فلسطين وذاكرة عربية مفقودة: تمارين عربية في استئناس الهوان – فيصل درّاج
الذي لا ذاكرة له لا تاريخ له، هكذا يقول الفيلسوف الفرنسي الواسع الشهرة: بول ريكور. وذاكرة الأحياء عليها أن تحترم ذاكرة الأموات، هكذا ردّد حزينًا الفيلسوف اليهودي والناقد الأدبي المنتحر: فالتر بنيامين. وأعمل محمود درويش روحه طويلًا وهو يستذكر ما فات في ديوانه: حضرة الغياب. ليس البحث في دلالة الذاكرة عند الأدباء والمؤرخين بالأمر العسير.
بعد النكبة، ولمدة عقدين من الزمن على الأقل، أدمنت الإذاعات العربية، المرتبطة بمسؤولين كبار ودول، على تكرار جمل معينة. أخذ الاتجاه القومي بشعار: عروبة فلسطين جزء لا يتجزأ من العالم العربي، وارتاح غيره إلى صيغة: فلسطين قضية العرب الأولى، والحريصون على وحدة العروبة والإسلام قالوا: فلسطين من القدس والقدس فلسطينية، ولا يمكن التهاون بقضية مقدسة.
ومع أن الشعارات والخطب والأقوال كانت كلامًا يحتمل تصديقًا كاملًا أو مجزوءًا، كان فيها قليل يلبي العقل والمنطق، إذ العربي للعربي ظهير والمسلم للمسلم حليف، والفلسطينيون الذين اغتصب الصهاينة أرضهم عرب وغالبيتهم من المسلمين، وينتمون إلى أرض مقدسة، احتضنت “قبة الصخرة”. وحدّثت عن معراج الرسول إلى السماء العلا، ووقف عمر بن الخطاب على مشارف القدس، وحرّرها من الصليبيين لاحقًا صلاح الدين الأيوبي. فلسطين، في الحالات جميعًا، عامرة بالرموز المقدسة، وللمقدّس مكان أثير في الذاكرة الحيّة، وكان هناك، طبعًا أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا.
بيد أن الفترة الأخيرة من العام الماضي، كما حقبة جديدة من العام الجاري، شهدت عبثًا متزايدًا في الذاكرة العربية والإسلامية، بدا ثقيلًا، متواترًا، عصيًّا على الفهم، حتى استحق صفة غير مألوفة عنوانها: ابتذال اللامعقول. فقد تمّ الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود الشرعي فوق أرض فلسطين، دون الاكتراث بالفلسطينيين وبحقوقهم، لم يستشرهم أحد، ولم يكن في الموقف (الإسرائيلي) “الثابت” من الاحتلال، ما يبرّر موقفًا عربيًا جديدًا، فما زال (الإسرائيليون) يمعنون في مصادرة ما تبقى من أراضي العرب، وما زالوا يتابعون عملية “تهويد القدس” التي لا تنتهي، بعد أن تبرّع الرئيس الأميركي السابق بها للدولة العبرية، ولا يزال اقتناص الفلسطينيين بالرصاص (الإسرائيلي) جاريًا، بلا هوادة، حتى غدا طقسًا يوميًا، يعرفه العرب الذين لم يتنازلوا عن عروبتهم. لكأن مفردة “العروبة”، التي كانت دارجة ذات مرّة أصبحت عملة بائرة، إن لم يكتسحها النسيان جرفتها السخرية.
السؤال المعلّق في الفضاء، دون أن يكون أحجية، ولكن لماذا؟ لماذا التهاون بالحق الفلسطيني إن كان حقًا “قدّسه” العرب قبل عقود؟ لماذا التنازل عنه “مجّانًا” بتفريط يثير العجب؟ وهل تمّت هذه المقايضة الساخرة بين طرفين متساويين، أم حكمتها نصائح أميركية رأت ما يفيدها “فوق التراب العربي”، ودفنت ما يضير (إسرائيل)، حتى لو كان هواءً فاسدًا، تحته، كما لو كانت المصالح غير العربية قاضيًا نزيهًا يتصرّف بإرادات عربية كما يشاء؟!!!
هل من المنتظر تبادل الخبرات العلمية والتقنية بين (إسرائيل) و”إدارات الخليج”، المأخوذة بالاعتراف والتسامح و”بإحلال السلام في العالم”؟ أم أن السودان و(إسرائيل) مندفعان إلى “تعاون زراعي خصيب”، بعد أن ترك الزعيم “البشير” السودان وراءه جنة خضراء؟ وهل اتفاقية الطيران المتبادل بين (إسرائيل) و”دولة مغربية” ستنعم على المغاربة باليُمن والبركات وتوطّد “التجربة الديمقراطية” في البلدين المتباعدين؟ هل هذه الاتفاقيات تسعى إلى تأمين “أمن إسرائيل”، بقدر ما ستقوم به (إسرائيل) في تأمين سلام “الأركان العربية”؟ وهل عرف التاريخ كله دولًا تخذل أبناء أمتها وتنصر أبناء أمة معادية أوسعتها احتلالًا ومصادرة وتقتيلًا صنعت، في النهاية، أسطورة كاذبة عن “الجيش (الإسرائيلي) المعجزة”، التي معجزته من تفكّك العرب وتطامنهم.
