يتوهَّج كنعان – قصيدة للشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة
بطيءٌ بريدكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ
فَجهِّز جوادكَ للرعيِ في مرْجِ ذاكرةِ الغيمِ قبلَ الحنينْ
– أحاولُ أن أمسكَ البحرَ من خصرهِ القرمزيِّ،
أراهُ كذلكَ،
لكنَّه يشتهي أن يكونَ ربيعاً،
لكي يُعجبَ الآخرينْ.
بطيءٌ بريدكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ.
وكانت تحومُ النوارسُ،
تملؤني غبطةً… والنجومْ
مُسافرةٌ قربَ شمسِ الأصيلْ.
أحاولُ يا فَرَساً حجريّاً على التلّةِ القرمزيّةِ،
كالبحرِ، (مريمُ إفريقيا) ﻓﻲ الفضاءِ،
تَمُدُّ ذراعاً لوهرانَ، حتى حنين الطُلولْ.
أراكِ كمريمِ إفريقيا… ﻟﻢ تطابقْ بهاءَ الأصول.
كذلك قيل: انظروا الماءَ،
قيلَ كذلك: نِدٌّ لروما بقيتِ، أما زلتِ يا مُهْرةً
تركضين، يُتابعُ جَرْيَكِ هذا الذُهولْ.
أحاولُ،
كان المدى شجراً،
وشُجيراتُ عوسجِ هذا المدى،
عِشْرقُ البحر، لونُ السلامْ
فَجهِّزْ جوادكَ للرعي ﻓﻲ مرجِ ذاكرةِ الغيمِ،
حيث يقيمون أندلساً ﻓﻲ الكلام.
النوارسُ تزعقُ مثلَ رضيعٍ،
سَيُعلنُ رغبته في حليبِ الصباح.
تُقاسِمُنا زادَ رحلتنا بالصراخِ،
الدخانُ يقيمُ جبالاً من الحلمِ، يرحلُ غرباً
فيطردهُ البحرُ،
عطرُ الطوابين بين شقوقِ المدارْ.
أحاولُ أن أرسمَ البحرِ، لكنَّهُ
كنساءِ الينابيع، يبدو صديقاً،
ويهربُ من بين كفَّيَ مثلَ حقولِ القطارْ.
وأركضُ: اُنظرْ حِجاجاً من الصخرِ،
يأوي الحمامُ إليهِ من البحرِ قبل هُبوط الرَهامْ.
أرى التينةَ المقدسيَّةَ:
بلَّورُ سيقانها يصلُ المتوسّطَ،
أما الشُروش، فأعصابُ جدّي
ويهربُ منّي الكلامْ
إذا ما اصطدمتُ بتينةِ قلبي
عليها السلامْ.
هنالكَ أيضاً ستبقى الحجارةُ شاهدةً
أنّها أصبحتْ مطعماً للبلاغةِ:
مقهىً على الأبيضِ المتوسّطِ، دونَ نساءٍ،
ودونَ سماءٍ، ودون ارتجافٍ،
ودونَ نراجيلَ أو زَنْجَبيل يُثير بقايا الحنينْ
بطيءٌ بريدكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ.
– سنخترعُ البحر، ثمَّ نَرُشُّ البهارَ عليهِ،
ونجلبُ من جبلِ الشامِ أقمارَ غوطتها،
ومن القدسِ صخرتها،
من ضلوعكِ بيروت، رّوْشتكِ القرمزيَّةِ،
نشوي على الفحمِ،
فوقَ التلالِ المحيطةِ،
قَلْبَكَ يا بحرُ
أحجاركَ المرمريَّة، ننشُرها فوقَ حَبْلِ النهارْ.
– وداعاً نقولُ لعكَّا ويضطربُ القلبُ
في قلعةِ البحر،
دونَ نقوشٍ ولا دولةٍ، والنوارسُ فوقَ الفَناءْ
الفناءُ الذي صار مأوى قراصنةِ البَرِّ،
في غُرَفٍ، شلَّ هذا الهواءُ،
تباريحها وأساها، ولم يبقَ غيرُ السجونْ
بطيءٌ
بطيءٌ بريدُكَ يا وطني… والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ.
بطيٌ بريدكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ.
جَهِّزْ جوادَكَ للرَعيِ في مرجِ ذاكرةِ الغيمِ قبل الحنينْ.
