ياسر عرفات وبداية التحول – معين الطاهر
ياسر عرفات، الزعيم الخالد، فجّر ورفاقه الثورة الفلسطينية المعاصرة، ورفع اسم فلسطين عالياً في ساحات القتال، كما في أروقة السياسة. وكتب مع شعبه ملحمة بطولية خالدة، في ظروف غير مواتية، تخللتها حملات الحصار والعزل والتطويق والتصفية. أعاد فلسطين فيها إلى واجهة العالم، وجعل من اللاجئ والكوفية والبندقية روحاً واحدة لا تتجزأ. قاتل وتقدم وانتصر، وفاوض وتراجع، أخطأ وأصاب، مثل كل بني البشر. حياته امتلأت بالانتصارات، كما امتلأت بخيبات الأمل من ذوي القربى، ومن رفاق له، تركوه محاصراً في أيامه الأخيرة، لكنه بقي صامداً وفياً لمبادئه، حتى مضى شهيداً شهيداً شهيداً كما أراد.
شهدت مسيرة أبو عمار انعطافات كبرى، بعضها صنعها هو، وأخرى استجاب لها، أو فرضت عليه. كان هاجسه دوماً أن يكون في دائرة الفعل، وليس في مقاعد المتفرجين، مؤمناً بأن في وسعه، بالاستناد إلى عدالة قضية شعبه ووطنه، أن يغير من موازينها، أو أن يحد من تداعياتها، بانتظار ظروفٍ أفضل، لينقلب عليها ويتابع مسيرته.
أول تحول حاد له كان في نهاية 1973، بعد حرب تشرين المجيدة. أذكر أننا، في نهاية ديسمبر/كانون الأول، نظمنا دورة تدريبية وتثقيفية لطالبات وطلاب الجامعات اللبنانية في معسكر مصياف في سورية. أشرف عليها الدكتور حنا ميخائيل (أبو عمر)، وحضر عدد كبير من المفكرين والكوادر لإلقاء محاضراتهم فيها. في ذلك الوقت، كانت سحب مؤتمر جنيف للسلام تخيم على المنطقة، وتثير نقاشاً عاصفاً في داخل المعسكر وخارجه، مترافقة مع الغيوم الكثيفة والأمطار والعواصف التي تعرفها مصياف، في ذلك الوقت من السنة.
في إحدى الليالي العاصفة، وصل أبو عمار إلى المعسكر، كان غاضباً، إذ يبدو أن أخبار النقاش داخل المعسكر قد وصلت إليه. اجتمعنا أكثر من 200 طالبة وطالب في خيمه كبيرة، للقاء القائد الذي جاهد ليعلو صوته فوق صوت الرعد والأمطار الغزيرة التي تضرب سطح الخيمة، وتنساب إلى داخلها. قال أبو عمار: ثمة تسوية آتية بعد حرب تشرين، ويجب أن نكون جزءاً منها، وأن نقبل بدولة فلسطينية، حتى لو كانت في مدينة أريحا فقط، وذكّرنا بما حدث سنة 1948، عندما ألحقت غزة بمصر، وتم ضم الضفة الغربية إلى الأردن، ما حال دون قيام كيان فلسطيني، يشكل قاعدة للتحرير.
خالف أغلبية الطلاب رأي أبو عمار، واعتبروه انحرافاً عن أهداف الثورة، في تحرير كامل التراب الفلسطيني، وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي تتعايش فيها كل الأديان، وأن هذا لا يمكن تحقيقه إلا عبر الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد. وأضافوا أن “فتح” قد انطلقت قبل احتلال الضفة وغزة، وأن واجب استعادة هذه الأراضي على عاتق من أضاعوها، إذا كان هنالك من مجال لاستعادتها عبر تسويةٍ ما، وبعد عودتها إلى أيد عربية، يقرر شعبنا مصيرها، ويقيم عليها سلطته الثورية، من دون أن تتورط المنظمة بالتفاوض والاعتراف، وتبقى منظمة التحرير مكرسة لتحقيق أهدافها الأصلية.
احتد النقاش كثيراً، حتى إن بعضنا تجاوز حدود اللياقة، اختتم أبو عمار النقاش، قائلاً: “يعني انتو عايزينا نسيب الضفة للملك حسين”، وأطلق علينا اسم “الهاشميين الجدد”، متوعداً أبو عمر، رحمه الله، والمحاضرين الآخرين بالمحاسبة، لإفسادهم عقول الطلاب. انتهت الدورة، وعدنا إلى بيروت. لم يحاسب أبو عمار أحداً، واستمر يستمع نهاراً إلى انتقادات الطلبة للبرنامج المرحلي من ميكروفانات جامعة بيروت العربية قرب مكتبه، وينام ليلاً في حراسة بنادقهم. لكن، منذ ذلك اليوم، بدأ البرنامج السياسي لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في التغير، وفي التراجع التدريجي عن المنطلقات والثوابت، تارة عن رغبة بالمشاركة في مشاريع تسوية مطروحة، أو ستطرح، وتارة أخرى للخلاص من مأزق، أو للخروج من دائرة الجمود.
كان الهاجس الأساسي كيف يمكن ضمان مقعد في قطار التسوية، وكان أعداؤنا من الذكاء بأن اقترحوا مقعدين فقط يتنافس عليها ثلاث، الأردن وسورية ومنظمة التحرير، بما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية. شهدت تلك المرحلة تغيراً دورياً في التحالفات بين هذه الأطراف الثلاثة، وأصبح لبنان الورقة المتنازع عليها، والتي تعطي صاحب النفوذ حظاً أكبر في ركوب القطار المزعوم.
يسجل لأبو عمار، أنه على الرغم من كل هذه المسيرة المتعرجة، لم يتخلّ عن بندقيته، بل وخاض أشد معاركة العسكرية ضد العدو الصهيوني، وهو يسعى للحاق بقطار التسوية، وتحسين شروطه فيها. ويسجل له، أيضاً، أنه اكتشف عقم “أوسلو” مبكراً، ووصول الاتفاق إلى طريق مسدود، عقب مباحثات كامب ديفيد 2000. أدرك أن بين ما يسعى إليه والمعروض عليه هوة كبرى، لا يستطيع أن يقفز عنها، فسعى إلى الالتفاف حولها بتشجيع الانتفاضة الثانية، بل ودعم ومول عسكرتها، في محاولة منه للحصول على نتائج سريعة، وإجبار خصمه على الرضوخ للحد الأدنى من مطالبه.
نهاية 1973، التاريخ الفعلي لبداية تغيير المسار، وإن استمر التمسك بالبندقية بموازاة هذا التغيير، وهو ما ترك آثاره قطعاً على استراتيجية الثورة وتكتيكها وتحالفاتها وتطورها ونموها وتراجعها، فثمة فرق كبير بين مشروعين مختلفين، وإن استمر التقاطع بينهما إلى مرحلة أوسلو. بعد “أوسلو”، حاول أبو عمار العودة، مرة أخرى، إلى بندقيته، ليس بهدف الانقلاب على عملية السلام برمتها، فالمسار الذي قطعه فيها كان طويلاً، بل بهدف تعديل شروطها، لتلائم الحد الأدنى على الأقل من تطلعاته الوطنية.
قابلته، المرة الأخيرة في سنة 2000، نقلت له ما سمعته عن بعض رموز الفساد، قال لي يومها “مرحلة وستمر، لن يحاسبني التاريخ على هؤلاء، سيحاسبني إذا ما أضعت القدس، أو استرجعتها”، ومضى أبو عمار شهيداً للقدس التي تجدد انتفاضتها هذه الأيام.