وليد الغول : حكاية رجل صامد وشجاع
في الذكرى الـ17 لاستشهاده
*بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
تردد اسمه كثيرا على مسامعي، وروت أمامي قصص ومواقف عديدة تحكي حياته وبطولاته، فتكونت في مخيلتي صورة لشخص ضخم الجسم، ورجل هَرِم، إلى أن شاءت الأقدار والتقيت به للمرة الأولى في نيسان/ابريل عام 1988 خلال اعتقالي الإداري الأول في معتقل النقب الصحراوي، فلم أصدق ما رأته عيناي أنه شخص في ريعان شبابه، وتملأ وجهه ابتسامة عريضة، ورجل متواضع لم يتجاوز الثلاثينات من عمره. ولم أكن أتصور بأنه لا يكبرني سوى بعقد من الزمن، فالقصص والحكايات التي سمعناها وقرأناها عنه توحي بأنه سطرها خلال عقود طويلة. فهو مناضل لم يعرف الكلل أو الملل، وقائد لم يتسرب الاحباط أو اليأس لداخله ولو لبرهة واحدة، وأسير مضى بثبات منذ لحظة اعتقاله الأول ورغم حلكة الظروف وقساوة السجان، نحو تسجيل انتصار يتلوه انتصار على جلاديه، فسطر صفحات من الصمود والمجد في أقبية التحقيق، ليشكل نموذجا رائعا يُحتذى به لنا وللأجيال المتعاقبة. وليحفر صور مشرقة وانطباعات لم تُنسى في ذاكرة كل من عرفوه وعايشوه داخل وخارج السجون، وبات اسمه محفورا في ذاكرة التاريخ ولن يُمحى.
حقا كان كذلك، ولأنه كذلك بقىّ حاضرا فينا، راسخا في عقوقنا ووجداننا، وصورته ماثلة أمامنا، انه الشهيد الأسير المحرر/ وليد الغول.
كان رجلاً يوم ندرت الرجال، وهامة شامخة في زمن الانكسار، وبطلاً تتمنى الجلوس معه والاستماع إليه. كان أرشيفاً فلسطينياً متحركاً يختزن في ذاكرته تاريخ طويل من الذكريات والأحداث والتواريخ ذات العلاقة بالأسر والنضال ومقاومة الاحتلال، مما يدفعنا دوما لاستحضار اسمه وسيرته العريقة وخصائله وسماته المتعددة.
ولد الشهيد الأسير “وليد خالد سالم الغول” في مخيم الشاطئ للاجئين بقطاع غزة بعد النكبة بثماني سنوات وبالتحديد بتاريخ 20/1/1956، ونشأ في كنف أسرة أصيلة، محافظة وكادحة، وكان الإبن البكر لوالده الموظف البسيط، فتربى وترعرع بين أزقة المخيم، وتعلم الابتدائية والإعدادية في مدارس وكالة الغوث للاجئين، فيما درس الثانوية في مدرسة فلسطين، ورضع حليب الثورة منذ نعومة أظافره وكبر على حب الوطن وعشقه. وبعد هزيمة حزيران 1967، كان لميلاد المقاومة المسلحة تأثيراً على تكوين شخصيته، فانخرط في صفوف الثورة الفلسطينية المعاصرة من خلال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحصل على عضويتها وهو في الخامسة عشر من عمره، وعلى اثر نشاطه اعتقلته قوات الاحتلال للمرة الأولى عام1972، وبالرغم من صغر سنه ومما تعرض له من تعذيب قاسي، إلا أنه كان نداً قوياً، وجداراً مانعاً، وسطر صفحة مضيئة من الصمود، ليعود ويواصل مسيرته النضالية.
وفي العام 1973 اعتقل للمرة الثانية لمدة ثمانية عشر يوماً، وكرر خلالها سيناريو الصمود، وفي يناير 1975 أعتقل للمرة الثالثة، فصمد كالعادة ولم يعترف، ومع ذلك أصدرت احدى المحاكم العسكرية بحقه حكما بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاماً، وكأن اسمه ارتبط بالصمود في أقبية التحقيق، حينما كان الاعتراف قاعدة والصمود استثناء، وقبل أن يصبح الصمود منظومة وثقافة فيما بين صفوف رفاقه بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وليد الغول، وكنيته “أبو خالد”، كان وحدويا الى أبعد الحدود، وحارب الفئوية والحزبية طوال فترة اعتقاله، واينما تواجد، ولعل حادثة سجن غزة خير دليل على ذلك، اذ نشأ منتصف الثمانيات من القرن الماضي خلاف تنظيمي ما بين قيادة حركة فتح وقيادة الجبهة الشعبية، فاذا بحركة فتح تعلن قطع العلاقة مع أسرى الجبهة الشعبية، فيما تبقي على استمراريتها مع الرفيق “وليد” أحد قادة الجبهة في السجن، في موقف يعكس مدى الاحترام الذي كان يحظى به من قبل الفصائل الأخرى لاسيما حركة فتح.
وفي يناير عام 1988 وبعد قضاء مدة محكوميته، أطلقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سراحه ليعود الى غزة المنتفضة، وما هي إلا شهور قلائل حتى عادت قوات الاحتلال واعتقلته للمرة الرابعة ولكن هذه المرة اداريا ودون محاكمة، ليمضى بضعة شهور في معتقل النقب ويعود بعدها للنضال.
في منتصف العام 1989، وعلى أثر اعتقال العشرات من رفاق الجبهة الشعبية في مدينة غزة، داهمت قوات الاحتلال بيته ولم تنجح باعتقاله، فرفض أن يسلم نفسه وفضَّل المطاردة ومواصلة النضال، وتوجه إلى ساحة الضفة الغربية والقدس وواصل نضاله من هناك، وبعد فترة من المطاردة تمكنت قوات الاحتلال من اعتقاله للمرة الخامسة، وأخضعته لتعذيب بشع وقاسي، إلا أنه لم ينهزم، ليسجل صفحة جديدة من الصمود والانتصار، ويتم تحويله الى الاعتقال الإداري ليمضي شهور أخرى في المعتقل.
وفي عام 1991 اعتقل للمرة السادسة ، وفي كل مرة كان لسان حاله يردد ما كان قد قاله المناضل الأممي “لويس فوتشيك” من قبل “اذا كان هناك ما يمكن التضحية به، فهو الحياة وليس الشرف”. فصان شرف رفاقه وثورته، وكان خير من صان وكتم الأسرار وحمى رجال المقاومة.
في الرابع عشر من كانون أول/ ديسمبر عام 1999، كان الموعد مع الرحيل الأبدي بعد مسيرة حياة امتدت ثلاثة وأربعين عاماً كانت مليئة بالمتاعب والأشواك، مفعمة بالعطاء والنضال، حافلة بالمواقف والبطولات. مسيرة طويلة تحتاج لمجلدات ومجلدات لتوثيقها، فهل من يُوثق ؟.
لتفقد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحد أبرز قادتها وأعمدتها الرئيسية في قطاع غزة وعضو لجنتها المركزية العامة، ليرحل جسداً، ويبقى خالداً بين رفاقه ومحبيه، وحاجزاً مكانة واسعة في قلوب كل من عرفه، ومفخرة للحركة الأسيرة ولشعبه الفلسطيني وثورته المعاصرة ..
فنم قرير العين أيها المناضل الصامد، والقائد الأصيل. فلك المجد ومنا العهد والوفاء
*بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى
—