وقفات مع الإعلان عن “الدولة في حرب” – سعيد نفاع
وقفات مع الإعلان عن “الدولة في حرب”
والأبعاد عامّة وعلى حريّة التعبير
الوقفة الأولى… مع الإعلان: “الدولة في حرب”!
حين وقف نتانياهو وبناء على الصلاحيّات المخوّلة للحكومة طبقًا للبند 40 من قانون أساس الحكومة معلنّا: “إسرائيل في حرب” كان يجب أن نسأل وبالذات نحن العرب الفلسطينيّين حملة الجنسيّة الإسرائيليّة: لماذا؟! وهل من أبعاد لذلك علينا فعلًا وقولًا؟!
السؤال مهمّ خصوصًا وأنّ إسرائيل لم تفعلها سابقًا إلّا في حرب أكتوبر 1973م، فلم تفعلها مثلًا في اجتياح لبنان عام 1982م رغم أنّها أسمتها: “حرب لبنان الأولى”، ولم تفعلها في معارك تموز 2006م مع حزب الله رغم أنّها أسمتها: “حرب لبنان الثانية”.
ونحن بمؤسّساتنا المختلفة لم نطرح لناسنا الإجابة عن السؤالين أعلاه ببيانات ملائمة وفوجئنا بالهجوم الأرعن اعتقالًا واتّهامًا على كلّ مَن خطّ حرفًا يُستشفّ منه تعبيرًا عن أيّ نوع من التأييد، ولو تأويلًا، لهجوم 7 تشرين الأوّل 2023 الذي نفّذته حماس على معسكرات فرقة غزّة ومستوطنات محيط قطاع غزّة أو “غلافه” (التسمية الدخيلة على لغتنا العربيّة ترجمة عن العبريّة) وما رافقه من أعمال في المستوطنات أبعد ما تكون عن أخلاقيّات حركات التحرّر الوطنيّ، إن كانت حماس ترى نفسها كذلك.
لم يقف الهجوم على قول أو كتابة كلمة عند حدّ ال-7 من تشرين الأوّل بل تعدّاه إلى أيّ كلام استنكاري أو حتّى احتجاجيّ على الردّ الإسرائيلي ونتائجه بدءًا بالقصف الجويّ وانتهاءً بالاجتياح البريّ حتّى لو اقتصر شكل الكلام على إبداء التعاطف مع الضحايا من المدنيّين والأطفال منهم ليس إلّا.
وفوجئنا أكثر حين وصل الأمر إلى تعويق (עיכוב) وليس اعتقال (מעצר) بعض قادة الأقليّة العربيّة بمجرّد أن نووا الوقوف ولو صامتين ضدّ الحرب. لا أطرح مصطلحيّ التعويق والاعتقال من باب التقليل من خطورة الفعل وأبعاده وإنّما باب التعريف والمعرفة!
وقفة اعتراضيّة.
اعتراضًا: لقد كان من ضحايا 7 تشرين الأوّل في الكثير من الأحيان أناس من أشدّ المؤيّدين للحق الفلسطيني والداعمين له فعلًا لا قولاً كيعكوف بودو، الذي فقد ابنه، والذي كان يتطوّع يعمل على نقل المرضى الفلسطينيّين للمستشفيات الإسرائيليّة، ويتطوّع أسبوعيّا ليحرس في الضفّة القطعان مع رعاتها في وجه من كان يسمّيهم (נערי הזוועות- نعَري هزفعوت- فتيان الفظائع) ترادفًا مع الاسم الذي يُطلقونه على أنسفهم (נערי הגבעות- نعَري هجفعوت- فتيان الهضاب).
الوقفة الثانية… والأبعاد القانونيّة الدوليّة للإعلان.
قوانين الحروب المعروفة كذلك باسم: “القانون الإنساني الدولي” تشمل أربع معاهدات جنيف من العام 1949م، وبروتوكولين اثنين تابعين لها من العام 1977م، وغيرها من المواثيق وأشهرها؛ ميثاق الأمم المتّحدة وعينيّا الفصل السابع منه.
لهذه القوانين تبعات على الحرب القائمة اليوم بين إسرائيل وحماس خصوصًا على ضوء استعمال الكابنيت صلاحيّاته طبقًا للبند 40 من قانون أساس الحكومة بالإعلان عن أنّ “إسرائيل في حرب”. الإعلان هذا يعطي إسرائيل من ناحية أولى، الإمكانيّة باتّخاذ خطوات “غير تقليديّة”، كذلك داخليًّا، ومن أهمّها تحديد حريّة التعبير عن الرأي، ومن الناحية الثانية، يعطيها الإمكانيّة بالتحرّر من سريان موجبات القانون الدولي باعتباره يسري على حرب بين دول وليس بين دولة مع منظّمة إرهابيّة.
