وقفات على المفارق… مع تدمُر وحلب والزبّاء – سعيد نفاع
التزامن الغريب العجيب في تحرير حلب وسقوط تدمر، أثار فيّ شجنا متأصلا حُجز معي أشهر طويلة قبل وفي وبعد ” الجلبوع* “، فرحت أنقّب في ذاكرتي وفي أوراقي ، لأجدني وقد كتبت في حزيران 2011، مقالة تحمل العنوان أعلاه، وممّا جاء فيها، مع بعض تصرّف، أسوقه كمقدّمة لما سأقول:
“توسعت مملكة تدمر تحت حكم زنوبيا حتي شملت باقي مناطق سوريا وامتدت من شواطئ البوسفور حتى النيل، وأطلق عليها اسم الإمبراطورية الشرقيّة أو مملكة تدمر، وأصبحت أهم الممالك وأقواها في الشرق على الإطلاق (اقرأ: أشدّها وأبقاها ممانعة للأطماع الرومانيّة)، مما دعى الإمبراطور الروماني “أورليانوس” (اقرأ: حلف شمال الأطلسيّ)، للتفاوض مع الملكة زنوبيا لتأمين حدود إمبراطوريته، ولوقف زحف جيوش تدمر (اقرأ: زحف المقاومة والممانعة)، مقابل الاعتراف بامتيازاتها الملكية.
أصدرت الملكة زنوبيا العملة الخاصة بتدمر، وصكت النقود في أنطاكية، وطبعت عليها صورة “وهب اللات” وأزالت من النقود صورة الإمبراطور، مميزة النقود السورية التدمرية عن نقود روما (اقرأ: الاستغناء عن قروض البنك الدولي)، ووسعت مملكتها وضمت الكثير من البلاد، لكن الإمبراطور الروماني صمم على التصدي للمملكة التدمريّة القوية التي سيطرت على (اقرأ: حصّنت) العديد من المناطق .
في سنة271م أُرسِل جيش قوي مجهز إلى أطراف المملكة الجنوبيّة بقيادة “بروبوس” (إقرأ: محور الخليج إسرائيل وتركيّا والنصرة وداعش، وضف ما شئت حذوك النعلَ بالنعل !) وجيشاً آخر بقيادة الإمبراطور أورليانوس نفسه (اقرأ: حلف الناتو)، توجه به إلى سوريا وآسية الصغرى، فدارت بينهما معارك شرسة قدمت فيها زنوبيا الكثير، ودفع أورليانوس بالمزيد من القوات في مواجهة جيش زنوبيا، تراجع جيشها إلى تدمر، فتقدم أورليانوس إلى تدمر وحاصر أسوارها المنيعة حصاراً محكما، وقاومت الغزاة بشجاعة معلنة القتال حتي الموت دفاعا عن مملكتها.
عرض أورليانوس عليها التسليم وخروجها سالمة من المدينة التي لن تمس (اقرأ: إخضاع الهلال وإطفاء شّعله)، إلا أنها وبعد معارك ضارية وقعت في الأسر، ولاقاها أورليانوس وهو في ميدان القتال فأحسن معاملتها وكان ذلك سنة 272م ، ثم اصطحبها معه إلى روما ولم يقتلها، بل قتل بعض كبار قادتها ومستشاريها بعد محاكمة أجريت لهم في مدينة حمص .”
وحتّى لا يُساء فهمي، أو أُسيء في إيصال رسالتي “التدمريّة-السوريّة”، خصوصا أمام المعارضين الوطنيين الشرفاء فليس أكثر منّا نحن فلسطينيّو البقاء غيرة على الحقوق الإنسانيّة. فأنا لست من عبدة الأفراد، فهؤلاء العبدة وكما رأينا مؤخرا يتنقلون سريعا من عبادة لأخرى خصوصا إذا كان المعبود يقطر أخضر، بل أنا من محترمي الأفراد إذا استحقوا، وقد احترمت وما زلت أحترم الكثيرين في القيادة السوريّة وفي مقدمتهم الرئيس بشّار الأسد لأنهم يستحقّون، وأحترم الكثيرين من المعارضين السوريين كذلك لأنهم يستحقّون.
