وقفات على المفارق مع المشتركة والبراغمتزيّة! – سعيد نفاع
الوقفة الأولى… مع المدخل.
تمخّضت الانتخابات الأخيرة فيما تمخّضت عن حالة خاصّة مليئة بالمتاهات القانونيّة والسياسيّة، ويزيد طين هذه المتاهات بلّة على الناس كثرة الخبط خبط عشواء، هذه الحالة الخاصّة جعلت التوصية لتشكيل الحكومة وتشكيل الحكومة شيئين مختلفين كليّا وربّما لأول مرّة في تاريخ إسرائيل. الجزء الأوّل من “الفلم” والمرشّح للعرض اليوم هو ليس بتاتا الجزء الثاني من “الفلم” الذي سيأتي عرضه حال الشروع في تشكيل الحكومة.
التوصية اليوم، توصية المشتركة، معناها في جانبٍ إعطاء فرصة لإعادة هيكلة الكنيست، يعني انتخاب رئيس جديد وفي سياقنا عزل الرئيس الليكودي. ويعني انتخاب لجنة كنيست لتفعيل عمل الكنيست ومن ضمن ذلك سنّ قوانين، وفي سياقنا مثلا محاولة سنّ قانون منع توكيل متّهم بتشكيل حكومة، صحيح أن مثل هكذا قانون لا يسري على نتانياهو الآن ولكن في مثل هكذا قانون يكمن سدُّ الطريق أمامه في الكنيست القادمة التي بدأ التحضير لها. كذلك بالإمكان تغيير قوانين وقانون “كامنتس” يمكن أن يكون مرشّحا وهي فرصة.
هذا ما وراء التوصية اليوم ليس إلّا، ولذا فكلّ حديث الآن عن “سلّة طلبات” ما هو إلّا “طزع حكي” لا يشبع من جوع ولا يروي من عطش، وحريّ بالقيادة أن تسلك طرق “القدومة” وليس “الدورة”، خصوصًا وفي ظهيرها في سياقنا دعمٌ غير مسبوق، ويكفيها بما جاء أعلاه تبريرًا للتوصية إن كانت بحاجة!
(اعتراضيّة: لا يستنتجنّ أحد من هذا موقفي المبدئي، فالقضيّة أبدًا ليست الموقف الشخصي لهذا وذاك، وما أطرحه هو اشتقاقًا من خطاب المشتركة الانتخابيّ وبغضّ النظر عن تحفّظاتي الكثيرة عليه، والتي يبدو فيها أنّي ك- “بعر الجِمال”.)
عدم التوصية على غانس معناه إحدى ثلاث؛ شقّ الطريق أمام حكومة “وحدة وطنيّة” برئاسة نتانياهو أوّلًا، أو حكومة “شقفة وحدة وطنيّة” برئاسة نتانياهو أوّلًا وآخرًا، أو انتخابات رابعة وفي أيلول و- “ما له… هيك وهيك الزلمة رئيس!”
هل هذا ما نادت به المشتركة في خطابها؟!
الوقفة الثانية… مع حذوك النعل بالنعل والبراغمتزيّة.
حين أطلق بنيامين بن إليعيزر (فؤاد) الضليع في الشؤون العربيّة، قبل سنوات وعلى وليمة دسمة في باقة الغربيّة، مقولته وببعض تصرّف: “شو عملوا لكم النواب العرب… ملتهيّين في السياسة؟!”، وتناولها بعده جدعون عزرا نائب رئيس الشاباك وراح يبهّرها، استطيبت قطاعات واسعة من ناسنا “الطبخة” وراحت تضيف عليها ما شاءت من بهارات، وإن اختلفت المنطلقات لم يغيّر ذلك من طعم الطبخة، البعض استطيبها لسوء في الذوق وآخرون لأغراض في نفس يعقوب. وها رأينا أبراهام ديختير، زميلهما، يحذو حذوهما في الانتخابات الأخيرة، حذوك النعل بالنعل!
العودة إلى الحملة الانتخابيّة وما رافقها من أطروحات كانت الغالبة في البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة وعلى شبكات التواصل الاجتماعيّ، من قيادات وأكثر من “باحثين معلّقين خبراء” طبقًا ل- “التايتلات” المنعوفة عليهم نعفًا من المقدّمين أو من أنفسهم، العودة إليها توصلنا إلى نتيجة مرّة ألا وهي أنّ “خطاب التُأثير الخدماتيّ” هو الخطاب الذي طغى. والفرق كان هذه المرّة فقط أنّ مروّجي هذا الخطاب كانوا منّا وفينا مع اختلاف المفردات المستعملة واللبوس الذي ألبسوها، وإن كان حدث وفات أحد إعلاء هذا الخطاب كان المقدّم يعيده إلى سواء السبيل!
تغلّب الخدماتي في الخطاب على كلّ ما خلافه متّخذا شكلًا آخر عنوانه؛ “التأثير في التغيير”. هذا لا شكّ كان نقلة نوعيّة ليس بالضرورة نقلة إيجابيّة، ولم يكن نابعًا نتيجة لتبنّي أطروحات فؤاد ورهطه وإنّما من تغيّر اجتماعيّ حصل عندنا أتى بتغيير سياسي بالضرورة. فقد انتقلنا قيادات وناس من فلاحيّة وعماليّة آباء إلى برجوازيّة أبناء حياتيّا وذهنيّا، ولا يستهيننّ أحد بأبعاد مثل هذه النقلة الاجتماعيّة على تصرّف الفرد فكريّا واجتماعيّا وسياسيّا، فليس أسهل من تخطّى الحد الدقيق الفاصل بين البراغماتيّة (في سياقنا التأثير) والانتهازيّة (في سياقنا اعتلاء ظهر التأثير) من حيث يدري ومن حيث لا يدري المخاطِب البرجوازي، وهذا دين وديدن البرجوازيّة كان وما زال وسيبقى، وحين يكون المخاطَب كذلك فالطامّة كبرى.