وبغضّ النظر إن كان هذا التصنيف يعفيها أو لا يعفيها، إذ أنّ هنالك رأيًا آخر، من سريان هذه القوانين فكلّ هذه القوانين ما هي إلّا أكاديميّات “لا تشبع من جوع ولا تروي من عطش” خصوًصًا إذا كان المعنيّ يملك القوّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الرئيس الأميركي استبق في سياقنا الأمر قائلًا في تصريح له من يوم 10 تشرين الأولّ 2023 وحول المواطنين المدنيّين العزّل، وبتصرّف: “بالنسبة لقوانين الحرب ففي حين أنّ الديموقراطيّات؛ الولايات المتّحدة وإسرائيل تقوم باحترام القوانين ولا يستهدفون المدنيّين العزّل، الإرهابيّون مثل حماس يوجّهون حربهم وبقصد ضد المدنيّين”.
الوقفة الثالثة… والأبعاد الأخرى.
إسرائيل ومنذ ال-48 ومن منطلق رؤيتها نفسها في حالة طوارئ دائمة تبنّت حسب هذه الرؤية مثلًا، قوانين انتدابيّة كان المحتلّ البريطانيّ سنّها وأشهرها سيّئة الصيت: “أنظمة الدفاع لحالات الطوارئ 1945”. فإن كنّا في حالة طوارئ والأوضاع عاديّة نسبيّا نعاني ما نعاني من تقييد الحريّات، فلنا أن نتخيّل كيف يكون الحال في حالة الإعلان عن “أنّ الدولة في حرب”، وبالذات حين تكون هنالك أقليّة كبيرة في الدولة تنتمي عرقيّا ودينيّا بغالبيّها للطرف المتحاربة معه الدولة.
لست هنا في صدد دراسة أكاديميّة فهذه متروكة للمختصّين، ومع هذا لا ضير إن اقتبسنا ما يقوله بعض الأكاديميّين الإسرائيليّين وفي المقدّمة بروفيسور كوبي ميخائيل (منقول عن جلوبس)، والذي يعتقد: “أنّ للإعلان هذا أبعاد جمّة، من نواحي ذهنيّة وتنفيذيّة (عمليّاتيّة). من ناحية ذهنيّة فإعلان الحرب هو تعريف الأمّة كلّها على أن حياة المواطنين في طريقها إلى التغيّر، وأنّ عليهم تحمّل حمل كبير(التوكيد ليس في الأصل). والسلطة التنفيذيّة تأخذ بواسطة هذا الإعلان الصلاحية (المشروعيّة) السياسيّة والأخلاقيّة أن تدير حربًا باسم الشعب وتفعيل القوّات العسكريّة حسب رؤيتها”.
هذا بالإضافة للأبعاد الحياتيّة والاقتصاديّة، وأبعاد أخرى في كلّ ما يتعلّق بالتأثير على التعامل مع الطرف الآخر في الحرب الفاعل منه؛ المحاربون، وغير الفاعل؛ السكّان المدنيّون. لا مجال للغوص في كلّ هذا هنا فلست بصدد ذلك.
وبغضّ النظر فمن نافل القول أنّ “التغيّر والحمل الكبير” المطروحين أعلاه سيحطّان على الأقليّة العربيّة أثقل ألف مرّة ممّا يحطّان على اليهود في الدولة، وفي مجالات وسياقات أخرى، وهذا ما شهدناه ونشهده في “خبط العشواء” الذي تقوم به النيابة العامّة والشرطة من اعتقالات وتقديم لوائح اتّهام “على الشمال وعلى اليمين” ضدّ العرب (76 لائحة حتّى كتابة هذه السطور) على مجرّد التعبير عن الرأي حول الموقف من هذه الحرب ومجرياتها، ولو التعبير عن ألم من اسقاطاتها على الطرف الفلسطيني، مؤوّلين ذلك إلى التماهي و\أو التماثل مع منظّمة إرهابيّة، حسب ما يرشح في وسائل الإعلام.
قيل أم لم يُقل، فحين قرّر من قرّر (الكابينيت الحربي) الإعلان عن أنّ “الدولة في حالة حرب” كانت الأقليّة العربيّة وردود فعلها نُصب أعينهم وفي لبّ القرار لا خلفيّاته. وأستطيع أن أجزم أنّ ذلك كان بعدًا لا يقل أهميّة عمّا جاء به بروفيسور كوبي ميخائيل في معاني الإعلان، وبمعزل عن إن كان هذا في نطاق “التغيّر وحمل الهمّ” الذي طرحه أو لم يكن.
هذه الأبعاد لم تأخذها مؤسّساتنا المجتمعيّة ولا حركاتنا السياسيّة بالحسبان لا على المستوى القياديّ ولا على المستوى الشعبيّ، اللهم إلّا حين وقعنا بها فتحرّك بعضنا ولكن جاء ذلك متأخّرا، ولكن جيّد أنّه جاء.
الوقفة الرابعة… وحريّة التعبير في إسرائيل قبل الحرب.
في وقفات قبل أيّام وعلى خلفيّة حملة الاعتقالات، كتبت: حريّة التعبير الإسرائيليّة عن الرأي للعرب ولا مرّة كانت قائمة بالمعنى المتداول في الديموقراطيّات. كانت حريّة الرأي خاضعة دائمًا ل-“سلّم قيم” من صنع المؤسّسة وتنفيذ أدواتها؛ “سلامة الجمهور” و”بقرة الأمن المقدّسة” والسلّة مليئة بغيرها تُستلّ حسب الحاجة.