– أحاولُ: راهنتُ أربعةً: كان وجه أبي
في مقالعِ مرمرِ قَرْيتنا، تَعِباً،
حين غنّى مواويلَ ذاكَ المغنّي العراقيِّ،
قيل اسمُهُ… (بوعزيزْ)
وقالَ لنا أحدُ الأصدقاءْ:
إذا لم يكُنْ بادئاً، اسمهُ… هكذا
رسمَ الحاءَ فوقَ الترابْ
سأجْدَعُ أنفي وأرمي به للذُبابْ،
فأقسمَ آخَرُ أنْ لا وجودَ لهذا المغني،
وحين استشرنا مناديل عرَّافةِ البحر،
جادَلْتُها، وربحتُ الرهانَ الجميلْ
وحتى أغيظَ الأحبّة، صحتُ بأعلى حنيني
حنانيكِ يا حارةً في الخليلْ.
جَهِّزْ جوادَكَ للرَعيِ في مرجِ ذاكرةِ الغيمِ قبل الحنينْ.
– (يَقينٌ) على تلّةٍ، سرقوا قَلْبَهُ، فاستفاقَ الجُنونْ.
جبلٌ قربَ قريتنا ويطلُّ على البحر،
والبحرُ مَيْتٌ يفاصلُ زلزالهُ الأبديَّ،
وأحجارُه مَرْمَرٌ واسألوا برلمانَ المَطَرْ.
اسألوا الشاحناتِ التي حَمَلَتْهُ، اسألوا
عنه تلكَ القصورَ التي سَرَقَتْ من مقالعِهِ،
واسألوا عنه أحفادَ جالوتَ،
يرتفعونَ به في هواءِ الشوارعِ،
هذا زمانُ رُماةِ الحَجَرْ
كما الطير يسقطُ فوقَ رؤوسِ الجنودْ
اُرشقوهمْ،… يخافون،
هذا صباحُ الصهيل، وهذا مساءُ السَهَرْ.
– أحاولُ أن أوقظَ البحرَ من موته السرمديِّ،
أقولُ له في المساءِ:
دمُ البحرِ أزهرَ وردَ الشقائقِ من نجمةِ الحقلِ،
كنعانُ يخرجُ فجراً، وبه نستعينْ
أيُّها المؤمنونْ.
– أحاولُ: دارٌ وحاكورةٌ وسماءْ
وسمعتُ الجنودَ يقولون:
أين الذي قُدَّ من جَبَلٍ
واستعذتُ بزيتونةٍ وركضتُ، ركضتُ… وكانتْ
ورائي
خنازيرُ قاتلةٌ، والذئابْ
ثمَّ، ها أنتَ تولدُ مثلَ النَبَأْ.
وكنعانُ نخلٌ وحورٌ وسَنْطٌ… إذنْ
سوف نلمحُ بحراً يهاجمُ رملاً،
ونلمحُ موجاً يذيبُ ملوحةَ هذا الخَطَأ.
أحاولُ أنْ أتتبعَ مَوَّالَ أجدادنا الطيبينْ.
بطيٌ بريدكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ.
وكم حاولَ البحرُ تسجيلَ جرأته فوقَ رملِ الكَلأ.
أحاولُ أن أمسحَ الحزنَ عن وجنةٍ،
قد علاها الصَدَأْ.
أحاولُ أنْ أتتبع مَوَّالَ أجدادنا الطيبينْ.
بطيٌ بريدَكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ.
– تَوقَّفَ حزنُ المواويلِ والرقصِ
ظلَّ يغنّي على ساحةِ الليلِ
منذُ ثلاثين، كان فتىً ويُغنّي على مَهَلٍ في الشعابْ.
وعاد إلينا سلسلُ الجراحِ، كسيرَ الجناحِ،
يغازلُ وردَ الصباحِ، ويغرفُ من ماءِ هذي البطاحِ،
ويغرسُ أشعاره في السهولِ البَراحِ، ويُشعلُ رمّانةً
في المتاحِ من الوقت، قال المغنّي: تكسَّر وهْجُ سلاحي
قفزتُ عن الحائطِ المستقيمِ،
فَفَرَّ الجنودُ وصاحوا
ولكنَّهم قد أرادوا سماعَ صياحي.
أفقتُ من النوم، حيث وجدتُ المسافةَ صارتْ
دماً وفراقاً، أفِقْ وأفقتُ، وجهَّزتُ روحي
لهوجِ الرمالِ وعَسْفِ الرياحِ.
وأغرقتُ أشجارَ زينتنا بالرذاذِ الذي في حواشي المتونْ.
