و..ستشرق يا محمد – رشاد أبوشاور
و..ستشرق يا محمد
(ما يشبه الحكاية..حفنة من ذكريات تلك الأيام)
رشاد أبوشاور
هذا الشتاء ثقيل، قاس، مُمّل..وكارثي أيضا!
انتظرنا آذار بلهفة، فهو عادة خفيف الشتاء، فيه شمس..وضباب..والأرض تخضّر وتزهو، وتبهج النفوس..والفضاء يتضوع بعطر الأزهار…
آذار شهر الربيع..يأتي بخضرة وأزهار لوز ومشمش وعصافير فرحة تنطنط بين الأغصان التي تعد..وتكتسي الأرض بخضرة تنتقل إلى النفس.
لكن الربيع ترافق هذا العام بالكورونا..وهذا ليس ذنبه، بل لعله ممتعض من فيروس نغّص عليه بهجة الحفاوة واللقاء بالناس في بقاع كثيرة من العالم.
طيلة الليل والمطر ينهمر..ما هذا الربيع الصاخب؟!
أستيقظ عادة في الصباح الباكر..وها أنا أفعل مرسلا نظري عبر زجاج نافذة المطبخ المضببة.
عائلتي تنام..وتتأخر في الاستيقاظ..فهم يسهرون ليلاً على اليوتيوب مع مسلسلات قديمة أحبوها.
سماء رمادية في هذا الصباح، ومطر خفيف..ولا ريح..هل سيأتي الربيع رغم استمرار الشتاء بسرقة آذار.( آذار الهدّار مرّة غطيطة مرّة أمطار).
أتأمل حقل الزيتون. أشجار الزيتون تنتصب بوقار وهدوء، فأغصانها ساكنة تماما.( توقف صخب الرياح المزمجرة ليلاً).
أعد الشاي الأخضر. أتساءل: هل ستشرق الشمس هذا اليوم، وتملأ سماء عمان..فتنقشع الكآبة عن النفوس؟!
ببطء تتبدد الغيوم الرمادية، وترش الشمس أشعتها طاردة الضباب والغيوم الداكنة..وتتبدّى السماء زرقاء بغيوم بيضاء رشيقة.
شئ من البهجة يسري في روحي فأنتعش..وأتفاءل.
أتذكر صديقي محمد حافظ يعقوب المقيم منذ سنوات في باريس.
كان يحلم بكتابة أعمال روائية…
كنا نلتقي في مخيم اليرموك، غالبا في بيت علي إسحق – رحمه الله ..توفي في رام الله قبل أشهر قليلة ضحية المرض الخبيث- و..نحلم بأصوات يلونها التفاؤل بما سنكتبه في السنوات القادمة من أعمارنا.
كنا في أعمار متقاربة، حوالي العشرين..و..وأكثر بعد سنوات، فقد كبرنا مع أحلامنا وتخطيطنا لمستقبلنا مجتمعين..ومنفردين.
كنا مرة في جوبر نتمشى – جوبر الضيعة الأولى في الغوطة الشرقية، حيث كنت أقيم في غرفة في محطة ( البرلمان) –أنا ومحمد وعلي، فأغمض محمد عينيه نصف إغماضة وأخذ يرسم بأصابعه غلاف روايته الأولى التي حدد لها عنوانا: وستشرق…
قال بكلمات ترافق حركة أصابعه: في الزاوية العليا اليسرى تسقط أشعة شمس تشرق..نعم: وستشرق.
بعد سنوات، وكنا قد كبرنا سنوات، اختار محمد الترجمة، ثم اتجه للفلسفة..و..هاجر إلى فرنسا، وانهمك في الدراسة الأكاديمية والأبحاث.
أتذكرك يا محمد.وأتذكر أحلامنا، وأتساءل يوميا مع تصاعد أعداد ضحايا الكورونا: هل ستنتصر البشرية على فيروس الكورونا..وعلى كل الفيروسات..والأوبئة؟!
الخوف يجتاح العالم يا محمد. البشرية ترتجف من عدو مجهول يضرب في كل الجهات.
هل ستموت البشرية يا محمد؟ ألن تشرق…
نعم يا صديقي محمد: و.ستشرق..رواية تكتبها البشرية معا..يا صديقي، أما أنت، وكما عهدتك، فتواصل التأمل في مسيرة البشرية و..مصيرها، وتهز رأسك بوقار..ويصلني صوتك المطمئن الواثق: ستشرق يا رشاد..فلا تيأس..البشرية لن تموت.
تنويه أوّل: كنا نتردد على بيت محمد فتستقبلنا والدته الطيبة بابتسامتها المرحبة الحانية، ثم تكرم علينا بإبريق شاي كبير، وبصحن زيت..وصحن زيتون – ما أطيب زيتونها الذي كان تعده بيديها الكريمتين- وما ألذ شايها. كان أخوة محمد يسترقون النظر لرؤيتنا..وسماع كلام لا يفقهونه، فنحن نحكي أحلامنا..ونردد أسماء كبيرة مجهولة بالنسبة لطفولتهم. أحدهم كان ( سعيد) الذي كبر ودرس الفلسفة..ومن جامعة دمشق تخرّج طبيبا متألقا اختص بالأمراض النفسية والعصبية..و..رحل مبكرا وترك ألما في قلوب كل من عرفوه، وأنا منهم.ترك دراسات حول الأمراض النفسية والعصبية، وله كتاب هام بعنوان ( جدلية النفس والشعر عند العرب)..أما الآخرون فانتشروا بعيدا في جهات الدنيا. أتذكر والد محمد المديد القامة والنحيل والمائل إلى الصمت غالبا. كان يبتسم لنا ويهمس بكلمات قليلة..ويمضي منهمكا في بذل الجهد لتدبير حاجات العائلة…
وأنا وحيد حيث أقيم أستعيد الذكريات..أفتقد الأصدقاء..الأيام التي عشناها في دمشق، وأهمس بحزن يثقل على روحي ويقبض نفسي: بعضهم استشهد..بعضهم مات موتا عاديا مباغتا في أوج الشباب: الشاعر الكبير فواز عيد..بعضهم رااح بعيدا كصديقي محمد حافظ يعقوب.
أتمنى لو يلتقي من تبقى من الأصدقاء في مكان ما..في بلد ما يمنحهم الطمأنينة لوهلة..ولكن!..يا لجيلنا الغاضب الحزين المقهور المشرّد..المسروق الأحلام..والعنيد رغم كل شئ..والمبدع دما وكلمات وألوانا فيها ربيع سرق مرارا من أعمارهم..ممن همهم الحيلولة دون شروق الشمس..التي ستشرق، رغم ذلك، يا محمد.
الجمعة 27 آذار2020