يهودية بوتين، هل تنفع العرب وسوريا؟ – سامي كليب
لم يقدّم أي رئيس سوفياتي أو روسي ليهود روسيا ما قدمه الرئيس فلاديمير بوتين. ولم تعرف السنوات التي أعقبت ما سمي بـ «الربيع العربي» علاقة دولية مع إسرائيل أفضل من تلك القائمة حاليا بين سيد الكرملين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي زار موسكو 4 مرات منذ العام الماضي. هل هذا يخدم فعلا العرب وسوريا لاحقا؟ وكيف يتعايش محور المقاومة مع هذه العلاقات الإسرائيلية الروسية؟
علاقات استراتيجية
هي علاقات استراتيجية بامتياز بين روسيا وإسرائيل حاليا. نمت كثيرا منذ وصول بوتين الى السلطة وفي أعقاب زيارته الأولى الى إسرائيل عام 2005. وصفتها صحيفة «لا تريبون جويف» الفرنسية الناطقة باسم الجالية اليهودية قائلة: «يبدو أن عصرا جديدا قد بدأ مع صعود بوتين الى السلطة». عزز ذلك تبادل تجاري يقارب 4 مليارات دولار سنويا وتعاون عسكري وتكنولوجي، وغض طرف من قبل الجانبين عن ملفات عديدة تثير الأسرة الدولية. إسرائيل لم توافق على العقوبات الدولية على موسكو في أعقاب ضم جزيرة القرم. باعت الجيش الروسي طائرات تجسس بلا طيار لاستخدامها في أوكرانيا. لم تعترض على دخول القوات الروسية الى سوريا، ظنا منها أن مواقفها قد تردع موسكو عن تسليم ايران صواريخ أس 300 وغيرها. من جانبها، موسكو التي أفادت إسرائيل عبر إخراج السلاح الكيماوي من سوريا، لا تعترض على اعتداءاتها على المقاومة أو مواقع سورية تُستخدم لنقل أسلحة وصواريخ الى «حزب الله».
في السنوات القليلة الماضية، تنامى التعاون العسكري والتكنولوجي والعلمي على نحو جدير بالاهتمام. ثمة تدريبات ومناورات مشتركة «ضد الإرهاب». التصنيع العسكري المشترك قفز قفزات كبيرة. تم نقل خبرات إسرائيلية الى الجيش الروسي ضد الشيشان وغيرهم. محا ذلك غضب روسيا من التعاون الإسرائيلي مع اوسيتيا الجنوبية في جورجيا التي انتفضت ضد روسيا عام 2008.
دور الجالية اليهودية
تقول إحدى الروايات إن بوتين كان وهو صغير السن يسكن مع عائلته المتواضعة الحال بجوار عائلة يهودية. هناك تآلف مع التقاليد والديانة اليهودية ويعود الفضل في ذلك الى رب العائلة المجاورة الذي كان يساعده في الدراسة وأمور اخرى.
بغض النظر عن صحة هذه الرواية أو تضخيمها، إلا أن الرئيس الروسي قدّم فعلا للجالية اليهودية في بلاده خدمات لم تحلم بها سابقا وهذه أبرزها:
قال أمام مؤتمر حاخامات أوروبا في تموز 2014 «أعزائي الحاخامات، إني ألتزم أمامكم بمحاربة حازمة لأي تعبير لاسامي على أرض روسيا، وألتزم أيضا بتدعيم أمن الجاليات اليهودية ومنحها كامل حرية التصرف، وان روسيا ستواصل رفضها الحازم للنازية الجديدة والايديولوجيات الفاشية مهما كانت».
قالت «لا تريبون جويف»: بالنسبة للجالية اليهودية المتدينة في روسيا، فإن بوتين معجب الى حد الهيام باليهودية. هو الذي يسمح لليهود الروس بممارسة كل شعائرهم الدينية من دون خوف. يضاف الى كل ذلك الزيادة المتواصلة لهجرة اليهود الى إسرائيل… بالفعل شن بوتين حرباً دون هوادة ضد معادي السامية. تم إقرار مجموعة من القوانين. حصلت اعتقالات للنازيين الجدد. تتحرك أجهزة الأمن سريعا لضرب كل من يمس بمصالح اليهود.
في آب/ أغسطس 2014 وسم بوتين الحاخام الروسي الكبير Berl Lazare بوسام الرئيس وهو أرفع وسام روسي.
غالباً ما يتحدث قادة الجالية اليهودية في روسيا عن عمق معارف بوتين بالديانة والأعياد اليهودية وتقديره الكبير وإعجابه بها. يذكرون كيف أنه حين التقى نتنياهو في باريس عام 2014 في مناسبة مؤتمر المناخ، هنأه بحلول عيد «هانوكاه» اليهودي معتبرا أنه عيد انتصار النور على الظلام (أي تماما كما يؤمن اليهود).
في كانون الاول ديسمبر 2016 تم افتتاح مجمع يهودي جديد في موسكو يديره الحاخام الكسندر باردا، يضم كنيسا يتسع لـ250 شخصا وقاعات للأعياد والدراسة وأماكن سكنية للشباب وحضانة للأطفال ومكتبة ومطعماً للأكل اليهودي الحلال.
يتم إلزام كل طالب في المدارس الرسمية بزيارة المركز اليهودي لتعلم تاريخ اليهود.
في 19 كانون الثاني (يناير) 2016 زار رئيس المؤتمر اليهودي الأوروبي موسكو والتقى بوتين شاكيا له ما يتعرض له اليهود في أوروبا، فكان جواب الرئيس الروسي: «فليأتوا لعندنا، ففي خلال العصر السوفياتي هاجروا، ما عليهم الآن سوى العودة». وغالبا ما يكرر بوتين للمسؤولين الإسرائيليين أن أمن إسرائيل أولوية في سياسته الخارجية تماما كالعلاقات الاستراتيجية معها.
تقول التقديرات اليهودية إن عدد اليهود يستقر حاليا في روسيا على حدود مليون شخص، بينهم 300 الف في موسكو و100 الف في سان بطرسبورغ. ذلك أن الهجرات المتكررة قلّصت عددهم. هذه صحيفة « لوكوردية انترناسيونال» الفرنسية تكشف مثلا أن 3146 يهوديا غادروا روسيا الى إسرائيل فقط في الفصل الاول من عام 2015 أي بزيادة 52 في المئة عن العام 2014، ومن أوكرانيا وحدها رحل أكثر من نصف مليون الى إسرائيل منذ إعادة العلاقات عام 1991.
يلعب اليهود الروس دوراً متنامياً في المجالات الاقتصادية والمال والأعمال، خصوصاً عبر «اتحاد يهود روسيا» ولكن أيضا في قطاع الإعلام (بما في ذلك «روسيا اليوم» التي فيها قسم عربي).
بوتين بين التاريخ وسوريا
ليست العلاقات الروسية الإسرائيلية طارئة. كان الاتحاد السوفياتي في طليعة الدول التي اعترفت بإسرائيل عام 1948 وجاء روس يقاتلون في صفوف الجيش الإسرائيلي. حاليا يجري الحديث عن أكثر من مليون ونصف مليون يهودي من أصل روسي في إسرائيل ويعتبر معظمهم من الأكثر تطرفاً في المستوطنات. منهم وزير الخارجية أفغيدور ليبرلمان.
تجمع بوتين وإسرائيل مصالح كثيرة. فإلى التعاون العسكري والتبادل الاقتصادي (إسرائيل تستورد الماس الخام والمعادن واليهدروكاربونات)، تحتاج روسيا الى علاقات إقليمية جيدة بعد إقامتها قواعد عسكرية في سوريا. هي تقاربت جدا مع مصر السيسي، ومع تركيا (قبل إسقاط الطائرة) والعراق وطبعا سوريا. تحتاج روسيا أيضا الى جذب اللوبيات اليهودية في دول الاتحاد السوفياتي سابقا وفي أميركا. ففي أوكرانيا وحدها مثلا هناك 100 منظمة يهودية وفيها أكبر مركز للطائفة اليهودية في العالم، وهي وقّعت مع إسرائيل أكثر من 40 اتفاقية.
تلعب سوريا حاليا دورا كبيرا في تحديد معالم العلاقات الروسية الإسرائيلية. يسعى بوتين الى طمأنة إسرائيل أن استعادة الدولة السورية سيطرتها على المدن الكبرى لا يعني السماح بارتفاع منسوب التهديد لها. لذلك ثمة فصل واضح بين موقف بوتين المؤيد للنظام السوري، وغض الطرف عن ضرب إسرائيل للمقاومة وصواريخ «حزب الله» في الجولان والعمق السوري. يحاول بوتين كذلك إقناع نتنياهو بأن انهيار النظام السوري كان سيؤدي الى فوضى وإرهاب لا أحد يعرف مدى تأثيرهما لاحقا على أمن إسرائيل.
ليس من معهود الحكومات الإسرائيلية الاطمئنان الى دور الجيش السوري مهما كانت التطمينات (وهو آخر الجيوش العربية الذي ترتكز عقيدته على أن إسرائيل عدوة). هذا ما جعل الحكومة الإسرائيلية تشجع على تدمير سوريا والسعي الى تقسيمها ودعم مسلحين بينهم إرهابيون وتكفيريون. ولم تُظهر التيارات التكفيرية أي رغبة حتى الآن في ضرب إسرائيل أو مصالحها.
تعتقد حكومة نتيناهو كذلك أن بوتين سيساهم لاحقا في تخفيف الوجود الايراني في سوريا التي لن تعود في جميع الأحوال كما كانت في السابق. كلما استعادت الدولة السورية سيطرتها كلما تقلصت الحاجة لإيران (هذا يطمئن أيضا دول الخليج). ثمة من يقول بأن سيد الكرملين قد يعمل لاحقا على إعادة إطلاق مسيرة سلام إسرائيلية سورية بشروط جيدة للطرفين نظرا لعلاقاته القوية مع جانبي الصراع.
صحيح أن إيران لم تبد حتى الآن أي تغيير في موقفها حيال إسرائيل. هذا مرشد الثورة السيد علي خامنئي يوجه أقسى الاتهامات الى السعودية قبل أيام بسبب تقاربها مع إسرائيل. لكن الصحيح أيضا أن دخول إيران مجددا الى الأسرة الدولية من بوابة الاتفاق النووي، ورغبتها في جذب مشاريع اقتصادية غربية وتغيير المناخ الغربي حيالها، قد يسمح لاحقا بالعودة الى منطق الهدنة الطويلة بين «حزب الله» وإسرائيل، ذلك أنه لا مصلحة لأي من الطرفين بالدخول في حروب مقبلة قد تكون تدميرية في الاتجاهين.
إن بوتين الذي انفتح كثيرا على مسلمي بلاده وقدم لهم ما لم يقدمه غيره، بحيث إن من يزور موسكو حاليا سرعان ما يرى واحدا من أجمل المساجد المبنية حديثا، قد يطمح الى لعب دور أكبر كوسيط بين من لا يزال ينضوي تحت محور المقاومة وإسرائيل. لكن مثل هذا الطموح يصطدم طبعا بمحاولات إعاقته من قبل أميركا التي لا تريد دورا لغيرها في التفاوض العربي الإسرائيلي، ولن تنظر بعين الرضى الى توسيع الدور الروسي في ما تعتبره مواقع تقليدية لها. كما أن دولا عربية عديدة لا تزال (ولسبب لا يعلمه إلا الله) تعتبر أن أميركا أفضل أو أنها لا تستطيع الخروج عن تحالفها معها.
لكن السؤال المركزي: ماذا سيفعل بوتين اذا ما اضطر يوما ما للاختيار بين إسرائيل ومحور المقاومة، خصوصا أن ما بقي من نظام رسمي عربي ما عاد يريد من الدول الكبرى ضغوطا على إسرائيل لأنه يتجه لتوسيع العلاقات مباشرة معها؟
هنا سيكون الفيصل….
* السفير