بطيٌ بريدكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ.
– أحاولُ – هل أستطيعُ مُساكنةَ الحُلْمِ في الدارِ،
ثمّ رأيتُ القرنفلَ في عوسجِ الدارِ،
منذ ثلاثين عاماً يحاصرني الحلْمُ: دارٌ وحاكورةٌ،
وضجيجٌ، عَتابا، تُعاتبني الدارُ،
والميجنا، سأصيح: أيا من جنَى
وطويلٌ ظريفٌ، تَمُرُّ بقامتها السرمديةِ،
حيثُ ضفائرها كانسكابِ الشعاعِ على الماءِ،
عاصفةٌ في الصباحِ، صباحِ كرومِ اليقينْ.
بطيءٌ بَريدُك يا وطني والرسائلُ لا تصل العاشقينْ.
– جَهِّزْ جوادكَ للرعي في مرجِ ذاكرةِ الغيمِ قبلَ الحنينْ.
– سلامٌ، سليمٌ، سلامٌ، سليمٌ، سلامُ الأبدْ:
أرقُّ من القمحِ قبلَ اندلاعِ رياحِ السَمومْ
أرقُّ من المجلسِ البلديِّ،
إذا كان مُنْتَخَباً من عمومِ البَلدْ.
أرقُّ من الوردِ والحورِ بعدَ سكونِ النسيمْ
أرقُّ من النسوةِ الحاملاتِ جرارَ الغيومْ
أرقُّ من النومِ تحتَ امتداداتكَ الهمجيَّة،
يا بحر منذ قديمِ الزمانْ
أرقُّ من النبعِ في الصيفِ عندَ الهجيرْ
أرقُّ من الكرزِ البربريِّ،
سوالفِ مريم في تِلْمِسانْ.
لكِ الموجُ والصَدَفُ الساحليُّ
على صخرةِ الكهرمانْ.
أقولُ لها: شَعْلقيني قليلاً،
سأمسكُ بالموج: مرجانُهُ سوفَ يخضرُّ
مثلَ بناتِ المدارسِ في المهرجانْ.
وكنتُ أطاردُ غزلانَ سفحٍ
يطلُّ على البحرِ في غَسَق البحر… بعدَ الحقولْ
وبحركَ يا ملح،
ملحكَ يا بحر، نبضٌ يقولْ:
زرعتُ عظامي وقلبي بقاعِ صنوبرةٍ في الخليلْ:
سلاماً إلى الراءِ كانت مَطَرْ
سلاماً إلى الفعلِ قبلَ السُكونْ.
سلاماً إلى طفلةٍ وردةٍ من عنبْ
وطفلٍ من الشبقِ المدرسيّ من النارِ
في غابةٍ تتشعَّبُ كالنصِّ،
إنْ كان أندلسيَّ الرنينْ
وكان على الطفلِ أن يَتَمطَّى على حيطِ حاكورةٍ
في الصباحِ المبكّرِ
قبلَ الندى في جبالِ الحنينْ.
كنرجسةِ الماءِ ثوبُ العروسِ،
سلاماً إلى موعدِ الباصِ، أنشودةِ الأوّلينْ
سلاماً إلى مَقْعدٍ من خَشَبْ.
سياجُ القُرنفل باضَ عليه الحمامْ
وكنعانُ في جبلٍ سيّدٍ، سيطلُّ قريباً على العالمينَ،
ويكثر عَنْهُ الكلامْ.
– أحاولُ في ليلةِ البرتقالِ،
تضاهي الفراشاتِ،
كانت جدائلها تتشعلقُ في جذعِ زعرورةٍ،
ثمّ… إنّي سمعتُ صراخاً،
خليطاً من القهقهاتِ،
وَرَفّةَ تَنُّورةٍ مزَّعَتْها الرياحُ،
وتَرْغَلَتِ النجمةُ الجبليةُ قالت:
أمامكَ نهرٌ، وخلفكَ بحرٌ ومجزرةٌ،
وعَدَوْتُ وراءَ نجومِ الجبالِ وأوقعتُها
في تجاويفِ جُرْفٍ وعاد الصهيلْ
يؤجّجُ رغبتَهُ، يَتمدّدُ، ثمَّ تساقطَ غيمٌ علينا
احتضنتُ الرذاذَ وغطيتهُ ببكاءٍ جريحٍ نبيلْ.
