الإسلام / الماركسية علاقة الالتقاء و الاختلاف – محمد الحنفي
و ما نيل المطالب بالتمني و لكن تؤخذ الدنيا غلابا
احمد شوقي
* إلى كل الشهداء الذين اغتالتهم أيادي الظلام.
* إلى الشهيد عمر بن جلون الذي رحل قبل أن يؤدي دوره …
* اهدي هذا العمل الذي لا ادعي انه ينال من العمق ما يستحق.
* من اجل أن نتذكر، و أن نعتبر، و أن نجتهد، و أن نبدع.
* من اجل أن نساهم في بناء ما بدأوه.
محمد الحنفي
قبل المقدمة واجب التوضيح :
إن موضوع ” الإسلام / الماركسية : علاقة الالتقاء و الاختلاف ” قد يجعل الكثيرين يستغربون طرحه الآن، و في هذه الظروف بالخصوص لكونه لم يعد واردا لا في فكر المتنبئين الجدد الذي يعمل كل مباضعه، و ما توفر لديه من إمكانيات لجعل الفكر الماركسي عدوا للإسلام، و عدوا للمسلمين. و يسعى فكر المتنبئين الجدد، و عن جهل بفكر الماركسية، إلى جعل المسلمين “يجاهدون” ضد الماركسية و الماركسيين، و بدون معرفة حقيقية لا بالماركسية و لا بالماركسيين لإتاحة الفرصة أمام السياسة الرأسمالية عن طريق عولمة اقتصاد السوق بطريقة همجية. نجد استمرار المتنبئين الجدد في تناول الماركسية و الماركسيين بالتجريح و النبذ، دعما لعولمة الاستغلال الرأسمالي و سعيا إلى تكريس التخلف عن طريق سيادة الفكر الذي يفتقد العقلانية التي اصبحت قاعدة في ممارسة الفكر البورجوازي، و البورجوازي الصغير، و الإقطاعي، و هو ما يتنافى مع تطور العلوم و التقنيات الحديثة كما يتنافى مع الدعوة إلى تعميم الممارسة الديمقراطية و حقوق الإنسان في جميع الدول التابعة التي يسود فيها النظام الاشتراكي دون الدول الرأسمالية أو المحكومة بالنظم المتخلفة المرتمية في أحضان أمريكا دون قيد أو شرط.
إن تناولنا لموضوع الإسلام و الماركسية، و معالجتنا لعلاقة الالتقاء و الاختلاف، إنما يهدف إلى تجديد التفكير فيهما سعيا إلى زحزحة ما اصبح أو ما أريد له أن يكون من الثوابت و هو العداء القائم بين الماركسية و الإسلام الذي لا يعبر عن العداء المطلق بقدر ما يعبر عن عداء مؤدلجي الدين الإسلامي للماركسية باعتبارها منهجا علميا يسعى إلى تحليل الواقع، و الكشف عن التناقضات القائمة فيه، و تفجيرها و التسريع بتجاوزها في أفق تحقيق المجتمع الاشتراكي، و هو ما لم يسع إليه الإقطاعيون و أشباههم البورجوازيون و كل من يتطلع إلى أن يكون كذلك.
فالكشف عن خلفيات تكريس عداء “الإسلام” للماركسية يعتبر من مهمة المثقفين الثوريين الذين تقتضي الأمانة العلمية أن يكونوا على معرفة عميقة بالإسلام و بالماركسية معا، من اجل البحث العميق في العلاقة بينهما، و إزالة اللبس الذي يبثه مؤدلجوا الدين الإسلامي لتشويه صورة الإسلام. فالإسلام إسلام، و الماركسية ماركسية، و شروط ظهور كل منهما مختلفة، و أهدافهما مختلفة، مع إمكانية التقاطع بينهما. و هو ما يمكن اعتماده للقول بأن العداء بين “الإسلام” و الماركسية عداء مفتعل، و هو ما يستلزم التصدي لهذا الافتعال لإرجاع الصراع إلى وضعه الحقيقي كصراع بين الطبقات الموجودة على ارض الواقع، لا بين السماء و الأرض، لأن صراعا من هذا النوع هو تحريف للحقيقة، و ظلم للواقع، وفقدان للعلم، و ابتئاس للمنهج. و لذلك رأينا انه من الضروري تناول الموضوع أعلاه، إثارة له، و مساهمة في النقاش الذي يجب استرجاعه إلى الساحة النظرية بصفة عامة و الفكرية بصفة خاصة حتى تتم إعادة النظر في المقولات الجاهزة عند مؤدلجي الدين الإسلامي و محولي الماركسية إلى عقيدة. و ذلك فهو المبتغى الأسمى الذي نسعى إليه، لأن إعادة النظر إذا تم الاقتناع بها تعني أننا نعترف بالجناية على الإسلام، و على الماركسية معا، و المستفيد الأول من تلك الجناية هم المستغلون الحاكمون المستبدون من “المسلمين” في بلاد المسلمين أنى كان لونهم، أو كانت هويتهم، سواء كانوا إقطاعيين أو شبه إقطاعيين أو رأسماليين أو شبه رأسماليين. فهم المستفيدون وحدهم من كل صراع غير حقيقي و غير مشروع. لأن الصراع المشروع وحده يرعبهم، انه الصراع الحقيقي بكل تجلياته الذي يعملون على تغييبه و استبداله بأشكال أخرى من الصراع . كالصراع بين مذاهب الدين الواحد كالسنة و الشيعة في الإسلام، و الكاثوليك و البروتستانت في المسيحية. و قد وجدوا في “الإسلام” و الماركسية مبتغاهم، فافتعلوا الصراع بينهما في الوقت الذي لم يسبق لهم أن افتعلوا الصراع بين “الإسلام” و الرأسمالية. و كان المفروض أن يكون الأمر كذلك، إلا أن المستغلين المنتمين إلى طبقة الرأسماليين و ما يشابهها استطاعت بذكائها الاستغلالي افتعال الصراع بين “الإسلام” و الماركسية بعد أن اكتسبوا المتنبئين الجدد إلى جانبهم بشراء ذمتهم : و هو ما يساعد على تغييب المعنيين بالصراع، و المعنيين بالاستغلال، و ذلك هو مبتغى الاستغلاليين الحاكمين المستبدين.
فهل يعمل المثقفون الثوريون، و المتنورون على إزالة الغشاوة عن أعين الناس ؟
إنها مسافة الزمن بين التضليل و بين الرؤيا الواضحة للطريق الصحيح . و الطريق الصحيح هو عودة الوعي الحقيقي إلى أصحابه الحقيقيين.
مقدمة :
مع حلول عصر العولمة، و انهيار المعسكر الاشتراكي و سيادة الرأسمالية الهمجية المتجسدة في اقتصاد السوق. و ظهور بوادر مقاومة من نوع جديد لهذا الاقتصاد، و تكثيف الحديث عن حقوق الإنسان الذي يعكس الغياب الفعلي لهذه الحقوق، و حلول خطر “الإرهاب” محل “الخطر الشيوعي” الذي وظفت لمقاومته إمكانيات ضخمة، لا من اجل القضاء عليه، لأنه ليس موجودا أصلا، بل من اجل القضاء على النظام الاشتراكي الذي يستقطب أنظار الشعوب المقهورة، و كاد الحديث عن الماركسية يختفي من الكتب، و المجلات، و الصحف، و سائر وسائل الإعلام، و كأن الماركسية أصبحت سبة يتجنب الجميع أن ينعت بها. و اصبح العديد من الماركسيين، الذين نفتخر بكتاباتهم يعلنون توبتهم أمام أعتاب أنظمة البترودولار. و في نفس الوقت يتم الترويج لخطابات المتنبئين الجدد بكل الوسائل الممكنة و خاصة إذا كانوا “ماركسيين” سابقين، و غير الممكنة لمحاربة الفكر الاشتراكي العلمي، و تصبح الشعارات الأيديولوجية المنسوبة إلى “الإسلام” هي الهدف الذي تستقطب شعوب المتنبئين الجدد إلى تحقيقه.
فحلول عصر العولمة هو تتويج لخطة رأسمالية إمبريالية همجية تسعى إلى تحقيق السيطرة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية على شعوب الأرض التي توظف لمحاربة الفكر الماركسي على أساس انه ينشر “الإلحاد” و “الكفر” بين المسلمين، و تقديم الدعم الذي لا حدود له لأقلام المتنبئين الجدد التي تبشر ب”الإسلام”. و تنشر “الفكر الإسلامي” الذي لا يمكن اعتباره إلا أيديولوجية ظلامية تستهدف تقويض الفكر العلمي، و زعزعة المنهج العلمي الذي هو جوهر الماركسية لتمهيد الطريق أمام اكتساح النظام الرأسمالي العالمي للقارات الخمس، و السطو على الخيرات الاقتصادية و استغلال الموارد البشرية و تعميم اقتصاد السوق، و بسط الطرق و الممرات أمام الشركات العابرة للقارات، و إغراق الأنظمة التابعة بالمزيد من الديون.
و بالمقابل ف “الإسلام” انطبع في أذهان الناس في جميع أنحاء العالم بما اصبح يعرف بالإسلام السياسي الذي يقود الثورة المضادة للحركة الماركسية بكل الوسائل الممكنة، و ضد الأنظمة التابعة، و على رأسها الدولة الصهيونية التي قاومها الماركسيون منذ البداية، من اجل الوصول إلى السيطرة على الكرة الأرضية بعد أن تلقوا دعما محدودا من قبل أمريكا لمقاومة “المد الشيوعي” و إلى جانب “الإسلام السياسي” هناك “الإسلام” الرسمي الذي تحتمي به الأنظمة التابعة التي توظفه لقهر شعوب المسلمين المقهورة خدمة لأمريكا، و محاربة الماركسية المتجسدة في حركاتها كأحد اوجه تلك الخدمة.
أما الإسلام الحقيقي الذي يبث القيم النبيلة في نفوس المسلمين و مسلكياتهم الفردية و الجماعية، و يوطد الروابط الروحية و الاجتماعية بين المسلمين في كل البلاد الإسلامية، هذا الإسلام هو ما يصطلح على تسميته بالإسلام الشعبي لامتزاجه بالعادات و التقاليد و الأعراف، و براءته من الممارسة الاسلاموية الرسمية و التي تختزل الإسلام في مجموعة من التيارات “الإسلامية”.