ففي قولي هذا، تدمر كانت وما زالت سوريّة، والزبّاء هي كل طفل وطفلة، ويافع ويافعة، وشاب وشابة، ورجل وامرأة كهل وكهلة، ووالد ووالدة، بدءا بالطفل حمزة الخطيب وانتهاء بالرئيس بشّار الأسد، ولا حيدة إلا عن قُطّاع الطرق والفاسدين والمفسدين والضاربين بسيف أورليانوس.
تدْمُر لن تقبل عرض أورليانوس العصر الحديث، والزبّاء لن تقبل الفتنة وستقاتلان حتّى “الحياة”، ولن تسقط هذه المرّة تدْمُر ولن تقع في الأسر الزبّاء، لا في أسر أورليانوس ولا في أسر بروبوس مبعوث أورليانوس على اختلاف اللبوس الذي يلبس.
الوقفة الثانية: ليس الزمان لا زمان أفراح ولا أتراح.
الكلام أعلاه كُتب في حزيران 2011م، ومنذ ذلك التاريخ جرت مياه كثيرة في بردى والعاصي والفرات، وجرت في مياههم كذلك دماء كثيرة، من رقاب مشرئبات وبكارات عذراوات، ولكن كذلك من صدور وقلوب وهامات. الكلام الذي كتبت ونافع اليوم، سياسيّ وبامتياز رغم صياغته الأدبيّة، وعندما كتبته ثلاثة أشهر بعد اندلاع الأزمة، لم أكتبه من باب التنبّؤ ولا الأحلام، وإنما إيمانا موضوعيّا بالشعب السوريّ، وعلى الأقل أكثرية الشعب السوريّ، مولّد الجيش العربيّ السوريّ والقيادة السوريّة.
ولن أقول اليوم وعلى طريقة “الحكمة الارتجاعيّة”: قلنا !. ولكن يتوخى المرء من الناس الوطنيّين والتقدميّين والذين قالوا عكس ما قلنا من باب حرصهم على الحريّة والديموقراطيّة و… و… وقد طار النسر، يتوخى منهم أن: “بلاها هذه عنزة ولو طار !”، لأنه عندها من الصعب فعلا أن نبقى مصدّقين أن ما “بَوْصَلكم” هو القيم التي تطرحون.
ومن الجيّد أن يذكر المرء في مثل هذا الحدث المفصليّ الذي نحن بصدده، تحرير حلب وسقوط تدمر، أن الوقت ليس وقت أفراح وأتراح، فالمأساة التي عاشها الشعب السوريّ، كل الشعب السوريّ، وما زال أكبر من أي فرح. ولكن ما كان يجب ويجب أن يبقى في أذهاننا رغم كلّ المآسي، وهذا هو المفرح حقّا، أن لا أورليانوس ولا “جِزَم” أورليانوس استطاعوا أن يحولّوا فصول المأساة السوريّة إلى مأساة طائفيّة ومذهبيّة، وإن كان هنالك من زال بحاجة إلى دليل، فليراجع وليتابع معلّقي الشؤون العربيّة في القنوات الإسرائيليّة، وفقط لهذا ومن هذا انتصر الشعب السوريّ، وهو باب الفرح الوحيد الذي يمكن أن يحس به المرء في زمن الظلمات المأساويّ هذا.
الوقفة الأخيرة: القول الفصل.
فليدلَّني غيور من أبناء هذه الأمة وعلى هذه الأمة، متى لم ينفذ “الأورليانوسيّون” إلى قلبها إلا من هذه الأبواب، وبعد أن أزاح مزاليجَها لهم أمثال السوائب في أنحاء سوريّة ورعاتهم حولها ؟!
سعيد نفاع
أواسط كانون أول 2016
-
سجن الجلبوع. الكاتب كان في السنة الأخيرة أسيرا أمنيّا في سجن الجلبوع لتواصله مع سوريّة، ومن السجون الأمنيّة ممنوع النشر.