– أحاولُ في ليلةِ البرتقالِ،
اعتصرتُ، شربتُ، ارتويتُ،
كما احمرَّ خدَّانِ في الجرفِ،
نمنا على القشِ،
أيقَظَنا مطرُ الصيفِ،
جَرْجرتُ روحي،
وفرَّتْ يمامةُ ليلِ الكرومِ،
ادَّعت أنَها جَرَّحتْ خدّها ليلةَ البرتقالِ،
وأنَّ السحالي على تلّةٍ، فَدَغَتْ نهدَها
الجبليَّ، بقيتُ أُراشقها بالوعودِ، تراشقني
فأراشقُها، وهي ترشقني دفقةً موجزةْ
إلهي، وبعد ثلاثين، قُمتُ صرختُ، رأيتُ المنامَ،
وشِفْتُكِ في التلفزةْ.
وكانت سماءٌ تراقبنا في السماءِ
وبعضُ الطيورِ ومشمشةٌ تكتبُ الحادثةْ.
إلهي، أعدْ ليلةَ البرتقالِ،
سَتَحْتَشِدُ الكائناتُ على الدربِ
في مفرقِ الغائبينْ.
بطيءٌ بريدُك يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ.
فَجَهِّزْ جوادك للرعي في مرجِ ذاكرةِ الغيمِ قبلَ السكونْ.
– أُوزّعُ أسئلتي في الصفوفِ،
ويَقرصني النحلُ،
كُلُّ خليّة نحلٍ تُقَوِّمُ لجْنَتها
لا غبارَ على الطرقاتِ،
وزيتونةُ الوعدِ في مدخلِ الأسئلةْ.
وأرسي تقاليد للوردِ،
أحصي مَساماتِ كنعانَ، ثمَّ أوزّعُ جِسمي
وأشرحُ صدري، وأقتاتُ من تعبِ الليلِ،
أفرُكُ عَينَيَّ بالبَصَلِ النرجسيِّ،
وأفْصِدُ هذا الدمَ الفاسدَ اللولبيَّ،
وأبني لقطعان هذي الغيوم بيوتاً
زجاجيّةً… ثمَّ أنثُرُ ملحاً على الهيش في الغَوْرِ،
زوّادتي من جراحٍ مُعَلَّبةٍ،
ثمَّ يثأرُ جالوتُ،
لا صَخْرَ دون رُماةٍ، ولا ضوءَ دونَ قناديلها المُشْعَلَهْ.
الحداثةُ، هذي العظامُ التي كسَّروها فصارت
قساوتُها مضرْبَ الأمثلهْ.
لا تَقُل كلما أثخنْتهُ الجراح انتهى
إنَّ جالوتَ مِدْماكُ هذي الحداثة،
في الحَيْطِ والسلسلة.
وأذكرُ ديراً عتيقاً: حجارتُهُ من صلاةٍ،
سَنَجْبلُ طينَ العتاقةِ بالماءِ،
ثمّ نبيذَ السقائفِ،
يُصبح رُمْحاً ونغرزهُ في عيونٍ تنامُ
على نجمةٍ قاتلة.
ولابُدَّ أيضاً من النار،
كان (العماليقُ) يبنون بالطينِ،
بالقَصَلِ الجبليِّ، قلاعاً من الصمتِ، يحمونها
بالعُيونْ
وبالحَذَرِ الذهبيِّ
وشوقِ الصدورِ الدفينْ.
بطيءٌ بريدكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ.
– توهَّجُ كنعانُ بين القرى:
غوطةٌ في الخليل: الفراشُ على الوردِ،
والوردُ فيها فصائلُ مثل الجيوشْ
أحاولُ أن أتثلَّجَ حين أرى نهرها وينابيعها
بارداتٍ، كغُربتنا البدويّةِ حين تثورُ،
ولكنّها لا تثورْ.
غوطةٌ في الخليل: يمامٌ على غصنِ ليمونةٍ،
وحمامٌ وجوزٌ ولوزٌ وحورٌ وصفصافةٌ فارعةْ.
تكونُ الينابيعُ والعشبُ، ثمَّ
تكونُ الحضاراتُ – بيرُ السباعِ، ورقْصُ
الفراشاتِ فوقَ المُلاءاتِ في الحقلِ،
هذي قوافِلُهُمْ تجمعُ القشَّ تحت القدورْ.
