” صدره بـ”كماشة”، لا زالت آثارها داخل روحه، قبل ظهورها اللافت على جسده في ممارسةٍ تجاوزت حدود الآدمية.
هذه الوحشية، بعد وصول خبرها للسجون، دفعت الشهيد إبراهيم الراعي لتأليف كلماتٍ أصبحت أيقونة غناءٍ داخل الجبهة الشعبية في ذلك الوقت، وهو الذي لم يكن يعلم وهو يخطّها بيده أنّه سيكون ضحية تعذيبٍ في أقبية السجون، وسيصبح أحد شهداء التحقيق الأكثر شهرة.
بكماشة حديد خلعوا حلماته وبكيي السجاير شووا لحماته
مهما الصهاينة شلوا حركاته نادر بصموده فجر بركانه
زيدي يا جبهة بأبطالك زيدي والله عن دربك ما نحيدِ
كان هذا الشاب بكامل الرجولة التي حملتها روحه، يعيش حالة رفضٍ قاطعٍ، حتى وهو يتدلى من الطائرة العامودية التي أحكموا وثاقه أسفلها بالحبال وهي تطير به فوق قرى “بيت فوريك” و”سالم” وغيرها من القرى في “المشاريق”، في محاولةٍ لبث الرعب في قلبه وليكون عبرةً لغيره، إلا أن هذه المحاولة أيضًا فشلت في إجباره على الاعتراف.
بعد عامٍ من التحقيق، تم تحويله للاعتقال الإداري لأربع سنوات. وبعد دخوله السجن، لم تنته تجربته النضالية، سواء حين عمل “مردوان” في سجن نابلس، ورفض تسليم الأوراق التي أخذها من إحدى الغرف ليوصلها لأخرى، الأمر الذي أدى لعقابه. أو حين كان في مرحلة الفرز للانتخابات الداخلية، في غرفة رقم 4 الأكبر حجمًا، والتي كانت تكتظ بـ120 معتقلاً، حيث دخل الضابط “عرنوس” المعروف بقسوته، والذي كان يديم المراقبة للعفوري، وطلب منه تسليم الأوراق الخاصة بالانتخابات، الأمر الذي رفضه بشدة، فمزقها وابتلع جزءًا كبيرًا منها، فيما خطف معتقلون آخرون ما تبقى وتخلصوا منها في المرحاض. “عرنوس” علّق على ذلك قائلًا: “مصيرك توقع يا عفوري”.
هذه الحادثة لم تمر بهدوء، فقد تم استدعاء العفوري من قبل أحد الضباط وكان اسمه عباس، حيث خاطبه قائلًا: “عفوري بدنا نقعد نتفاهم مع بعض”، إلا أنه غافله، ورش الغاز في وجهه، ثم انقض الجنود عليه بالضرب المبرح فيما كان يبادلهم الضرب دفاعًا عن النفس، حتى فقد وعيه بعد ضربة على رأسه بكرسي، وبقى 14 يومًا في الزنزانة الانفرادية إلى أن أفرج عنه في العام 1971.
حمل جنود الاحتلال نادر العفوري في طائرة عامودية ودلّوه منها بالحبال في السماء لدفعه إلى الاعتراف بنشاطاته لكنه لم يفعل
استمر العفوري بالعمل النضالي بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال فأعيد اعتقاله مرة أخرى عام 1973، ثم نال حريته مجددًا عام 1976، حيث وجهت له تهمة المسؤولية التنظيمية للقطاع الشمالي لتنظيم الجبهة الشعبية في الضفة الغربية.
دراما مكثفة
أمّا الاعتقال الأكثر إثارة، في حياة العفوري، بل ربما في تاريخ الحركة الأسيرة، فكان الاعتقال الأخير الذي استمر من 1978، حتى 1980. هذا الاعتقال الذي عندما ذكّرته به، أخرج من صدره زفرات شعرْتُ بالحرارة التي تحملها في ظهيرة اليوم البارد الذي زرته خلاله في بيته. إذ يُمكن وصف هذا الاعتقال بأنه “دراما مكثًّفة” أو “تراجيديا” إن أردنا استخدام عبارات الفلاسفة اليونان وهم يصفون بكائيات تلك الأيام.
اقرأ/ي أيضًا: طحين الأسرى وابتساماتهم
اعتُقل العفوري في الشهر السابع من سنة 1978 بتهمة قتل الحاكم العسكري قرب الجامع الكبير في البلدة القديمة في نابلس، وبتهمة قيادة تنظيم الجبهة الشعبية، وكان حينها قد تزوج حديثًا.
وبعد ليلةٍ من اعتقاله نُقل إلى التحقيق في الخليل، وهناك تعرض للضرب بعد تقييده على كرسي “الشبح”، لكنّه واجه ذلك برفض التهم التي وُجهت إليه، وهنا، حدث ما يمكن أن نصفه بكونه الحدث الذي سيكون له الأثر الضخم على حياة العفوري للأبد، إذ ضربه أحد المحققين ضربةً قويةً ارتطم إثرها بشدةٍ بالأرض، فأصابه انهيار عصبي، وتشنج، الأمر الذي أصاب فمه بردة فعل أدت إلى وجود حركة لا إرادية لازمته طيلة فترة اعتقاله.
سقط أرضًا، أعادت عملية التعذيب الوحشية جميع المكنونات التي كانت تترسب بهدوءٍ في داخل لا وعيه من ذاكرة اعتقاله الأول. لقد كان ما يُمارس معه جنونًا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، كان للضرب الذي تعرض له أثرٌ في تنشيط ذاكرته التي حملته للعام 1967، بكل ما تعرض له من شبحٍ، وقطع حلمته، ففقد ذاكرته، كان للصدمة التي تعرض لها منذ الساعات الأولى دورٌ في فقدانه لذاكرته، ولعقله، بل ولإدراكه لما يحيط به، وفقدانه لقدرته على التحكم بأعضائه.
رغم إصابته في رأسه، ظل نادر العفوري قيد التحقيق والتعذيب لأكثر من سنة، ثم نقل لقسم الأمراض العقلية بمستشفى الرملة
الحالة العقلية التي وصل لها العفوري، والتي لم يقتنع بها محققوه الذين أصروا على التعامل معه كمعتقل، كانت تصل به حد “التغوط” على نفسه، ما كان يدفع بالمحققين للمغادرة، وهم يشتمونه بأفظع الأوصاف. كما أنّه لم يكن يستطيع التعرف على زملائه الذين كان المحققون يواجهونه بهم في غرفة التحقيق، وكانوا يرشقون جسده بالماء المثلج، كما قاموا بخلع طواحينه دون مخدّر، لكنه لم يشعر أو يدرك ما يحدث معه.
قضى العفوري سنتين في المعتقل، منهما سنة وشهر في تحقيق متواصل، وبعد أن أتم سنة السجن الإداري، وبعد عجْزِ المحققين عن انتزاع الاعتراف منه، تم نقله إلى مستشفى الرملة، في قسم الأمراض العقلية ووضعوه على سريرٍ ووجهُهُ مقابلٌ لغرفة الإدارة التي وضعته تحت المراقبة المكثفة بالكاميرات، للتأكد من صحة ادّعائه بفقدانه لعقله.
وضعه الصحي الصعب، دفع إدارة سجن مستشفى الرملة إلى تحريض طاقم الممرضين وحتى المعتقلين اليهود عليه، بالقول إن هذا السجين مسؤولٌ عن عملية قتل الأطفال في مدرسةٍ في منطقة “معلوت”، والتي تنسب للجبهة الديمقراطية، فكان الممرضون يشتمونه باللغة العربية، وكانت إحدى الممرضات تقول له: “أنت حرام تأكل، أنت ما بتستاهل تعيش”.
وصل التحريض ضد العفوري مستوىً غير مسبوق في بشاعته، فكان الأولاد في “النادي” الموجود بمستشفى الرملة يضربونه ويشتمونه، وكان يتلقى الضربات من كل المراجعين “الإسرائيليين”، كما كانوا يدفعونه لشرب الماء القذر والمختلط ببقايا شعر المرضى، كما كانوا يجبرونه على أكل برازه، وهو يستجيب لهم بكامل السلبية والرضا بما يفعلونه.
وبعد ضغوطٍ شديدةٍ من الخارج، وتدخل العديد من الشخصيات السياسية الوطنية كرئيس بلدية نابلس في ذلك الوقت بسام الشكعة، أرسل الصليب الأحمر له أطباء لمعاينة حالته، فأرسلوه إلى مستشفىً “إسرائيليٍ” لإجراء صور أشعةٍ شاملةٍ وفحص كهرباءٍ وصورٍ طبقية، وكانت حركة الفم اللاإردية تحول دون نجاح الصور جميعها.
تواصلت إهانة نادر العفوري في مستشفى الرملة وأُجبر هناك على أكل برازه وشرب الماء الملوث بشعر المرضى اليهود
تردت حالة العفوري الصحية حتى لم يعد قادرًا على الوقوف والمشي، فكان يُنقل محمولاً مكبل اليدين والقدمين، حتى أنه بقي لثلاثة أيامٍ مكبلاً ويداه خلف ظهره، الأمر الذي أدى إلى حدوث خدر شديد في يده دون أن يشكو.
أصرت إدارة سجون الاحتلال على موقفها الرافض للاعتراف بأن العفوري قد فقد قدراته العقلية، وأحضرت بروفسور إسرائيلي ليقوم بعدة خدعٍ طبيةٍ لكشف صدقه، كضرب باب حديد بعصاه وإصدار صوتٍ عالٍ، ووضع أصابعه في بؤبؤ عينيه، كما حاول إخضاعه للتنويم المغناطيسي، ثم كتب في تقريره بأن العفوري لا يستجيب وهو فاقد الإحساس.
اقرأ/ي أيضًا: بالفيديو: هذه هيّ القدس.. صح أم خطأ؟
وكانت عملية الاستحمام بالنسبة للعفوري جحيمًا حقيقيًا يضافُ إلى ما يتعرض له، إذ كانوا يجردونَهُ من ثيابِه ويفتحونَ صنبورَ مياهِ الضغط العالي المندفعة بشدة ويوجهونَها على أعضائه التناسلية، كما كان الضباطُ “الإسرائيليون” يعطونه السجائر فيدخن السيجارة الواحدة بسرعة فائقة ثم يبتعلها وهي مشتعلة، فيضحكون عليه ليعطونه أخرى ويستمرون بالسخرية منه لفترات طويلة.
ورُزق العفوري بعد اعتقاله بطفلٍ لم يعلم بولادته إلا عند زيارة زوجته له في المستشفى حاملةً رضيعها، إذ حاول حينها الضباط اختباره مرةً أخرى بمراقبة ردة فعله تجاه طفله وزوجته، لكنّه لم يتعرف عليهما. وصل العفوري في هذه المرحلة إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من فقدانٍ للعقل، وكان كل جسده متأثرًا بأنواع التعذيب، وحرق السجائر، وامتلأ ظهره ومؤخرته بالتقرحات والدمامل، وأصبحت بقع الدماء المتجمدة على مناطق مختلفة من جسده تظهر بشكل واضح، كما وتعرض ظهره وحوضه لكسور لازال يعاني منها، بل ويذكرها كلما استعان “بعكازته” ليقف أو يمشي، هذه “العكازة” التي أصبحت جزءًا من جسده، كما تعرض إلى كسرٍ في الأنف إثر محاولة قتله من معتقلٍ “إسرائيليٍ” يدعى يوشع، والذي لم يفلت منه إلا بتدخل من قوات الأمن في السجن.
الجنون حرية!
اقتنعت إدارة السجون أخيرًا بالوضع الصحي الصعب للعفوري فأبلغته بالإفراج، هذا الإبلاغ الذي لم يقع من العفوري موقع التصديق فبقي على قناعةٍ بأنه سيُنقل إلى سجن آخر، فالحيل التي مورست ضده جعلته يفقد الثقة بكل شخص وكل شيء في السجن.
لم يأبه العفوري كثيرًا وهو يصعد سيارة الإسعاف التي نقلته خارج سجن الرملة للمرة الأخيرة، حتى عندما بدأ يسمع الكلمات باللغة العربية وهي تختلط بسمعه في حالة ما بين الوعي واللاوعي، لم يكن كل هذا مقنعًا بما فيه الكفاية ليصدق بأنه في منطقة عربية.
أُدخل العفوري مستشفى الدهيشة للأمراض العقلية، أو “مستشفى المجانين”، كما هو معروفٌ فلسطينيًا، لكنّه ظلّ على حالة القلق والخوف من الخداع، ولم يخرجه منها إلا الاستقبال الرائع الذي استقبله به أهالي مخيم الدهيشة، وهتاف طلاب الجامعات الفلسطينية باسمه، هذا كله جعله يحس ببعض الراحة، إلا أنه بقي على حاله حتى عندما زاره وفد رؤساء البلديات بقيادة الشكعة، الذي بدأ بالضغط من أجل إخراجه من المستشفى ليذهب إلى بيته.
وأثمرت الضغوطات المحلية والعربية والدولية عن الإفراج عن نادر العفوري الذي بلغ عمره حينها (32 عامًا)، فيما بلغ وزنه 37 كيلوغرام، وقد حظي باستقبالٍ كبيرٍ من أهالي المدينة، فيما دعاه بسام الشكعة إلى منزله، بحضور وفودٍ وشخصياتٍ معتبرةٍ، إضافةً لأعضاء المجلس البلدي لمدينة نابلس.
“عشت السواد”، أيقظتني كلمات أبو نضال العفوري من حكايةٍ نقلتني إلى حيث كان في زنزانته، يتضور ألمًا، كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها تجربة عذابٍ حقيقيةٍ تفوق الخيال بحقيقتها، عاشها رجلٌ جبارٌ. بهاتين الكلمتين “عشت السواد” أرجعني إلى الواقع الذي أعيشه، والذي تجاهل عذاباتِ هؤلاء وأبقاها طي ذاكرتهم بدلاً من أن تُكتب في كتب التاريخ الوطني للحركة الأسيرة، وصرت أتمنى، كزوجته أم نضال التي رافقته بأكثر أوقات حياته قسوة وصعوبة، “لو أبو نضال يعيش عمرًا آخر حتى يعلّم الأجيال معنى الصمود والانتماء لقضيتنا الفلسطينية”.
اتكأ العفوري على عكازته وهو يهم بالوقوف لتوديعي ورافقني إلى باب بيته، وعندما فتحت الباب التفتُّ إليه بتساؤلٍ بقي يلازمني طيلة المقابلة: “هل كنت مجنوناً؟ هل فقدت عقلك؟” فنظر إليّ بنظرة لم تخفَ عني دلالاتها، وابتسم تلك الابتسامة التي لا تليق إلا بمنتصرٍ ومناضلٍ أخضع جلاديه، وقال لي “رافقتك السلامة”.
نادر العفوري.. الجنون حين يُصبح خلاصًا