بعد الإشارة إلى دلالة الذاكرة، كما صاغها العقلاء من البشر، نعود إلى راهن “الذاكرة القومية العربية” المندفعة إلى الغفران (الإسرائيلي)، وبعد التذكير بما نطقت به ألسن عربية، بعد النكبة، نقف أمام نكبات جديدة زهدت باللغة العربية، وآثرت النطق باللغة العبرية، مترجمة طبعًا، أو باللغة الأميركية التي تكتفي بالإشارات الرادعة. فلا ترجمة إلا لمن كان قادرًا على “المفاوضة”، على خلاف العاجز، الذي يستدعي تطامنه الجاهز إشارات قصيرة تأمر بالقيام والسجود.
مَنْ لا ذاكرة له لا تاريخ له؟ أين التاريخ العربي اليوم، بعد أن استعارت “الأطراف المتأسْرلة” ذاكرة صهيونية تبارك “شعب الله المختار”، الذي تسلّح “بالخيار الرباني” وأجبر الفلسطينيين على منفى شاسع يتوالد حتى اليوم. وعلى ذاكرة الأحياء أن تتضامن مع ذاكرة الأموات؟ قامت “الأطراف التي أضاعت لغاتها” بتسليع أرواح الأحياء والأموات واكتفت بمباركة رئيس أميركي، هو الأسوأ في تاريخ شعبه، والأكثر صهيونية بين الرؤساء الأميركيين المتصهينين. ما معنى انتساب هؤلاء، دينيًا، إلى القدس ومسجد الصخرة والموقع الذي عرج منه الرسول….؟ والأرجح أن ذاكرتهم، أو بعضها، ضاقت باسم عمر بن الخطاب، وطردت بعيدًا صلاح الدين، الذي أكثر مثقفون، في زمن الرقاعة، ذكره بسوء، لأنه “لم يكن إنسانًا ديمقراطيًا”!!!
كان الراحل سمير أمين يدعو بعض الكيانات العربية “بإدارات بالوكالة”، يحكمها إجراء بمكافأة مجزية، وكان اللبناني مهدي عامل، الذي قضى اغتيالًا، اجتهد في تحليل “السلطات الكولونيالية” التي أعقبت الاستعمار المباشر وحكمت نيابة عنه، تحفظ له مصالحه وتؤمّن مصالحها التابعة “بحزم وطني” يخنق شعوبها، أداته “أجهزة قمع” رفيعة الصناعة. بنت السلطات الكولونيالية، في الحالين، ذاكرة غير عربية، تشاطرت فترة، واستأنفت الذاكرة التي بنتها محققة بجدارة، ذاكرة تابعة فاعلة.
من المحقق أن الذاكرة التابعة، التي تنطق بلغة عربية ركيكة تتابع، بنجابة، اتفاق سايكس ـ بيكو (1918)، تحترم الإرادة الاستعمارية، وتمعن في الاحترام موسعة “وعد بلفور” إلى حدوده العليا التي تعترف بالحق الصهيوني كاملًا في فلسطين كما لو كان هؤلاء المسؤولون “التبّع” بلفورات جدد أخذوا على عاتقهم محو اسم فلسطين من الخارطات المنتظرة. أنجزت المخلوقات التابعة إلغاءً ذاتيًا غريبًا، يمكن أن يدعى: استئناس الهوان، حيث المهان يندفع اندفاعًا إلى أحضان الذي أهانه، بعد أن نسي معنى الإهانة، وهو بلا ذاكرة على أية حال، أو غدت الإهانة جزءًا مألوفًا من وجوده اليومي، ينظر إلى الفلسطينيين بتحفّظ وحفيظة، لأنهم يأبون الإهانة التي استقرت في روحه. ما استئناس الهوان إلا مغادرة أخيرة للكرامة الإنسانية، ودفن الذاكرة العربية ـ الإسلامية في قبر عيّن حدوده القادة الصهاينة والمؤازرون لهم.
كيف ستسمح “الأطراف المهانة” بكتابة الأدب، إن كان الأدب يقوم على الذاكرة؟ هذا إلا إذا شاء البعض أن يكتب “نصوصًا عبرية” بلغة عربية محتملة. وماذا يتبقى من الأدب الفلسطيني لو قيّض له حكم ينطق بالعربية ويفكّر بعبرية مستعارة؟ لا شيء. فقد أسهب جبرا إبراهيم جبرا في توصيف القدس، ووصف إميل حبيبي أحوال فلسطين “أيام العرب”، وعهد حسين البرغوثي بذاكرته إلى تراب فلسطين، تنطقه وينطقها، ويستريحان معًا في حقل من اللوّز.
لو كان هؤلاء الأدباء الفلسطينيون على قيد الحياة، لانتقلوا من الرواية والشعر إلى جنس جديد من الأدب عنوانه، ربما: “مهازل الذاكرة المفقودة”، فالمآسي تستدعي بشرًا يميّزون بين الكرامة وتفسّخ الأرواح البائرة.