الوقفة الثالثة… مع بلع المنجل!
من نافل القول الذي يعرفه الكبير والصغير فينا، إنّ إمكانية “قبع” نتانياهو لن يتأتّى إلا إذا أوصت المشتركة، ومجتمعة، على غانس وعملت معه على تغيير هيكلة الكنيست وربّما سنّ قانون يمنع تكليف متّهم بتشكيل حكومة، وهذا هو الجزء الأول من “الفلم”. وعلى المشتركة أن تأخذ دورها في هذا الفلم وبلا محاولة أخذ دور البطل لأنّها لا تستطيع، ويكفيها دور ثانويّ ل-“قبع” نتانياهو. ألم يكن هذا جزءًا من خطابها وطاغيًا في بعض المحطّات؟!
حظوظ تشكيل غانس الحكومة، الجزء الثاني من “الفلم”، فإنّ عرضه على كفّ عفريت والعفاريت حوله كثيرون، فإن روّضها وتروّضت فحينها وفقط حينها تستطيع المشتركة الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطاب التأثير والتغيير وبغض النظر عن “البراغماتزيّة”
المشتركة في هذا الوضع أمام خيارات لا تُحسد ولا تُغبط عليها، وبين خطابها الانتخابيّ في التأثير والتغيير والخيارات المترتّبة على ضوء النتائج، فهي كما بالع المنجل، والاستعمال كليّا مجازي فلا يذهبنّ أحد به إلى معانٍ أو أبعاد أبعد ما تكون عن قصدي!
الوقفة الرابعة… مع الفعل وردّ الفعل.
حبّذا لو كان هذا الإقبال على التصويت دعمًا للمشتركة جاء نابعًا عند كلّ القطاعات عن فعل وليس عن ردّ فعل عند بعض ليس بقليل، هذا الفعل في حالتيه؛ الفعليّة والردّ فعليّة، يجعل المهمّة أمام المشتركة في التعامل مع المنجل أصعب، إذ إنّها بحاجة إلى هذا الفعل بحالتيه إن لم تجر الرياح كما تشتهي الربابنة لا في التوصية ولا في التشكيل، وانطلق الركب نحو انتخابات رابعة.
ولكن هذا دور الربابنة وبين الأنواء التي تكتنف المركب اليوم عليها المضيّ، وما دامت كانت اختارت خطاب التأثير والتغيير فالاختيار بين منجل نتانياهو ومنجل غانس على ما يمكن أن يخبّئ هذا، يجب ألّا تشوبه التأتأة.
الوقفة الخامسة… مع الوُعّاظ.
يبدو للمتابع في هذه الأيّام وكأنّ كثرة ممّن دعم المشتركة وبحماس كانوا دعموها “على شرط”، فتراهم اليوم يكيلون عليها ولها المواعظ وفي صلبها: حمّور أخو سمّور، وبما أنّهما “أطقع” الواحد من الآخر فيا “أشرب من راس العين يا بخلّي حالي عطشان”. جانس لن يسقيك من راس العين حتّى لو فقعت كِليتاك، هذا أولا، أمّا ثانيا وبما إنّك صوتّ لخطاب والخطاب كان اكتفى بالورود على جرن العين وليس راس العين، فاكفِ من انتدبتهم شرّ وعظك!
وأخيرًا… مع التقاط نفس للتفكير.
الوطنية، وتُعرف بالفخر القومي كذلك، هي التعلّق العاطفي والولاء لأمّة محدّدة بصفة خاصة واستثنائية عن البلدان الأخرى. والوطني هو شخص يحبّ بلاده ويصون مصالحها. تتضمّن الوطنية مجموعة مفاهيم ومدارك وثيقة الصلة بالقومية مثل الارتباط، والانتماء، والتضامن، لأنّ واقع الحال يفيد بأنّ المصالح ملك للأمّة التي تُعَرِّفُ الدولة بعلامات وملامح إثنية، وثقافية، وسياسية، وتاريخية مميّزة.
الوطنية مفهوم أخلاقي وأحد أوجُه الإيثار لدفعها المواطنين إلى التضحية براحتهم، وربّما بحياتهم من أجل بلادهم. رفض بعض المفكّرين مقارنتها بالأخلاقيات، واعتبرها حجر الأساس الذي تقوم عليه الأخيرة. وصفها آخرون بال-“مشاعر السياسية”، واعتبر تضحية المرء بفرديته لصالح الدولة أعظم اختبار للوطنية. وقال آخر لم تنفصل الوطنية عن الحرية وتستحيل في مجتمع مستعبد، كما عبَّر عن ارتيابه ممن يُظهرون انتماءهم للإنسانية دون التزام لأقوامهم.
هذا الكلام إحساس وممارسة وطرح، ولا خير في الإحساس دون الطرح والممارسة، وكم بالحريّ في حالنا نحن الأقليّة العربيّة (ليس الجماهير) في بلادنا، وكلّ مفاضلة بين هذا وبين الخدماتيّ هي مفاضلة بائسة في أضعف الإيمان، وعلينا أن نعيد لخطابنا التوازن الحتميّ.
سعيد نفّاع
أوائل آذار 2020