و في هذا الإطار سنعالج العلاقة بين الإسلام كعقيدة و كشريعة ، و بين الماركسية كمنهج للتحليل و كهدف، واقفين على الشروط التاريخية التي ظهر فيها الإسلام، و الشروط التاريخية التي ظهرت فيها الماركسية، و اختلاف دور الإسلام عن دور الماركسية، و لجوء التيارات “الإسلامية” إلى تحويل “الإسلام” إلى ممارسة أيديولوجية مما يمكن اعتباره ممارسة تحريفية، واقفين على أهداف الإسلام و أهداف الماركسية و مجيبين على السؤال : ما هي نقط الالتقاء، و نقط الاختلاف ؟ و مستشفين حقيقة عداء الإسلام للماركسية و هل هو عداء حقيقي و أصيل في الإسلام ؟ أم هو مجرد ادعاء أيديولوجي ؟ و كذلك حقيقة عداء الماركسية للإسلام و هل هو قائم في الفكر الماركسي و الممارسة الماركسية ؟ أم انه مجرد افتعال من قبل المتمركسين ؟ و عاملين على الإجابة على السؤال هل يصح إطلاق المقولة الماركسية “الدين أفيون الشعوب” على الإسلام ؟ أم انه مجرد زعم لا علاقة له بالشروط التاريخية التي جاءت فيها تلك المقولة ؟ و مستعرضين بعض اوجه ظلم بعض الماركسيين للإسلام، و ظلم الإسلاميين للماركسية و واقفين على إمكانية لاهوت إسلامي ماركسي، و على كرامة الإنسان بين الإسلام و الماركسية مستقبلا. و بذلك نكون قد قمنا بتحليل موضوعي للعلاقة بين الإسلام و الماركسية كمساهمة لمد الجسور بينهما من اجل مواجهة المد الرجعي المتخلف المتمثل في واجهتين : واجهة همجية اقتصاد السوق، و واجهة المتأسلمين الذين يؤدلجون الدين الإسلامي لتحقيق أهداف طبقية و سياسية معينة.
الإسلام كعقيدة و كشريعة :
و حتى لا تختلط الأمور في أذهاننا و نتيه بين التيارات و الفصائل و الأحزاب المؤدلجة للدين الإسلامي الحنيف و التي تعادي الماركسية بشكل مطلق و تعطي الأولوية لمحاربتها على أي نمط آخر من التفكير و الممارسة حتى و لو كان اكثر عداء للإسلام، و اكثر استغلالا للمسلمين كما هو الشأن بالنسبة للنظام الرأسمالي الهمجي.
فالإسلام الذي نقصده هو الذي يهدف إلى تربية الروح الإنسانية في الأفراد و الجماعات، و يسعى إلى تطهير المسلكيات الفردية و الجماعية من كل ما يضر بالعلاقات بين الأفراد و الجماعات، و يحط من كرامة الإنسان، و يسعى بكل ذلك إلى حفظ تلك الكرامة التي هي قوام الوجود البشري. و إسلام كهذا يتجسد في مستويين من التربية الروحية و الخلقية :
المستوى الأول : الإسلام كعقيدة، و هو إسلام يتجسد في مجموعة من الشعائر الدينية التي تكتسب بعدا اجتماعيا أثناء ممارستها وسعيا إلى تحقيق أهدافها، كشعيرة الصلاة التي تهدف أولا و قبل كل شيء إلى تطهير المجتمع من كل المسلكيات الخبيثة. فقد قال الله تعالى في هذا الإطار “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر” فالفحشاء و المنكر مسلكيتان اجتماعيتان خبيثتان يتجنب الناس ممارستهما بسبب التشبع بالدين الإسلامي، المعبر عنه بأداء فريضة الصلاة، و كذلك الشأن بالنسبة لشعائر الزكاة و الصيام و الحج، فهي كلها تعبيرات مختلفة عن الانتماء إلى الإسلام و تسعى إلى تحقيق أهداف اجتماعية سامية.
المستوى الثاني : الإسلام كشريعة الذي يتمثل في القوانين المنظمة للعلاقات بين المسلمين فيما بينهم، و بين المسلمين وغيرهم. و تلك القوانين و التشريعات التي تستمد قوتها من القرءان الكريم و الحديث الشريف و تتغير بتغير الزمان و المكان حتى تتلاءم مع المستجدات التي تطرأ عبر ما يصطلح على تسميته بالاجتهاد و القياس و الإجماع. و الشريعة ليست جامدة بقدر ما هي مرتبطة بتحول أحوال المسلمين الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و قابلة للملاءمة مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان مادامت تلك الحقوق تهدف إلى تحقيق كرامة الإنسان التي هي غاية الشريعة الإسلامية. و ما أصاب الشريعة الإسلامية من جمود ما هو إلا من فعل المتزمتين و المتطرفين الذين يسعون إلي المحافظة على مصالحهم الطبقية المرتبطة بنمط التفكير المتزمت و المتخلف الذي لا علاقة له بحقيقة العقيدة و لا بحقيقة الشريعة في هدفيهما و سعيهما إلى تحقيق كرامة الإنسان.
و انطلاقا من هذا التصور يمكن أن نقول : إن الإسلام لا علاقة له لا بالرأسمالية و لا بالاشتراكية و لا بالماركسية، و لا بأي نمط من أنماط الإنتاج أو التفكير، فإن ما نراه من مقارنة بالمذاهب الاقتصادية و الفكرية إنما هو مجرد إقحام له في كل ذلك. و هو إقحام فيه تعسف، و لا يمارسه إلا المتنبئون الجدد الدين يسعون بكل ما أوتوا من قدرة على ادلجة العقيدة و الشريعة إلى بقاء المسلين الكادحين و المقهورين و الفقراء و المتخلفين بعيدين عن كل التيارات الفكرية و المذاهب الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية حتى يبقوا في خدمة المتنبئين الجدد الطبقية، و حتى لا يتملكوا وعيا يؤهلهم للسعي إلى التسريع بتطوير أوضاعهم العامة و الخاصة.
الماركسية كمنهج للتحليل :
و لإزالة الخلط القائم في مختلف الكتابات و خاصة منها تلك التي يدبجها المتنبئون الجدد، فإن الماركسية جاءت كثورة على أوضاع اقتصادية و اجتماعية و ثقافية و مدنية و سياسية تغلغلت فيها همجية الاستغلال الرأسمالي في المجتمعات الرأسمالية خلال القرن التاسع عشر ليمتد بعد ذلك إلى القارات التي تحولت إلى مستعمرات للدول الرأسمالية الاستعمارية و أهم شيء في الماركسية هو المنهج العلمي بقوانينه الدياليكتيكية و التاريخية التي وظفها الماركسيون في كل بقاع العالم من اجل الكشف عن القوانين الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية المتحكمة في الواقع حتى تستطيع الحركات المناضلة تغيير ذلك الواقع اعتمادا على تلك القوانين المتحكمة فيه.
و منهج التحليل الماركسي ليس وحيا من السماء و ليس من أدوات محاربة الوحي الآتي من السماء، انه اكتشاف خلاق و مبدع قام به مؤسسا و رائدا الماركسية ماركس و إنجاز انطلاقا من التطور الذي عرفته العلوم الطبيعية، و الرياضيات و الفلك و تعاظم المكتشفات العلمية و المخترعات التكنولوجية، و تسارع عملية السيطرة على الطبيعة و تسخيرها لخدمة الإنسان الذي اصبح يتجسد في الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج.
و يهدف المنهج الماركسي من وراء تحليل مكونات الواقع، و اكتشاف القوانين المتحكمة فيه إلى تمكين المقهورين و المستغلين بقيادة الطبقة العاملة من امتلاك الوعي اللازم للانخراط في النضال من اجل تغيير الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي و الوصول إلى تحقيق التوزيع العادل للثروة و الخدمات و القضاء على كل أشكال الظلم و القهر و الاستبداد من اجل مجتمع بلا استغلال بلا طبقات.
و لا يمكن للمنهج الماركسي أن يكون علميا إلا إذا استحضر مختلف المكونات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي ينطلق منها كمعطيات حتى يكون التحليل سليما و متكاملا و مؤديا إلى نتائج علمية صحيحة.
و بالنسبة للمجتمعات التي تعتنق الدين الإسلامي، فإن النهج الماركسي يجب أن يستحضر هذا المكون الرئيسي و الأساسي الذي يقتضي التعامل معه، و المعرفة به، و بالشروط التاريخية التي وجد فيها، و استطاعته الوصول إلى جميع القارات الخمس و استقرار الإيمان به و اتساعه وصولا إلى استغلاله لاستنهاض الشعوب المقهورة من اجل مقاومة القهر و تحقيق العدالة الاجتماعية. فاستحضار الإسلام، و اعتناق العديد من الشعوب المقهورة له في التحليل الماركسي لواقع تلك الشعوب الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي و دوره في تربية الشعوب و توجيه مسلكياتها الجماعية و الفردية. يعتبر مسألة أساسية و ضرورية ليس من منطلق محاربته كما قد يعتقد البعض كرد فعل على ما يقوم به المتنبئون الجدد في حق الماركسية، و المنهج الماركسي بل من اجل استثمار تأثيره في الشعوب الإسلامية في الاتجاه الصحيح.
و تحليل كهذا يستحضر الإسلام و دوره في الشعوب الإسلامية لا يتناقض أبدا مع مادية المنهج الماركسي، و لا مع مثالية الإسلام. لأن التناقض في التحليل غير وارد، و لأن مثالية الإسلام تتحول إلى واقع مادي عندما يكون بعيدا من الأيديولوجية لأن الإسلام الحقيقي ليس هو الإسلام المؤدلج. فالإسلام الحقيقي يتجسد في القيم النبيلة التي يتشبع بها الأفراد و الجماعات و أما الإسلام المؤدلج فيقف وراء قيم أخرى تدفع إلى إعلان العداء لكل ما هو مادي، و خاصة المنهج المادي لا لأنه مادي بل لأن التحليل القائم على ذلك المنهج يكشف وهم الأيديولوجية و تغذية ذلك الوهم المنتج لقيم الإرهاب التي أصبحت تنسب إلى الإسلام. و هذا التمييز يعتبر كذلك أساسيا و ضروريا لتكريس احترام الماركسية لمختلف العقائد و خاصة العقيدة الإسلامية، من اجل الخروج بخلاصات كانت ستعتبر مرجعا للدارسين الماركسيين و غيرهم، لولا وفاته قبل أن يقوم بذلك، إلا أن المنهج الماركسي لم يمنع من القيام بذلك لولا التحريف الذي أصاب المنهج الماركسي نفسه نتيجة لتحويل الماركسية إلى عقيدة جامدة.