في الأولى – سلامة الجمهور – أعطيت للمحاكم الإسرائيليّة القوّة المطلقة أن تفسّر ما هو مسّ في أمن الجمهور وما هو ليس مسّا في أمن الجمهور وبغضّ النظر عن نيّة القائل وما يترتّب على القول ونتائج القول، القاضي هو القول الفصل وهو المفسّر وهو العقل الكلّي، بعد أن تكون سبقته إلى ذلك النيابة العامّة والحيدة عنده عن هذا السبق من النوادر.
لا حاجة عزيزي القارئ في إتعابك بالأمثلة فما يستطيع قوله ابن تل- أبيب ف-“يا ويله من سواد ليله” إذا قاله ابن يافا، ورغم كونهما أبناء بلديّة واحدة.
في الثانية – بقرة الأمن المقدّسة – ف”حدّث ولا حرج”، ولعلّ ال-“تسويد” الذي غزا صفحات التواصل عند الكثيرين والصمت الذي ألمّ بهم خوفًا من أن يفلت لسانهم بكلمة “رايحه جايه” لا يعرف إلى أين تودي بهم، ولعلّ عشرات لوائح الاتّهام، إن لم يكن أكثر، التي قُدّمت ضدّ العرب ممّن أبقوا صفحاتهم بيضاء اللّهم إلّا من بعض كلمات عليها ولو كانت تعبيرًا عن ألم ليس إلّا، هما الدليل الأكبر على أنّ حريّة التعبير عن الرأي في الديموقراطيّة الإسرائيليّة كانت وما زالت وستبقى مجرّد “كلام نهار يمحوه الليل”!
وأضيف هنا: فإذا كان هذا هو الوضع ودون أنّ تعلن مؤسّسات الدولة عن أنّ “الدولة في حرب” فكم بالحري حين تعلن، وكان علينا وما زال أن نتخيّل الوضع بعد الإعلان ونحكم التصرّف والقول!
الوقفة الخامسة والأخيرة … ويظلّ السؤال ما العمل؟!
أعتقد أنّا ذهبنا أكثر من اللازم في الحكم على أنفسنا بالصمت الكلّي وعينيّا على وسائل التواصل الاجتماعيّ التي كانت مسرحًا لنا ل-“كدّ المراجل!”، وعلى الأصحّ أخذ منّا الخوف مأخذًا بعيدًا من تبعات التعبير عن رأينا وأيّا كان موضوع هذا التعبير، فضَبَعَنا كما تضبع الضباع طرائدها ولكن ليس قبل أن تقبل الطريدة أن تكون فريسة.
أعتقد أنّ فيما يُطرح وراء اعتقال هذا أو ذاك من المبالغة الكثير، فقد سمعت البعض على الراديوهات المختلفة وكأنّ الاعتقالات ومن ثمّ تقديم لوائح اتّهام تمّت على خلفيّة مجرّد قول أو كتابة قول على وسائل التواصل، وكأنّ هذا القول أو ذاك مجرّد كليّا من التعبير عن موقف إشكاليّ، وظنّي أنّ هذا الطرح مجتزء ولا يحسبنّ أحد أنّي أبرئ الشرطة ولا النيابة، هذا الاجتزاء جعل من الحذر المطلوب والمبرّر خوفًا غير مبرّر.
التعبير عن الموقف ضدّ الحرب ونتائجها لا يمكن أن يكون مخالفة قانونيّة ولا حتّى اشتباه في مخالفة قانونيّة ولا مدعاة لاعتقال. التعبير عن التضامن مع المدنيّين واستنكار ما يتعرّضون له لا يمكن أن يكون كذلك. التعبير عن موقف سياسيّ ضدّ الحرب وأسبابها في قضيّة الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي وسُبل التخلّص منها لا يمكن أن يكون كذلك، ولكنّ الصمت يمكن أن يكون “مخالفة” ولكن أخلاقيّة. والقائمة تطول.
وأعتقد أنّا بلغنا، نحن العرب الفلسطينيّون في ال-48 ورغم ما نتعرّض له وما يتعرّض له شعبنا من موبقات، من النضج السياسي الإنسانيّ مبلغًا نستطيع معه التعبير عن موقفنا من قضايانا الوطنيّة والحياتيّة ومن الحرب هذه والآتي من الحروب (لشدّة الأسف) من خلال ما اكتسبنا من قناعات إنسانيّة رغم عدم إنسانيّة أوضاعنا ومن خلال تخطّي المطبّات، خصوصًا حين لا ننسى أو نتجاهل أنّ هنالك دائمًا طرفين للحرب وفيهما المدنيّون من الأطفال والعجّز والمرضى وغيرهم من غير المحاربين لا تجوز فيهم الانتقائيّة أو الاستنسابيّة.
سعيد نفّاع – محامٍ ونائب سابق
الأمين العام للاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل48