نحو فهم مختلف لمعاني الوحدة والانقسام في الحالة الفلسطينية – منير شفيق
الأصل في الحالة الفلسطينية، ولا سيما في الصراع مع الكيان الصهيوني، أن تتغلب عوامل الوحدة على أسباب الانقسام. وكان الأصل في الخلاف أو الاختلاف ألّا يصل إلى مفاصلة وصدام.
في كل بلد، شعب، أمّة، ثمة عوامل وحدة، وثمة أسباب انقسام. وفي بعض البلدان يرتفع الانقسام إلى مستوى الانفصال، كما قد يرتفع إلى مستوى الحرب الأهلية.
وفي تجربة بعض الدول الغربية الديمقراطية التي أنجزت ثورتها القومية التي أرست الوحدة، وأسست الدولة العميقة، الممسكة باحتكار السلاح، والراعية للعبة الديمقراطية في التناوب على السلطة من خلال الانتخابات الدورية، انقسمت داخلياً بين حزبين كبيرين.
على أن انقسامهما، بغض النظر عن عمقه ومستواه، يعمل ضمن إجماع وطني على الاستراتيجية الخارجية (الإمبريالية)، وعلى النظام الداخلي (الرأسمالي). ومن ثم لا أحد، هنا، يعتبر هذا الانقسام حالة مرضيّة، أو يدعو لوحدة الحزبين. طبعاً مع أطياف كثيرة تختلف، أو تخالف وتعارض (تنقسم) بهذا القدر أو ذاك، عمَّا اعتبر إجماعاً وطنياً، ومحافظاً عليه بالقهر وقوة السلاح، عند الضرورة.
طبعاً في الأنظمة الشمولية التي عبرت عنها الظاهرة السوفياتية الماركسية اللينينية لم يسمح أن يقوم تحت وحدة الشعب الأمة الدولة، ذلك القدر من الانقسام بين حزبين وأطياف متعددة، ولو تحت إجماع وطني ترعاه الدولة العميقة بقوة القهر والسلاح، وأساليب أخرى مختلفة. ولكن هذه القوة كامنة في كل الأحوال.
عوامل الوحدة في التجربتين الديمقراطية والشمولية مؤمنة، وغالبة، وتكاد تصل إلى مستوى المسلّمة التي لا يُسمح بالخروج عليها أو المساس بها. وهذه المسلّمة: الوحدة، مطبقة، وشائعة، في كل التجارب، على اختلافها، ويشهد عليها التاريخ منذ القدم حتى اليوم، ولا تُمسّ، بمعنى الانفصال، أو الانقسام، إلى جغرافيتين ووضعين إلاّ بالقوة والسلاح، أو من خلال ميزان قوى قاهر يسمح بهذا الانفصال، والانقسام، من غير استخدام للقوة والسلاح كما حدث من انقسام لتشيكوسلوفاكيا، ما بعد انتهاء الحرب الباردة وخروج تشيكوسلوفاكيا من حلف وارسو.
فعلى ضوء ما عرفته سنن العلاقة بين عوامل الوحدة وأسباب الانقسام بالنسبة إلى البلد الشعب عموماً، كيف يكون الموقف من الانقسام الذي حدث للحالة الفلسطينية بين فتح ورئاسة سلطة في الضفة الغربية، من جهة، وبين حماس المقاوِمة في قطاع غزة، من جهة أخرى. وأصبح عمر هذا الانقسام حتى الآن أربع عشرة سنة؟
الأصل في الحالة الفلسطينية، ولا سيما في الصراع مع الكيان الصهيوني، أن تتغلب عوامل الوحدة على أسباب الانقسام. وكان الأصل في الخلاف أو الاختلاف ألّا يصل إلى مفاصلة وصدام.
ولكن حين دخل إلى الساحة الفلسطينية اتفاق أوسلو، وما حمله وتبعه من تنازلات مبدئية وسياسية، وكان من بينها الاعتراف بالكيان الصهيوني، تزعزعت عوامل الوحدة، وتغلبت أسباب الانقسام. وقد أدى الانقسام إلى خيار بين وحدة تحت مظلة اتفاق أوسلو، وما حمله، وتبعه، من تنازلات مبدئية وسياسية وصلت إلى حد التنسيق الأمني مع العدو في استئصال المقاومة والحيلولة دون الانتفاضة، من جهة، وبين مقاومة حافظت على الثوابت والمبادئ (من عوامل الوحدة)، وراحت تتسلح، وتحفر الأنفاق، لتتحول إلى قاعدة مقاومة جبارة، انتصرت في ثلاث حروب، وأصبح قطاع غزة محرراً بالرغم من الحصار. وقد غدا عصياً على جيش الاحتلال الذي راح، في الآن نفسه، يستبيح الضفة الغربية اغتيالاً واعتقالاً وتدميراً لبيوت المقاومين.
هذه المعادلة التي نجمت عن الانقسام، أو صارت عنواناً له، فرضت نفسها وأصبحت تعلو الأصوات المطالبة بإنهاء الانقسام، وعقد مصالحة. وذهبت بعض تلك الأصوات لتجعل من الانقسام معرة من سياط تجلد الفلسطينيين في كل جلسة، وفي كل مقال. وأما مرجعها النظري فالقول بفوائد الوحدة، ومضار الانقسام، بتجريد، دون أخذ في الاعتبار بأن قطاع غزة محرر ومقاوِم أفضل من أن يكون تحت وحدة تستظل باتفاق أوسلو، وتحمي الاحتلال بالتنسيق الأمني.
وذهبت أصوات أخرى تدين طرفي الانقسام وتجلدهما وتطالبهما بإنهاء الانقسام، وعقد اتفاق مصالحة. والأنكى يتمثل في تصورها بأن ذلك في متناول اليد. كيف ذلك وقيادة رام الله غارقة حتى أذنيها بمواصلة نهج أوسلو والتنسيق الأمني، وتشترط على أية مصالحة تسليم السلاح والأنفاق والقرار لها؟ فتسود سلطة رام الله على قطاع غزة، لتصبح لدينا “الوحدة المنشودة، ونخلص من الانقسام اللعين”. إن الانقسام في هذه الحالة خيرٌ ألف مرة من الوحدة.
ولم نسمع أصواتاً تدعو إلى الوحدة على أساس تعميم ما في قطاع غزة من مقاومة على الضفة الغربية، وذلك بسبب التقليل من أهمية المقاومة في قطاع غزة. وهو أمر يدل على نقص فاضح في إدراك أهمية تحوّل قطاع غزة إلى أرض فلسطينية محررة (بالرغم من الحصار)، وإلى قاعدة مقاومة عسكرية جبارة تتعاظم قوتها يوماً بعد يوم.
مكّن الانقسام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة في رام الله من أن تذهب بنهج اتفاق أوسلو إلى آخر مدى ومن دون حسيب أو رقيب، وبأن تستغل ما في قطاع غزة من “تطرف” لتمكينها وإعطائها دولة لتقضي على المقاومة التي فشل جيش الاحتلال (الإسرائيلي) في القضاء عليها، وقد استفحلت وأصبحت مستعصية. وكانت نتيجة ما فعله الانقسام سقوط اتفاق أوسلو وانكشاف الموقف الصهيوني، بل كل مواقف الدول الغربية. وبهذا لم يكن الانقسام شراً مستطيراً كما اتهمه عاشقو الوحدة “بلا شروط”.
ومكن الانقسام من جهة ثانية فصائل المقاومة والمعارضة لاتفاق أوسلو، بقيادة حماس وحركة الجهاد، ومن خلفها محور المقاومة، أن يذهبوا بمشروعهم إلى آخر مدى، عنوة واقتداراً وغلاباً، وكانت النتيجة لما فعله الانقسام الذي دبره “الشيطان الماكر”، الكاره للوحدة، تكريساً وتثبيتاً لخط المقاومة وهدف التحرير.
مكر الواقع هنا، “أكان” شيطانياً أم غير شيطاني، سيفرض على كاتب التاريخ الفلسطيني أن يقوّم مرحلة الانقسام بأنها أسهمت في إفشال اتفاق أوسلو في الضفة، كما في تكريس المقاومة في قطاع غزة. إنها النتائج الواقعية بل علينا والحالة هذه أن نتأمل جيداً في الآية الكريمة:”وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ” [البقرة: 216].
واليوم يدخل الوضع الفلسطيني مرحلة جديدة لتطوي مرحلة الانقسام، وتفتح مرحلة جديدة، مع استمرار الانقسام، لكن ضمن توفر شروط غلبة عوامل وحدة من نمط جديد، مع إبعاد ذلك الشيطان الماكر ما أمكن.
قد عبر اللقاء الواسع للفصائل الفلسطينية في رام الله وبيروت بأن الانقسام لم يكن تلك الكارثة التي أودت بالشعب الفلسطيني إلى الحضيض، وإنما كان مرحلة إيجابية، في المحصلة عموماً. وقد هيأ عملياً لهذا اللقاء الواسع عندما نشأت ظروف وموازين قوى تتطلب اتخاذ خطوة باتجاه الوحدة وتشكيل قيادة مشتركة، والبحث في تطوير المقاومة الشعبية باتجاه انتفاضة شاملة لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيدٍ أو شرط. إن انهيار اتفاق أوسلو وتبعاته، وتكريس قطاع غزة قاعدة عسكرية لمقاومة جبارة، والعمل على تغليب عوامل الوحدة الفلسطينية ضد “صفقة القرن”، وضد الضم، وضد حلف محمد بن زايد- نتنياهو- ترامب، والسعي لإطلاق انتفاضة مواجهة ضد الاحتلال والاستيطان، أصبح عناوين المرحلة الجديدة لما بعد مرحلة الانقسام السابقة.