و المطروح الآن بالنسبة للمنهج الماركسي هو إخضاعه للتحليل بواسطة المنهج الماركسي لإزالة الشوائب التي لحقت بالماركسية، و وضع حد للجمود العقائدي الذي أصابها و من اجل الاستفادة من التطور العلمي و التقني، و انعكاسه على تطور التشكيلة الاجتماعية لصالح تطور المنهج الماركسي، و الرؤيا الماركسية للأشياء، و للمجتمع و للدور الذي يجب أن تلعبه الماركسية.
و مراجعة المنهج الماركسي على ضوء المستجدات العلمية و التقنية سيجعله مستجيبا للحاجيات الجديدة على مستوى التحليل، و ستواصل الماركسية التعاطي مع ظاهرة العولمة بشكل إيجابي، و ستكون الخلاصات التي يتوصل إليها التحليل الماركسي متلائمة مع تطور النظام الرأسمالي العالمي، و مرشدة لعمل الماركسيين على تفكيك هذا النظام انطلاقا من قوانينه، و آلياته المكتشفة.
فالرأسمالية عندما تجدد نفسها لتطور أساليب استغلالها لتزداد سيطرتها على نسب مهمة من فوائض القيمة، نجد انه من اللازم قيام الماركسية بتجديد منهجها حتى تتمكن من القدرة على التعاطف مع الواقع الجديد للنظام الرأسمالي الذي استطاع أن يستوعب لصالحه أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية بأيديولوجيتها المختلفة و مكوناتها المتآلفة و المتناقضة، و ثقافتها المتخلفة حتى تصبح جزءا من ذلك النظام، و تعمل على تقويته. و على الماركسية أن تأخذ بعين الاعتبار هذا الشكل من التطور الرأسمالي المتجدد باستمرار الذي يجب أن تقابله الماركسية المتجددة باستمرار.
و الإسلام باعتباره عقيدة و شريعة اصبح مستهدفا من قبل النظام الرأسمالي العالمي، و للمساهمة في خدمة ذلك النظام و خاصة عندما تتم ادلجته ليتحول عدوا للماركسية، و عاملا على تقويته بكل الوسائل الفكرية و العلمية التي قد تتحول إلى إرهاب مادي أو معنوي في حق الماركسيين المخلصين، و هو بذلك يتحول إلى مكون من مكونات النظام الرأسمالي العالمي النقيض الرئيسي للماركسية بأبجديتها المختلفة.
و الماركسية عندما تتعاطى مع الإسلام يجب أن تسعى إلى إحداث تناقض بين الإسلام الحقيقي و الإسلام الأيديولوجي من جهة و بينه و بين النظام الرأسمالي من جهة أخرى من اجل فك الارتباط الحاصل بفعل التأثير الرأسمالي العالمي على المسلمين، و في نفس الوقت العمل على إزالة التناقض المفتعل بين الإسلام القيمي و بين الماركسية حتى يكون ذلك بداية مد الجسور بين الإسلام و الماركسية على أساس احترام الأسس و المنطلقات الخاصة بالإسلام و الخاصة بالماركسية و العمل على إعداد الإنسان لتحقيق نفس الأهداف المؤدية إلى تحقيق كرامة الإنسان المهدورة في ظل النظام الرأسمالي و بمساهمة الإسلام الأيديولوجي الذي يظهر ممارسوه خلاف ما يضمرون فيصدق عليهم قوله تعالى ” و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله على ما في قلبه و هو ألذ الخصام و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها”
تاريخ الإسلام و تاريخ الماركسية :
و إذا رجعنا إلى التاريخ نجد أن ظهور الإسلام و ظهور الماركسية حصل كل منهما في شروط مختلفة و متناقضة.
فظهور الإسلام ارتبط بالحاجة إلى التحول الذي عرفه المجتمع العربي في الجزيرة العربية حيث أخذت تحصل تفاعلات حادة بسبب الاحتكاك بالنظام الروماني من جهة و النظام الفارسي من جهة أخرى و نظام الحبشة من جهة ثالثة، و استهداف الجزيرة العربية من قبل هذه الأنظمة، و التعامل الحاصل بين العقائد التي كانت سائدة في محيط الجزيرة العربية و عجزها عن طريق التغلغل في صفوف سكان الجزيرة العربية الذين يسيطر عليهم النظام القبلي الذي عرف حروبا طويلة الأمد بين مجموعة من القبائل مما جعل شرائح عريضة من العرب تنتظر من ينقذها من الهلاك و في نفس الوقت يوحد صفوف العرب و يخلق منهم قوة في مواجهة القوى العظمى الوافدة من الشرق أو من الغرب أو من الجنوب. و بما أن وعي العرب كان متدنيا في ذلك الوقت بسبب انشغال الناس بأمور تافهة و لكنها عظيمة بالنسبة إليهم، و اشتغالهم بالبحث المستمر عن أماكن الرعي و البحث عن الماء أو بالقيام بالتجارة بين الشمال و الجنوب كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم “لايلف قريش ايلافهم رحلة الشتاء و الصيف”.
و بالإضافة إلى ما ذكرنا عرفت الجزيرة العربية تشتتا عقائديا، فبالإضافة إلى سيادة عبادة الأوثان المختلفة تواجدت المسيحية و اليهودية اللتين لم تستطيعا التغلغل في صفوف العرب، و إلى جانبهما تواجدت بقايا ديانة إبراهيم المعروفة بالحنيفية و هذا التعدد نتج عنه التشتت في بلاد العرب و البحث المستمر عن بديل يخرجهم من وضعية التمزق التي لم تعد تفيدهم. و لذلك نجد أن :
-
تكالب القوى الخارجية (الفرس-الرومان-الحبشة) مزق العرب في ثلاث اتجاهات.
-
الحروب التي تدوم سنين طوال جرت العرب إلى المزيد من التمزق.
-
تعدد العقائد ضاعف من تمزقهم.
-
ازدهار التجارة بين الشمال و الجنوب زاد من رغبتهم في الحرص على تحقيق وحدتهم.
و لكن من يعمل على تحقيق تلك الوحدة ؟
هل تقوم بناءا على تدخل خارجي ؟ فالتدخل لا يمكن أن يجر الجزيرة العربية إلا إلى المزيد من التمزق تبعا لمراكز التأثير التي يعمل كل منها على أن تكون الجزيرة في متناوله. و هو ما أدى في ذلك الوقت إلى حروب مدمرة بين القوتين العظميين في ذلك الوقت، و اللتين شكلت كل واحدة منهما درعا يحميه من العرب من جهة، و من الدولة المعادية من جهة أخرى، و المتمثل في الغساسنة و المناذرة.
هل تقوم على أساس قومي ؟ لأن البعد القومي في ذلك الوقت يبقى بعيدا عن لعب دوره نظرا لاستفحال العصبية القبلية التي تتحطم أمامها كل دعاوى السلم و التوحد رغم ظهور من يسعى إلى التوحد داخل القبائل و من خارجها.
هل تقوم على أساس اقتصادي ؟ إن اقتصاد العرب كان يجمع بين البدائية و العبودية، و كانت حروب الكر و الفر تلعب دورا كبيرا في توفير حاجيات القبائل، و التجارة التي كانت قائمة بين الشمال و الجنوب، كانت تحتكرها قريش، و لم تكن عامة بين العرب.
و هنا يجب أن نستحضر المواسم الاقتصادية التي كانت تقوم في مكة و حولها، و التي ترتبط بالسجود إلى الآلهة، و الطواف بالكعبة، و هو ما جعل مكة و البيت الحرام قبلة لجميع القبائل العربية التي كانت تساهم في تنظيم موسم الحج الذي رسخ في الأذهان، و في السلوك العربي أن الحق لا يكون إلا عقائديا، و لذلك اتجهت الأنظار إلى الآتي من الإرهاصات المتعددة، و الموحية كلها بقرب ظهور ما يؤدي إلى القضاء على التفرقة بين القبائل، و وضع حد للتعدد العقائدي، فكان ظهور الإسلام استجابة و ثورة في نفس الوقت.
استجابة لحاجة عقائدية ذات بعد صراعي مع الطبقة المستفيدة من التعدد العقائدي الذين تصدوا لمحاربة الإسلام و السعي للقضاء عليه. إلا أن حرص الناس على التمسك به لإجابته على التساؤلات التي كانت مطروحة من قبل المتضررين من الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي كانت سائدة.
و ثورة على الأوضاع، لأنه استطاع بما حمله من قيم نبيلة أن يغير النظرة إلى العالم بعد توحيد عبادة الله، و وضع حد لعبادة الأوثان و حشد المؤمنين به وراء محمد صلى الله عليه و سلم لحماية الدين الجديد من المتربصين به، من اجل ترسيخ قيم جديدة تقوم على أنقاض قيم الجاهلية، و هو ما أدى إلى توحيد القبائل العربية، و كل الذين آمنوا به من غير العرب مما جعلهم يسعون إلى تأسيس دولتهم بعد وفاة الرسول ص لا على أساس الدولة الإسلامية بقدر ما هي خلافة للرسول التي تم تحويلها في عهد عمر إلى”أمير المومنين” التي تعني ما تعني. و الفرق بين الخليفة و أمير المومنين من جهة و بين الرسول من جهة أخرى هو : أن الرسول نعت من عند الله يخص كل من كلفه الله بتبليغ رسالته. و تنتهي مهمته بانتهاء الرسالة، و بعد ذلك يزول دوره، و هو ما يمكن أن نستنتجه من أول آية نزلت على الرسول ص ” اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ و ربك الأكرم، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم … الخ” و آخر آية نزلت حيث يقول الله تعالى ” اليوم أكملت لكم دينكم، و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا” و لذلك لا ندعي كما يزعم البعض أن الرسول ص أسس الدولة الإسلامية، لأنه ادعاء مغلوط من أساسه. بل جاء ليبلغ الرسالة التي هي أساس التوحيد اعتمادا على القيم النبيلة التي بثها الإسلام في نفوس المسلمين ليفكروا انطلاقا من أمور دنياهم “و أمرهم شورى بينهم” ليغادروا حالة التمزق التي كانت سائدة، و ينجزوا عملية التوحد في مرحلة الخلافة، و إمارة المومنين التي تشبه إلى حد كبير النظام الرئاسي الجمهوري الذي هو إبداع المسلمين، و ليس وحيا، لأنه لا يوجد نص في القرآن يذكر ذلك و يؤكد ضرورة إنجازه أو الحرص عليه.
و من خلال النصوص المتواترة و المروية بالآحاد يمكن أن نسجل أن الغاية من مجيء الإسلام هي:
أ- وضع حد للحروب التي سادت خلال العصر الجاهلي فيما بين ا لعرب عن طريق وضع حد لاسباب الفرقة التي أنهكت الكيان العربي، و العمل بكافة الوسائل على تحقيق السلام بما في ذلك إشاعة التربية الخلقية بين المسلمين، و احترام كرامة الأفراد و الجماعات.
ب- القضاء على دواعي التفرقة بين الناس بقطع النظر عن اختلاف ألسنتهم و ألوانهم، و انتماءاتهم العرقية و دعم التعارف فيما بينهم عن طريق الحوار المتبادل من اجل تجاوز أسباب الفرقة و اعتماد أسباب التوحد.
أما الماركسية فقد ظهرت بعد ذلك بحوالي ثلاثة عشر قرنا، و في شروط موضوعية مختلفة عن تلك الشروط التي ظهر فيها الإسلام، فقد قطعت البشرية مراحل كبيرة من تطورها و لم تعد الإمكانيات القديمة واردة. لقد حلت محلها إمكانيات جديدة بسبب تغير نمط الإنتاج الذي اصبح متطورا اكثر. و أهم شروط ظهور الماركسية :
1) انتقال نمط الإنتاج الإقطاعي إلى النمط الرأسمالي كاستجابة للتطور الحاصل في العلوم و التقنيات و الآداب و الفنون و كل ما له علاقة بالبشر.
2) و تبعا لذلك وجد نظام رأسمالي منسجم مع نمط الإنتاج السائد من اجل ضمان استمراره و تطوره.
3) ظهور الطبقة العاملة التي تخضع للاستغلال البشع من قبل البورجوازيات مالكي وسائل الإنتاج، مما عمق بؤس هذه الطبقة على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
4) ظهور منظرين كبار للنظام الرأسمالي الذين يعملون على إشاعة التضليل بين الكادحين حتى يكونوا اكثر قابلية للاستغلال و دون التفكير في مقاومته.
5) ممارسة القمع الشرس على الحركة العمالية الذي طال العمال في أوقات العمل و كثافته، و انعدام التنظيمات أو قمعها و عدم السماح بوجودها أصلا من اجل مضاعفة الأرباح التي يحصل عليها البورجوازيون.
6) مضاعفة ساعات العمل و ضعف الأجور إذ كانت تصل إلى 18 ساعة في اليوم بأجور زهيدة لا تستطيع تلبية حاجيات العامل الضرورية كالأكل و الشرب و السكن و أشياء أخرى. فما بالنا بالكماليات التي لا يعرفها العمال أبدا.
7) حاجة الطبقة العاملة إلى فكر يعبر عن مصالحها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، لأنه بدون ذلك الفكر لا تملك وعيها الطبقي، و لا تستطيع تنظيم نفسها للنضال من اجل الحد من الاستغلال الممارس عليها من طرف البورجوازية الهمجية و الشرسة التي تفتك بالطبقة العاملة.
8) حاجتها إلى تنظيم نقابي يمكنها من تجميع صفوفها و وضع ملفها المطلبي، و برنامجها النضالي، و الشروع في تنفيذه، و انتزاع مكاسب لصالح الطبقة العاملة تجعلها تدرك نجاعة التنظيم النقابي، و فائدته، و من اجل انتقال وعيها إلى مستوى آخر يتسم بالوعي الحقوقي و السياسي الذي هو وحده الذي يقود إلى ممارسة الصراع الطبقي في مستواه الأرفع.
9) الحاجة إلى حزب للطبقة العاملة يقود نضالاتها السياسية في أفق تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية التي بدونها لا ترقى الطبقة العاملة و معها بقية الكادحين إلى مستوى الحياة الإنسانية التي هي قوام وجود الإنسان. فبدون الحرية يكون العمال الكادحون مستعبدين، و بدون الديمقراطية لا يستطيع العمال تقرير مصيرهم الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي, و بدون العدالة الاجتماعية يعاني العمال من الغبن على جميع المستويات.
10) السعي إلى :
أ- القضاء على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج باعتبار تلك الملكية أساس البلاء الذي يعاني منه الكادحون على جميع المستويات. لأن الملكية الفردية لتلك الوسائل تعمق الاستغلال، و تراكم المزيد من الأرباح لصالح البورجوازيين، و تجعل العمال في وضعية متردية. بينما نجد أن الملكية الجماعية تؤدي إلى توزيع الدخل بشكل عادل بين سائر المواطنين.
ب- تنظيم الطبقة العاملة و قيادة نضالاتها المطلبية و السياسية لأنه بدون ذلك التنظيم المزدوج لا يتحقق وجود الطبقة العاملة على المستوى المطلبي و السياسي و لا يمكنها ممارسة الصراع الطبقي بشكل منظم.
ج- القضاء على النظام الرأسمالي و بناء النظام الاشتراكي عبر إنضاج شروط النضال الهادف عبر تحقيق العدالة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي هي قوام الممارسة الاشتراكية التي يوضع في إطارها حد للاستغلال بكافة أشكاله، و يتم العمل الذائب من اجل كرامة الإنسان، و المحافظة عليها عبر تمتيع الناس كل الناس، و بدون استثناء بكافة الحقوق الاقتصادية التي يقوم عليها وجودهم، و الاجتماعية التى تؤهلهم للاندماج الاجتماعي المتكامل، و الثقافية التي تمكنهم من امتلاك وعيهم الحقيقي، و السياسية التي تمكنهم من تقرير مصيرهم الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي وصولا إلى بناء دولة ترعى مصالح الكادحين و تعمل على وضع حد لكل مظاهر الاستغلال التي تكون مورثة من النظام الرأسمالي و تحرص على تمكين الناس من امتلاك وعيهم الذي يحول دون قبول ممارسة الاستغلال.
و هذه الشروط التي استعرضناها هي التي حتمت ظهور الماركسية كفكر للطبقة العاملة و كممارسة نضالية تهدف إلى جعل الطبقة العاملة و حلفاءها تنقل المجتمع إلى نظام خال من الاستغلال المادي و المعنوي لكافة الكادحين، و هي شروط تعبر عن قيام أزمة عميقة في المجتمع الرأسمالي في مرحلة ظهور الماركسية، و هي تشبه إلى حد كبير المحطات العظمى في التاريخ البشري إلا أنها تميزت بالتحول العميق الذي تعرفه البشرية على المستوى المعرفي و التقني و تطور وسائل الإنتاج و قيام النظام الرأسمالي و ظهور الطبقة العاملة …… الخ.
فالماركسية كتعبير عن فكر الطبقة العاملة ارتبط ظهورها بمعاناة كانت تبلغ اشد درجات البؤس الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي ذلك البؤس الذي لا يمكن إلا أن يجعل مؤسسا الماركسية و منظراها يرتبطان بالطبقة العاملة و يدرسان فكر البورجوازية، و ممارستها الأيديولوجية، و ينقضان ذلك الفكر، و يبنيان على ذلك النقض النظرية الاشتراكية العلمية التي أصبحت أيديولوجية الطبقة العاملة و سائر الكادحين باعتبارها احسن تعبير عن مصالحهم الطبقية.
دور الإسلام و دور الماركسية :
و قد يتساءل متسائل عن الدور الذي لعبه الإسلام ؟ و الدور الذي لعبته الماركسية ؟ و هل يمكن المقارنة بينهما ؟
إننا بوقوفنا على الشروط التي جاء فيها الإسلام و الشروط التي حكمت ظهور الماركسية سنصل إلى أن دور كل منهما ينسجم مع تلك الشروط، و سيكون له تأثير عظيم على المراحل اللاحقة.
فدور الإسلام المتجسد في :
1) نبذ عبادة الأوثان التي تعكس تمزق الجاهليين مما يقود إلى قيام حروب فيما بينهم، قد تدوم عقودا، و توحيد عبادة الله تعالى وحده “قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفؤا أحد” “لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا” و توحيد عبادة الله يعتبر احسن مظهر لتحرر الإنسان من التبعية للبشر تلك التبعية التي قد تقوده إلى الاستعباد أو إلغاء إرادته جزئيا أو كليا بتحوله إلى مجرد كائن لا قيمة له. فتوحيد عبادة الله في مرحلة ظهور الإسلام تعني الحسم مع الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي كانت متردية بشكل عميق، و الحسم مع العصبية القبلية المتمثلة في تعدد الآلهة تبعا لتعدد القبائل و العشائر بل و الأفراد عندما يصبح لكل فرد إلهه الذي يسجد له كل صباح و كل مساء و الحسم مع الصراع بين القبائل المختلفة و تشجيع الحرية، و تحرير المستعبدين بكافة الأشكال و في كل المناسبات، و الحسم مع إلغاء كيان المرأة التي أصبحت تساوي الرجل إلا فيما اقتضته طبيعتها البيولوجية و أصبحت ترث بدل أن تورث كما كان يحصل. و في هذا الإطار نجد قول الرسول في عائشة “اتقوا هذه الحميرى فإنها نصف دينكم” و هذه القولة إذا كانت تعكس شيئا فإنها تعكس مدى تقدم المرأة على الرجل في مجالات معينة.
و أنواع الحسم التي أشرنا إليها لا تعني إلا إعلان القطيعة مع الماضي على جميع المستويات. و هو ما تم التعبير عنه بالقول (الإسلام يجب ما قبله). و الحسم لا يعني إلا بناء الحاضر على أسس جديدة استعدادا لمواجهة المستقبل بكل طموحاته و متطلباته و مشاكله التي لا حدود لها من اجل إنسان متحرر ملتزم بقواعد المعاملة التي تقتضي احترام كرامة الإنسان.
2) و من الأدوار التي لعبها الإسلام بعد ظهوره القضاء على التمزق الذي ساد بين العرب في الجزيرة العربية بسبب استجابة قبائل مختلفة إلى الدعوة إلى اعتناق الإسلام و الإيمان به كمدخل لتجاوز الوضعية التي كان عليها العرب في جاهليتهم. لأن اعتناق الدين الإسلامي احدث تحولا في عقيدتهم و تفكيرهم. فممارستهم اليومية الفردية و الجماعية جاءت نتيجة لتشبعهم بالقيم و المثل الجديدة التي تشدهم إلى الوحدة على أساس الانتماء القبلي و العرقي، بل على أساس العقيدة الإسلامية التي جعلت العرب يكتشفون وحدتهم و قوتهم و قدرتهم على إبداع حضارة جديدة دأبت في بنيتها كل الحضارات التي كانت قائمة حتى ذلك الوقت.
و من نتائج الوحدة العربية التي كان وراءها اعتناق العرب للدين الإسلامي وقيام الدولة العربية التي توسعت لتحكم من المحيط إلى الخليج انطلاقا من دولة الخلفاء الراشدين، و مرورا بدولة الأمويين و العباسيين، و قيام دولة الأدارسة في المغرب ودولة الأمويين بالأندلس و انتهاء بقيام مجموعة من الدول المتفرعة عن الدولة العباسية.
و لولا اعتناق العقيدة الإسلامية و تشبع العرب بقيم الإسلام ما كانت تلك الوحدة، و ما كان توسع الخريطة العربية كما نراها اليوم، و لولا انحراف التأويلات عن المقاصد الحقيقية للكتاب و السنة ما ظهرت تيارات المتنبئين الجدد التي لازالت تقود عملية ادلجة الدين الإسلامي إلى يومنا هذا، و ما ضعف العرب و تحولوا إلى أقطار تعادي بعضها كما كانت تفعل القبائل قبل الإسلام.
فهل يستطيع الدين الإسلامي أن يوحد العرب كما فعل من قبل ؟ أم أن شروطا أخرى قد تدخلت لتبقى الجسد العربي ممزقا ؟
3) و حتى تتجسد الوحدة العربية و تتم المحافظة على تلك الوحدة، لابد من قيام كيان عربي تأسس بعد وفاة الرسول (ص) الذي لا يمكن اعتباره مؤسسا للدولة العربية بقدر ما هو رسول الله تعالى، و هذا ما يمكن أن نفهمه من خطبته في حجة الوداع التي تضمنت آخر آية نزلت من عند الله “اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا”.
4) ففي اجتماع السقيفة تمت بيعة أبي بكر الصديق ليحمل لقب خليفة الرسول (ص) و بعده عمر ابن الخطاب الذي اختار لقب أمير المؤمنين…الخ لتتوالى بعد ذلك الدول المختلفة التي حرصت على وحدة العرب و المسلمين من جهة، و استحضار الدور الذي لعبه و يلعبه الإسلام من جهة أخرى رغم التأويلات المحرفة للنص الديني خدمة لمصالح الحكام و التي اصبح الحكام المستبدون في كل العصور يقتفون أثرها و يعملون على استثمارها لتضليل المحكومين الذين يعانون من الفقر و الظلم و الجوع و المرض و الاستبداد.
5) الانفتاح على غير العرب و على الديانات الأخرى كمظهر من مظاهر نبد التعصب، لأن الإسلام و منذ ظهوره أدرك أن العصبية القبلية يمكن أن تتحول إلى عصبية قومية أو عصبية دينية، و هو ما يتنافى مع حقيقة الإسلام التي وضعت الناس كافة في نفس الكفة ” لا فرق بين عربي و عجمي و لا بين ابيض و اسود إلا بالتقوى” كما تدل على ذلك الآية الكريمة ” يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا” و استعمال أسلوب ( يا أيها الناس) فيه دليل على نبذ التعصب القومي مما يوحي بأن الإسلام لا يسعى إلى وحدة العرب فقط، و إنما إلى وحدة البشرية جمعاء، و في جميع أنحاء العالم على أساس التشبع بالقيم النبيلة التي هي منطلق إنسانية المسلمين، كما لا يمكن أن تتحول إلى عصبية عقائدية. لذلك نجد الإسلام يدعو إلى الحوار بين الديانات كما جاء في الآية الكريمة “يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله، و لا نشرك به شيئا” فجميع الديانات التي تحترم وحدانية الله تعالى مدعوة إلى الحوار فيما بينها.
و محاربة الإسلام للعصبية القبلية، و نبذه لأشكالها ينفي عنه وقوفه وراء إرغام الناس على اعتناقه بحد السيف أو بأي ممارسة تفيد معنى الإرغام. فقد جاء في القرآن الكريم ” ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة، و جادلهم بالتي هي احسن” و قوله تعالى ” و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي احسن” فكأنه تحققت فيه الحاجة المتبادلة بين البشر كما يقول الشاعر :
الناس للناس من بدو و حاضرة بعض لبعض و إن لم يشعروا خدم
6) و لتكتمل الصورة المثلى للإسلام بين المسلمين، و بينهم و بين غيرهم من البشر، نجده يحرص على إقامة العدل بين الناس. و العدل لا يكون كذلك إلا من خلال تجلياته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية باعتبارها وسيلة لتمكين أفراد المجتمع من تحقيق كرامتهم، و حفظها مما يمكن أن يخدشها.
و لا حاجة بنا إلى القول بأن العدالة في تجلياتها المختلفة تعتبر مدخلا للتحلي بالقيم النبيلة التي يحفل بها القرآن الكريم و التي تتحرك كلها في اتجاه بناء الإنسان المثالي/الواقعي كما تصوره الإسلام، و كما يجب أن يكون في الواقع، حيث تتجسد العدالة الاقتصادية بين المسلمين و غيرهم، و العدالة الاجتماعية التي تعبر عن النمو السليم للمجتمع في جميع المجالات. و العدالة الثقافية التي تكرس احترام مختلف المكونات الثقافية للمجتمع، و العدالة المدنية التي تفرض مساواة جميع المواطنين أمام القانون، و العدالة السياسية التي تمكن المواطنين من تقرير مصيرهم الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي. و بذلك نقترب من فهم الإسلام لمعنى العدالة التي اعتبرها مقاربة للتقوى كما جاء في القرآن الكريم ” و أن تعدلوا هو اقرب للتقوى”.
7) و من اجل إتاحة الفرصة أمام انتشار القيم التي يزخر بها الإسلام نجده يحث على الدعوة إلى التشبع بتلك القيم في كل أرجاء الأرض من اجل سيادة الحق، و دحض الباطل، و الدعوة هنا، و كما يدل على ذلك النص القرآني ” ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة” لا تعني إلا بسط المبادئ و الأفكار و القيم باللغة المفهومة بين الناس من اجل معرفتها و استيعابها، و بعد ذلك ” فمن شاء فليومن و من شاء فليكفر”.
و قد يقول قائل بأن الأمر الوارد في قوله تعالى “فاصدع بما تومر و اعرض عن المشركين” يوجب علينا أن نتجند لنشر الدعوة بكل الوسائل بما فيها استعمال السيف –كما يقولون- فنقول له بأن هذا القول رهين بخصوصية المكان، و خصوصية الزمن، و خصوصية الشخص الذي يتلقى الوحي، و خصوصية القوم المخاطبين الذين يدركون جيدا ما جدوى التحول الذي كان ينتظر إحداثه بظهور الإسلام، و لا يمكن أبدا أن ينسحب على جميع العصور حتى لا نقول إن الإسلام انتشر على حد السيف، فالذين استعملوا السيف، استعملوه دفاعا عن الإسلام، و مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي تجندت لمحاربة المسلمين لاعتقادهم انهم يشكلون خطرا عليهم، و هو ما اضطر المسلمين –في إطار دولتهم- للتجند لمحاربة تلك الأنظمة لحماية المسلمين الساعين إلى المحافظة على عقيدتهم.
فالدعوة إلى التشبع بالقيم التي جاءت في القرآن الكريم تفرض فتح الحوار و الإقناع و الاقتناع، و تمرس الناس على التربية على تلك القيم المتوجهة إلى الانغراس في السلوك كتعبير عن انغراسها في الروح، مما يحول دون القيام بانتهاك كرامة الآخر، و دوس حقوقه.
و قد يعترض معترض على ما ذهبنا إليه بقوله تعالى ” و أعدو لهم ما استطعتم من قوة و رباط الخيل”، فنرد عليه بأن القرآن هنا يتوجه إلى المسلمين الذين يجب أن يحرصوا على قوة دولتهم التي تقوم بحمايتهم من دوس الأنظمة الفاسدة، و توفير شروط الدعوة السليمة بالقول و الفعل قبل اللجوء إلى القوة.
8) و أهم ما يمكن أن نستنتجه من ظهور الإسلام هو شعور العرب بوحدتهم التي أشعرتهم بقوتهم و حاجتهم إلى بناء دولتهم على المستوى الإداري و القانوني و هو ما شرعت فيه دولة الخلفاء الراشدين، و تبعهم في ذلك الأمويون و العباسيون عن طريق الاستفادة مما وصل إليه الآخرون في الدول المجاورة. فإنشاء الدواوين في عهد عمر يأتي في هذا الإطار بالإضافة إلى إنشاء أجهزة الدولة المختلفة و خاصة الجيش و الشرطة لحماية الدولة من الهجومات الخارجية و لحماية أمن المواطنين بالإضافة إلى جهاز القضاء الذي عليه أن يلعب دورا في تكريس العدل بين الناس. أما على المستوى الاقتصادي فإن التنظيم استهدف بيت مال المسلمين الذي يجب ضبط موارده و مصارفه لحماية دولة المسلمين من الانهيار المالي.
و بناء الدولة هنا ليس لأن الإسلام جاء لتأسيس دولة إسلامية كما يعتقد المتنبئون الجدد، بل لأن توحد العرب و المسلمين في إطار العقيدة اقتضى وجود دولة تحمي مصالحهم، و بالخصوص مصالح الطبقة الحاكمة في المجتمع العربي، و باقي المجتمعات التي اعتنق أفرادها الدين الإسلامي حتى لا نلصق بالإسلام شيئا ليس منه، و حتى يبقى عقيدة لجميع المسلمين.
9) و من أهم أدوار العقيدة الإسلامية الدعوة إلى استخدام العقل التي يمكن أن تحمل في ثناياها الدعوة إلى التحرر من التبعية للأفكار الجاهزة في ذلك الوقت، و التي أوجزها القرآن في قوله تعالى ” إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على ءاثارهم مقتدون” و قوله ” انا وجدنا ءاباءنا على امة و انا على ءاثارهم مهتدون”. و الأمة هنا توحي باعتماد الأفكار الجاهزة التي يمكن أن تتناقض مع واقع المسلمين الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي. و لذلك فالدعوة إلى استخدام العقل تهدف إلى تغيير نمط التفكير القائم على التبعية للأفكار الجاهزة، مما يترتب عنه تغيير سلوك الأفراد و الجماعات، و على جميع المستويات، مما يحدث تطورا في واقع المسلمين، فيلجأون إلى الاستفادة من المعارف القديمة التي تقف وراء إنتاج مختلف المعارف التي أبدعها و أنتجها المسلمون في جميع المجالات التي كانت أساسا لمختلف المعارف التي ازدهرت في مختلف أرجاء الأرض، و التي لا يمكن وصفها لا بالشرقية و لا بالغربية.
10) الحرص على تكريم الإنسان الذي يمكن اعتباره جوهر العقيدة الإسلامية، و الهدف المركزي من وراء الدعوة إلى اعتناقها. و قد نص القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى “و لقد كرمنا بني ءادم” و التوكيد المضاعف في هذا التعبير اكبر دليل على مركزية الهدف. و الذين يقولون : إن الإنسان خلق لاخلاص العبادة لله تقتضي أن يكون العابد مكرما، و تكريمه في تحريره و تحرره من التبعية لغير الله، و تمتيعه و تمتعه بحقوقه الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و تمكينه إلى جانب أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه من سيادته على أرضه.
فالحرص على تكريم الإنسان أنى كان جنسه أو لونه أو عرقه أو لغته، هو أهم ما يميز عقيدة المسلمين. لذلك نجد أن تسارع الفقراء و المستضعفين إلى اعتناق الدين الإسلامي بعد ظهوره مباشرة و تصميمهم على الصبر و الثبات عليه، و تحمل ما مارسه كبراء قريش عليهم، لا يمكن اعتباره إلا دليلا على فهم المسلمين الأوائل لحقيقة الإسلام الذي جاء ليحقق كرامة الإنسان، و ليحفظها حتى يكون المسلم المومن قويا بعقيدته و بإيمانه، و حفظ كرامته، فتكون عبادته خالصة لله. و كما جاء في الحديث “المومن القوي افضل عند الله من المومن الضعيف”
و العبادة التي تتسم بالدروشة، و الضعف، و الحاجة، و الشعور بإهدار الكرامة لا يمكن أبدا وصفها إلا بالاستجداء الذي نسميه استجداء عينة من البشر الذين يتمكنون من الرقاب و العباد. و الإنسان عندما يستجدي لا يعبد الله، و إنما يطلب الإغاثة التي يمكن أن تأتي على يد البشر. فالعبادة تحرر، و تحرر الإنسان مما هو آت، و تربطه بما هو أزلي. فما هو آت ينتزع من المستغلين و المستبدين بالمجمتع عن طريق النضالات المطلبية، و هذا هو الفهم الذي كان في ذهن عمر ابن الخطاب الذي قال قولته المشهورة “إن السماء لا تمطر ذهبا و لا فضة” و هو ما يفيده الحديث الشريف “لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب على ظهره فيبيعه خير له من أن يسأل الناس سواء أعطوه أو منعوه” و هو ما يمكن تلخيصه في القول بأن كرامة الإنسان تتحقق بالعمل، و بالنضال المطلبي، و ليس بالاستجداء الذي لا يعطينا إلا شعبا من الدراويش.
أما العبادة فهي في عمقها تعبير عن شكر الله على تأهيل الإنسان للوعي بحقوقه. و النضال من اجل التمتع بها و انتزاعها و الحرص في معاملاته على إرضاء الله تعالى في السراء و الضراء عن طريق تجنب القيام بما يمكن أن يؤدي إلى إهدار كرامة الآخرين.
و بذلك نصل إلى أن تأكيد حفظ كرامة الإنسان أهم ما يحرص عليه الإسلام على مستوى الشريعة. و يمكننا التأكيد على ذلك عن طريق تتبع ما ورد في القرآن الكريم إذا تجنبنا التأويلات الأيديولوجية المغرضة.
11) تنظيم العلاقة بين الإنسان و خالقه، لأن هذا التنظيم لو ترك للبشر لتحول الإسلام إلى دين للرهبانية، و نحن نعرف أن لا رهبانية في الإسلام. لذلك تولى الله تعالى تنظيم هذه العلاقة بينه و بين عباده الأحرار من التبعية لغيره. فتنظيم العبادات و تحديدها في الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج بعد النطق بالشهادتين لم يوكله لبشر، بل اكتفى فقط، بتنزيل الوحي على رسوله محمد (ص) ليبين للناس كيفية القيام بهذه العبادات، و بعده يتعلمها المسلمون من جملة ما يتعلمون من أمور دينهم و دنياهم ثم يتركون لشأنهم، و ما يقوم به بعض المتنبئين الجدد من مدعي احتكار المعرفة الدينية يدخل ضمن تكريس محاكم التفتيش التي عرفتها كنائس القرون الوسطى. و هو ما يتنافى مع الحرية التي جاء بها الإسلام، و التي هي الأصل في الإنسان ” متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”. و الله تعالى عندما تولى توحيد العبادات و تنظيمها يعلم انه قد يظهر من بين المسلمين من ينصب نفسه رهبانيا و يفرض وصايته على الإسلام. لذلك فهو يحررنا من الانشغال بالعبادة، و أنواعها و كيفيتها بتحديد شعائرها، و ترك أمر القيام بها للمسلم، و درجة إيمانه و قدرته على الالتزام بتلك الشعائر. و اكثر من هذا جعل التحلي بالقيم النبيلة التي تكرس احترام كرامة الإنسان من عمق الدين الإسلامي “الدين النصيحة” و “الدين المعاملة” كما جاء في الحديث.
فالعبادة في الإسلام و الحرية صنوان، و من يرى غير ذلك يسعى إلى ادلجة الدين الإسلامي ليتحول على يديه إلى أيديولوجية قمعية، و هو عمل ينبذه الإسلام، و يتنافى مع حقيقته.
12) تنظيم العلاقة بين البشر في أمور معينة تهدف إلى حفظ الإنسان، و تحديد نسب الإرث، و العلاقات العامة، و الزواج، و الطلاق، و النفقة و كل ما له علاقة بالتربية الروحية و الخلقية.
و تنظيم من هذا النوع لا يمكن أبدا أن يهدف إلى فرض نمطية معينة على حياة المسلمين بقدر ما يهدف إلى جعلهم غير منشغلين بالعديد من القضايا التي تحدث في كل لحظة تقريبا حتى يتفرغ المسلمون إلى الانشغال بالقضايا الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية الكبرى التي ينطبق عليها قوله تعالى ” و أمرهم شورى بينهم”.
فالتفرع إلى الانشغال بالقضايا الكبرى لا يكون إلا عبر مؤسسات متفرغة للبحث فيها من اجل الوصول إلى خلاصات ترفع من قيمة المسلمين، و تؤهلهم للعمل في أفق إحداث تطور نوعي في مختلف المجالات إذا تم تجاوز عوامل الكبح التي تفرضها ادلجة الدين الإسلامي، و أطلقت الحريات العامة و الفردية، و تأهل الإنسان المسلم إلى استخدام عقله في المجالات لاستكشاف آفاق التجاوز و التطور، و إنضاج شروط الإبداع المعرفي بصفة عامة، و العلمي بصفة خاصة.
أما إذا لم يكن هناك حسم في الأمور التي تحدث في كل لحظة تقريبا فإن المسلمين سينشغلون بها عن التفكير في القضايا الكبرى مما يفرض تخلفهم المستمر، و يضعف مستوى وعيهم بالقضايا الكبرى و هو ما يؤهلهم لقبول الاستبداد الممارس عليهم، و لذلك كان الحسم في العديد من العلاقات بين البشر رحمة بالمسلمين، و توفير الوقت و الجهد الذي يجب أن يصرف في أمور أهم تفيد مجموع أفراد المجتمع الذين يعانون في معظم بلاد المسلمين من الظلم و القهر و الاستعباد كأسس لتكريس الاستبداد على المسلمين.
أما دور الماركسية فيمكن اختصاره في :
1) الكشف عن بشاعة النظام الرأسمالي الذي لا يهتم إلا بتوسيع هامش الربح على حساب العمال بصفة خاصة، و سائر الكادحين بصفة عامة. و هو ما يؤدي إلى انتشار الأمراض الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية التي تكشف عن بشاعة هذا النظام سواء تعلق الأمر بالمركز أو بالأطراف حسب تعبير سمير أمين.
فانتشار الأمراض المختلفة في المجتمعات المحكومة بالنظام الرأسمالي المؤدي إلى تكريس المزيد من الاستغلال الذي كان يعتبر قبل ظهور الماركسية قدرا من عند الله لا مفر منه، و لا يمكن للعمال و الفلاحين و سائر الكادحين إلا الإذعان له حتى لا يعتبرون مخالفين لارادة الله، فيؤدي ذلك إلى اتخاذ الإجراءات القمعية المختلفة التي تباركها المؤسسة الدينية التي تخدم مصالح المتنبئين الجدد في جميع الديانات.
و قد بينت الماركسية بشأن الاستغلال الاقتصادي بواسطة اكتشاف قانون القيمة و فائض القيمة التي تبين حجم الأرباح التي تذهب إلى جيوب المستغلين، و مدى الحرمان الذي يعاني منه العمال الكادحون.
2) و نظرا لكون البورجوازية في النظام الرأسمالي هي المستفيد الأول، فإنها تسخر كل إمكانياتها المادية و السلطوية لتعميق استغلال العمال الذي لا يزيد المجتمع إلا بؤسا، و يرفع البورجوازية إلى مستوى التخمة.
فشراهة هذه الطبقة البورجوازية المستغلة تدفعها إلى توظيف الأجهزة الإدارية و القضائية و التشريعية لتكريس قمع العمال لجعلهم يذعنون للاستغلال الاقتصادي، و تعرضهم للطرد و التشريد و المحاكمات في حالة مطالبتهم بحقوقهم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و رفع شعار “دعه يعمل دعه يمر” الليبرالي لا يهدف إلا إلى فرض الاستغلال الذي يعتبر تعبيرا عن “ذكاء” البورجوازية، و هو ذكاء يشبه إلى حد كبير ذكاء الحيوانات المفترسة في الغابة. و لذلك فهي توظفه لجعل كل الأجهزة القمعية في خدمة مصالحها الطبقية التي لا حدود لها ابتداء بالسلطة التنفيذية، و مرورا بالسلطة التشريعية و انتهاء بالسلطة القضائية، فكل السلط تكون في خدمة البورجوازية و مؤسساتها الاستغلالية المختلفة منذ قيام الثورة الفرنسية إلى يومنا هذا.
3) الكشف عن التناقضات القائمة بين شعارات البورجوازية و ممارستها، ففي الوقت الذي يدعي فيه البورجوازيون أن نظامهم الرأسمالي يحترم حقوق الإنسان، نجد هؤلاء البورجوازيين أول من ينتهك الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية لتناقض تلك الحقوق مع مصالحهم الطبقية، فيعاني العمال في ظل النظام الرأسمالي من كافة أشكال الجهل و المرض، و الفقر، و الاستعباد، و لم يتمكن العمال من ضمان التمتع ببعض الحقوق إلا بعد كفاحات مريرة، و تقديم تضحيات كبيرة، كما انه في الوقت الذي يدعي فيه النظام الرأسمالي انه جاء ليحقق الحرية نجد أن هذه الحرية لا تتجاوز مجرد إطلاق يد الرأسماليين في الاستغلال البشع للكادحين وفق قاعدة “دعه يعمل دعم يمر”.
و الماركسية عندما تكشف عن التناقضات القائمة بين القول و العمل، و بين النظرية و الممارسة في النظام الرأسمالي تكون قد قدمت إنجازا عظيما في التاريخ البشري. و هي بذلك لا تتوانى عن تعميق التناقضات من اجل تأزيم النظام الرأسمالي وصولا إلى إقناع الطبقة العاملة، و حلفائها و سائر الكادحين بعدم نجاعة هذا النظام، و النضال من اجل تحقيق النظام البديل.
4) تحسيس الطبقة العاملة بأهميتها في عملية الإنتاج نظرا لأن التضليل الذي يقوم به البورجوازيون يجعل الشغيلة تعتقد أن عملها هو منحة من البورجوازية، و ليس ضرورة موضوعية كما هو سائد في العديد من مناطق العالم. و دور الماركسية يكمن في إزالة الغشاوة عن أعين الطبقة العاملة، و جعلها تدرك أهمية عملها و ضرورته في عملية الإنتاج، و انه لا يكون هناك إنتاج بدون ذلك العمل.
و إن أهم ما يجعل البورجوازية تزداد استفادة في النظام الرأسمالي هو التضليل الأيديولوجي المسلط على الطبقة العاملة، و سائر الكادحين من اجل تأبيد النظام الرأسمالي، و الاستماتة في خدمته لتأبيد سيطرته. و أهم ما قامت به الماركسية هو الكشف عن ذلك التضليل الإيديولوجي و تشريحه و الكشف عن تناقضاته، و أثره على الطبقة العاملة، و سائر الكادحين و بيان خطورته على مستقبلهم، و وضع أيديولوجية بديل تجعل الطبقة العاملة و حلفاءها يمتلكون وعيهم الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي باعتبار ذلك الوعي مدخلا لممارسة الصراع الحقيقي ضد البورجوازية، و ضد النظام الرأسمالي في جميع طبعات المركز و المحيط.
5) و للوصول إلى ذلك لابد من قيام الماركسية بنقض الفكر الرأسمالي و تأسيس فكر الطبقة العاملة، و هو أهم ما أنجزته الماركسية بامتياز و لازالت تقوم به. فمن استفادتها من الإبداعات العلمية المتطورة، و من الفلسفة البورجوازية نفسها قامت الماركسية بوضع منهج للتحليل و التفكير يمكنها من دراسة التناقضات القائمة في الأنظمة الاقتصادية ما قبل الرأسمالية، و انتهاء بالنظام الرأسمالي وصولا إلى الكشف عن قوانين تطور المجتمع و انتقاله من نظام اقتصادي إلى نظام اقتصادي أعلى وصولا إلى النظام الاشتراكي الذي تسود في إطاره العدالة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
فنقض الفكر الرأسمالي يعتبر حجر الأساس الذي قامت عليه الماركسية لأنه لولا ظهور الرأسمالية ما كان هناك فكر رأسمالي و ما وجد من ينتقد ذلك الفكر، و ينقضه، و مادام الأمر كذلك فعملية النقض تلك تعتبر ضرورة تاريخية بامتياز تلازم الرأسمالية و تتطور بتطورها، إلى أن تقضي عليها. و هذا التلازم الذي بدخل ضمن ضرورة الرأسمالية و الماركسية سيكون محكوما بالاستفادة المتبادلة من التطور الذي يحصل في بنية النظام الرأسمالي، و من الإبداعات الماركسية في نفس الوقت، و لكنها الاستفادة المحكومة بقانون النفي، و هو ما يثبت بطلان مقولة نهاية التاريخ التي ابدعتها الرأسمالية في تجددها بسبب استفادتها من الأزمة التي يعيشها النظام الاشتراكي. و انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي كقلعة للاشتراكية، لتعتبر أن النظام الرأسمالي سيبقى قائما و إلى الأبد. و لولا تصدي الماركسية لهذا النوع من الفكر لأصبحت تلك النظرية كتقليعة رأسمالية جديدة بمثابة قرآن منزل من السماء. و لكنها الماركسية بمنهجها الاشتراكي العلمي تصدت لهذه النظرية، و كشفت عن بطلانها و ستنقض كل نظرية رأسمالية كيفما كانت قوتها و عليها فقط أن تجدد نفسها كما تجدد الرأسمالية نفسها.
6) و لتحقيق ذلك التجدد لابد من دور آخر للماركسية يكمن في الاستفادة من العلوم، و تطور تلك العلوم لصالح تطور و تطوير قوانين الاشتراكية العلمية درءا للجمود الذي أصابها و جعلها عاجزة مرحليا عن الكشف عن التناقضات التي لازمت تطور النظام الرأسمالي في جميع المجالات.
فاستفادة الماركسية من تطور العلوم يدخل في سيرورتها و صيرورتها، و يعتبر خاصية أساسية ملازمة لها لاعتبار واحد و هو أن الماركسية تومن بأن لا شيء ثابت في الوجود المادي، و مادامت كذلك فإن الماركسية نفسها تتطور و إلا فإنها ستصاب بالجمود الذي أدى إلى تحلل نظامها و انهياره فيما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي الذي كان محكوما بما عرف بالجمود “العقائدي” الذي جعل الماركسية و الاشتراكية غلافا لصعود طبقة انقضت على النظام الاشتراكي، و حولته إلى نظام رأسمالي هجين يعاني من مختلف الأمراض الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و ما وقع في الاتحاد السوفياتي يعتبر اكبر دليل على ضرورة تجدد الماركسية من خلال تعامل الماركسيين معها على أنها تتجدد باستمرار، و أن حياتها في تجددها، و أنها لا تعيش و لا تستمر إلا باستفادتها من تطور العلوم و الآداب و المعارف المختلفة لمواجهة التحديات الكبرى التي تطرح أمامها و خاصة عندما يتعلق الأمر بتحديات العولمة التي تفرض إعادة النظر في المقولات الماركسية التقليدية، و العمل على تطور قوانين التحليل العلمي للماركسية التي تحولت في مرحلة الجمود العقائدي إلى كتاب مقدس يستظهره الماركسيون كما يستظهر أهل الكتاب كتبهم كتعبير عن الانتماء إلى الماركسية بينما نجد أن الممارسة تتناقض مع المقولات الجاهزة نفسها.
7) و أهم دور قامت به الماركسية هو الكشف و لأول مرة في التاريخ البشري عن تمرحل التاريخ، لأنها هي وحدها، و بعد الدراسة المعمقة للتاريخ، و قف مؤسسا الماركسية على تحديد المراحل التاريخية الكبرى عن طريق تطبيق قوانين الدياليكتيك المادي على التاريخ البشري ليجد أن هذا التاريخ مر بمراحل المشاعة و العبودية و الإقطاع و الرأسمالية و الاشتراكية و يهدف إلى الوصول إلى المرحلة الشيوعية التي ينتفي فيها وجود أجهزة الدولة التي يفتقد مبرر وجودها، و ذلك على مستوى التاريخ الأوربي على الأقل. و يمكن أن تختلف مراحل التاريخ البشري عن ذلك في مناطق أخرى إلا أننا مع ذلك الاختلاف سنجد تقاربا في التمرحل، لو وجد من يقوم بالدراسة الهادفة و المتأنية لتاريخ آسيا و إفريقيا و أمريكا إذا تم احترام توظيف القوانين الاشتراكية العلمية، لنقف على مراحل تطور كل قارة على حدة و كل قطر من تلك القارة إلا أن التحريف الذي يلحق الماركسية ادخل الماركسية و الماركسيين في متاهات التحليل الذي يفتقر إلى العملية رغبة في التشويش و سعيا إلى خدمة الطبقات المستفيدة من الأوضاع الاستغلالية القائمة، و تماشيا مع الطبيعة الانتهازية للبورجوازية الصغرى التي تقود عملية ذلك التحريف تجسيدا لنزعتها الانتهازية، و هو ما قاد إلى ظهور اتجاهات لا تحمل من الماركسية إلا الاسم، و تهدف في معظمها إلى التشويش على الماركسية. و لذلك و حتى تلعب الماركسية دورها في القراءة العلمية للتاريخ البشري على المستوى العام، و على المستوى الخاص، لابد من إعادة الاعتبار إلى الماركسية كعلم، و كمنهج و كهدف، بإعادة قراءتها في تطورها قراءة علمية من اجل الوقوف على جوانب التحريف التي لحقتها منذ ظهورها إلى يومنا هذا و بواسطة القوانين العلمية التي أبدعتها الماركسية نفسها لتمكين الماركسيين من استحضار الدور الرائد للتحليل الماركسي في الكشف عن التطور الذي حصل في واقع معين، و القوانين التي تحكمت فيه، وصولا إلى توظيف كل ذلك في عملية التغيير الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي التي أصبحت تراوح مكانها بسبب غياب التحليل العلمي الماركسي.
و ما يدعيه بعض المحللين من أن الماركسية أصبحت متجاوزة يدخل في إطار التحريف الذي ذكرنا، خدمة للرأسمالية التي تسعى بكل الوسائل إلى تأبيد سيطرتها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و موظفة في سبيل ذلك كل الوسائل بما فيها الدفع باتجاهات ماركسوية للتشويش على الماركسية، و باسم الماركسية. كما تدفع باتجاهات اسلاموية معينة للتشويش على حقيقة الإسلام، و باسم الإسلام خدمة للرأسمالية التي افتعلت عن طريق ذلك التوظيف المشبوه صراعا مريرا بين الإسلام و الماركسية. و كأن الرأسمالية تحترم الإسلام و تعتبر جزءا منه في الوقت الذي نجد فيه أن الاستغلال الرأسمالي يتنافى مع العدالة التي دعا إليها الإسلام، تلك العدالة التي لا تتحقق إلا في الآفاق التي تسعى الماركسية إلى تحقيقها.
8) و للوصول إلى تصحيح مسار الماركسية العلمي، تكشف الماركسية الدور الذي يلعبه التنظيم بصفة عامة، و التنظيم الحزبي بصفة خاصة، و الذي يهمنا منه هو تأسيس حزب الطبقة العاملة الذي يتبنى الاشتراكية العلمية كأيديولوجية للطبقة العاملة بناء على أن هذا الحزب هو الذي يعمل على :
أ- نشر الوعي العلمي في المجتمع ككل، باعتبار ذلك الوعي دورا رائدا في تنوير جميع أفراد المجتمع عن طريق إزاحة الفكر الخرافي و الممارسة الخرافية من الواقع الذي يتحرك فيه حزب الطبقة العاملة.