ولا تسألِ الشَبَرات اللواتي
نُعلقُهنَّ غداً بجدائلِ تلميذةٍ،
كصفوفٍ تجيءُ العصافير،
أو مثل تشكيلة الحَرَس الوطنيِّ،
على ساحةٍ سقطتْ فجأةً قرب نبعٍ،
وكانت قوافلُنا في القديم، تَمُرُّ مُحمَّلةً بالبهارِ،
من الهندِ، والأرجوانِ الطبيعيِّ،
عبر سواحلِ كنعانَ،
ثم النبيذِ العتيقِ الذي من (كريتْ):
كذلكَ شاهدتُ أديرةً في السماءِ،
تذكّرتُ أنَّ الشرايينَ فَزَّتْ،
وقال المذيعُ: تكونُ الجزيرةُ في الشرقِ،
ثمَّ هُرعنا نزاحمُ أطفالنا في النوافِذ:
فِعلاً هي كريتُ أو عسقلانْ.
أرى الإيلَ يقعي على رأسِ تلٍّ،
يُراقبُ دمعي على المجزرةْ
رأيتُ اختلاطَ الخطوطِ،
اشتباكَ السماءِ مع الأرض،
ثمَّ تمنّيتُ لو تهبطُ الطائرة.
غوطةٌ في بلادِ الجَريدْ:
السماءُ على الأرضِ حمراءُ،
بيضاءُ مثلُ النوارسِ،
مثلُ قبائلِ كنعانَ،
قلعتُها كقلاعِ شكسبيرَ… مرعبةٌ،
والحصارُ القديمُ يُشابهُ أرجاءها،
جئت أنسى الحصار، فجاءَ الحصارُ الجديدْ.
شعوبٌ تُخَلَّدُ قاتلها في الصباحِ،
وإلاّ لماذا – أبو يوسفَ يعقوب حاصرها،
فأقامتْ له نُصُباً فارعاً، يصلُ الأخضرَ
العنبيَّ مع الأزرقِ النبويِّ على تلَّةٍ عاليةْ.
تَوهَّجَ كنعانُ بين القرى، والرماةُ على السطحِ
قد جفّفوا الطينَ والماءَ والقشَّ،
لكنَّهمْ لم يمسُّوا ندى الداليّةْ.
ولم يذبحوا أُغنيَةْ
ولا وتراً من نبيذِ المُجونْ.
بطيءٌ بريدكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقين.
فَجَهِّزْ جوادك للرعي في مرجِ ذاكرةِ الغيمِ قبلَ الحنينْ.
– تراني بعيداً، أنا حاضرٌ غائبٌ،
غائبٌ حاضرٌ،
ثمَّ أقربُ من سرعةِ البرق، حين يحومُ الخطرْ.
وأقربُ من صيْحةٍ للسهولِ،
وأقربُ من رفَّةٍ للشجر.
وأقربُ من خفقةِ النرجسة
وأقرب من شجرِ التوتِ في المدرسةْ
وأنتِ تَصُبّينَ زيتاً على النارِ،
أنتِ تسدّين بوّابة السرِّ بالعَجَلات القديمةِ،
أنتِ الزجاجُ المُورَّدُ،
في ليلةٍ كالقَدَرْ.
توهجَ كنعانُ ورْداً وخوفاً وخبزاً وشاياً،
على تلّةٍ، قربَ برقوقةِ المُنحدرْ.
إذا كنتَ تذكرُ ميْلَ الخُصورْ
إذا كنتَ تشربُ كأسَ الحُضورْ
إذا كنتَ تسمعُ صوتَ النيامْ
عليكَ برشق المدى أَنجماً في مُتونِ الغرامْ
عليكَ بإيقاظ هذا الحُطام – القبورْ.
– يَجيئُكِ كنعانُ ملتحياً بالثلوجْ
يطيرُ اليمامُ على كتفيهِ،
على فَرَسٍ أشهب، ليلةَ الاجتياحِ،
وَسُبْحَتُهُ صَدَفٌ تلحميٌّ… وجُبَّتُه من حريرْ
قُبيلَ صلاةِ رفيفِ الطيورِ على ساكناتِ المروجْ.
– يجيئُكِ كنعانُ،
كشرتُهُ من زجاجٍ، وعيناهُ غاضبتانِ،
وسروالُهُ عَتَبٌ، وابتسامتهُ من قتامْ
– يجيئُكِ كنعانُ، فابتهجي يا بلاد الندى وقلاع الغمامْ
عليكِ السلامُ، عليكِ السلامُ، عليكِ السلامْ.
تلمسان، 1988*