ب- بث الوعي الطبقي في صفوف الطبقة العاملة بصفة خاصة باعتبارها المحرك الرئيسي لدائرة الإنتاج، و في صفوف الكادحين بصفة عامة حتى يدركوا بعمق مصلحتهم الطبقية التي تستلزم وحدتهم و نضالهم من اجل حمايتها و الدفاع عنها. و التناقض القائم بينها و بين المصالح الطبقية للمستغلين سواء كانوا مالكين لوسائل الإنتاج أو منظمين لعملية الإنتاج.
ج- الدفع بالطبقة العاملة و سائر الكادحين إلى الانتظام في مختلف التنظيمات الجماهيرية، و خاصة النقابية و الشبابية من اجل العمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية للجماهير الشعبية الكادحة، و تحسيسها بدور التنظيم في نسج لحمة الوحدة بين الكادحين.
د- العمل على تفعيل التنظيم السياسي الخاص بالطبقة العاملة و سائر الكادحين لتحقيق الأهداف المرحلية و المتجسدة في التحرير و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و الأهداف الاستراتيجية المتمثلة في القضاء على أسس الاستغلال المادي و المعنوي و بناء المجتمع الاشتراكي الذي تؤول فيه ملكية وسائل الإنتاج إلى المجتمع ككل.
ه- المحافظة على الوحدة الأيديولوجية و التنظيمية و السياسية للطبقة العاملة، تلك الوحدة التي تعتبر أساسية و ضرورية للمحافظة على وجود وعي طبقي حقيقي في صفوف الطبقة العاملة و حلفائها و إتاحة الفرصة أمام استفادة الشغيلة من التطور الذي يحصل في المعرفة الفلسفية، و في العلوم و التقنيات من اجل تجديد الفكر و تطوير الممارسة.
9) و حزب الطبقة العاملة هو وحده القادر على قيادة تحالف الكادحين في الاتجاه الصحيح من اجل:
أ- تشريح الاختيارات الرأسمالية أو الرأسمالية التبعية من اجل الكشف عن تناقض تلك الاختيارات مع مصالح الطبقة العاملة، الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية إلى جانب حلفائها الكادحين و بيان مدى عمق الاستغلال الذي يستهدف العمال و سائر الكادحين في إطارها من اجل امتلاك الوعي و بضرورة نقضها و العمل على مناهضتها.
ب- المساهمة في تفعيل النضال الديمقراطي في جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية سعيا إلى فرض ديمقراطية حقيقية من الشعب و إلى الشعب.
ج- جعل الجماهير الشعبية الكادحة تملك وعيها الطبقي لتلتحم فيما بينها و تسعى إلى احترام حقوقها، و فرض احترام تلك الحقوق على المسؤولين و على الطبقة الحاكمة.
د-جعلها تلتحق بالتنظيمات المختلفة النقابية و الجمعوية و الحقوقية من اجل التمرس على وضع الملفات المطلبية و النضال من اجل تحقيق تلك المطالب و بالوسائل المشروعة.
ه- تهيئها لاستيعاب أيديولوجية الطبقة العاملة المعبرة عن مصلحة الكادحين الطبقية، و توظيف تلك الأيديولوجية لمناهضة الأيديولوجيات الإقطاعية و البورجوازيات الإقطاعية و البورجوازية و البورجوازية الصغرى.
و- إعدادها لتبني الموقف السياسي لحزب الطبقة العاملة من مختلف القضايا الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و الدفاع عن ذلك الموقف و الترويج له، و توظيفه لمناهضة مواقف الأحزاب ذات الطابع الإقطاعي و البورجوازي، و البورجوازي الصغير.
ز- الدفع بها في اتجاه الالتحاق بحزب الطبقة العاملة و تعضيده و توطيد صفوفه، و جعله سائدا في الواقع الذي يتحرك فيه حتى يستطيع القدرة على التأثير في الحياة العامة، و في الحياة السياسية و يلعب دوره في جعل الكادحين يقودون عملية التغيير الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي.
ح- و بذلك يكون حزب الطبقة العاملة هو المعبر الفعلي عن إرادة الكادحين، و هو القادر وحده على التوجيه السليم في صفوفهم و الساعي إلى جعلهم حريصين على التحلي بإرادة التغيير الفعلي.
10) و تعمل الماركسية بمنهجها العلمي الدقيق و المتطور على نقض المنطلقات المثالية، و بيان دورها في تكريس تضليل الكادحين و طليعتهم الطبقة العاملة. و نقصد هنا بالمنطلقات المثالية ما يعتمد في تحليل الظواهر الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية مما لا علاقة له بتجليات الواقع الذي يزخر بتلك الظواهر حتى و إن كانت تلك المنطلقات مادية صرفة لأن التحليل الملموس للواقع الملموس يقتضي الانطلاق من معطيات ملموسة لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتكون الظاهرة. و معطيات من هذا النوع لا تكون إلا مادية، و تحليل من هذا النوع سيجنب المحلل الماركسي الوقوع في عملية الإسقاط أو قياس واقع على واقع مخالف، أو نقيض كما ساد في العديد من الأنظمة التي كانت تدعي الاشتراكية أو داخل العديد من الأحزاب التي تدعي تبني الاشتراكية، و النضال من اجلها.
و من المثالية اعتماد نتائج تحليل لنين للواقع الذي عاش فيه لتحليل واقع آخر أو لتطبيق نتائج تحليل لنين على ذلك الواقع الذي يختلف جملة و تفصيلا عن واقع لنين.
و من المثالية الاستهانة بالعلم و نتائجه و اعتماد المنطلقات الخرافية لتحليل الواقع و محاولة فهمه اعتمادا على الفكر الخرافي السائد، ليتحول الواقع بذلك إلى مجرد ظواهر خرافية تقف وراءها كائنات خرافية لا قدرة للبشر على إدراكها.
كما انه من المثالية محاولة فهم الواقع انطلاقا من القناعة الدينية و الفكر الديني فكأن العقائد جاءت لتعطي تفسيرات أبدية للواقع في الوقت الذي يعرف الواقع حركة أبدية متغيرة و متطورة على مستوى الطبيعة و الاقتصاد و الاجتماع و الثقافة و السياسة، و هو ما يقتضي اخذ تلك الحركة بعين الاعتبار بدل اعتماد نظرة الثبات إليها. فالقناعة الدينية تستهدف منظومة القيم الأخلاقية من اجل صقلها و جعلها تسير في اتجاه تحقيق كرامة الإنسان. و هذا الاستهداف لا يمكن أن يكون منطلقا للبحث العلمي الدقيق، و الكشف عن القوانين المتحكمة في الظواهر و عدم اعتماد القناعة الدينية في التحليل العلمي لا يمكن أبدا أن يتناقض مع القناعة الدينية لاعتبارات نذكر منها :
أ- أن العقيدة تتخذ صفة الثبات، و البحث العلمي يتخذ صفة التحول بسبب التطور الذي يعرفه الواقع على جميع المستويات.
ب- أن العقيدة بنصوصها و شعائرها تستهدف صقل الروح و تربيتها و إعدادها لتكريس احترام كرامة الإنسان بينما نجد أن البحث العلمي يستهدف تطوير الواقع المادي الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي.
ج- العقيدة و البحث العلمي يستهدفان معا الرفع من قيمة الإنسان المادية و المعنوية حتى يتبوأ مكانة سامية في هذا الكون و يعيش حياة كريمة تحفظ كرامته، و تفرض عليه السعي إلى المحافظة على تلك الكرامة.
و بذلك تكون الماركسية بموضوعيتها، و بمنهجها العلمي الدقيق وسيلة ناجعة لمعرفة الواقع معرفة علمية دقيقة و إدراك ما يجب عمله لتطوير الواقع تطويرا ينسجم مع يجب أن يكون عليه الإنسان.
و الذين يرفضون المنطلقات المادية الملموسة و يتمسكون بالمنطلقات المثالية إنما يسعون إلى تكريس الاستغلال لخدمة مصالح طبقية معينة تستفيد من اعتماد المنطلقات الدينية حتى يتم اعتبار الاستغلال الممارس على أفراد المجتمع قدرا من عند الله، و الأمر ليس كذلك فالله تعالى لا يكون إلا عادلا و العدل من أسمائه الحسنى، و مادام كذلك فالعدل الذي تسعى إليه الماركسية لا يتناقض مع عدل الله الذي يتضمنه قوله تعالى “و أن تعدلوا هو اقرب للتقوى”.
11) اكتشاف المنطلقات العلمية الذي يعتبر إبداعا ماركسيا بامتياز لتأسيس فكر اشتراكي علمي حقيقي. فإن الفكر الاشتراكي العلمي ليس مجرد وهم، انه المقولات و القوانين المكونة لمنهج التحليل العلمي التي نرى انه لابد فيها من :
أ- مادية الواقع المتجسدة في الواقع نفسه، و بمختلف مكوناته الروحية و المادية بمظاهر طبيعته و بمجتمعه، و بقوانينه الطبيعة الاجتماعية، بتراثه الحضاري و ما يزخر به من علوم و آداب و ثقافة، و بعاداته و تقاليده و أعرافه، بكل تحولاته التي لا ترى بالعين المجردة.
ب- القوانين الطبيعية التي اكتشفها و يكتشفها العلم الحديث في كل يوم تقريبا، سواء تعلق الأمر بالطبيعة أو بالمجتمع لأن تلك القوانين المكتشفة تساعد على فهم الواقع في أبعاده المختلفة لأجل توظيف ذلك الفهم في إعادة صياغة الواقع.
ج- الأصل هو الوجود أولا ثم بعد ذلك يأتي التفكير الذي يقود إلى عملية الاستدلال على ذلك بكل الوسائل الممكنة بما فيها الجانب الروحي الذي يشترط فيه الوجود الاجتماعي.
د- التطور الذي يحصل باستمرار في الطبيعة و في المجتمع الذي يخرج عن إرادة الإنسان و يكون محكوما بالقوانين الطبيعية و الاجتماعية و هي قوانين موضوعية لازال الإنسان منشغلا بالبحث عنها. و العمل على اكتشافها موظفا في سبيل ذلك كل الإمكانيات العلمية التي اصبح يتوفر عليها.
و الماركسية لا تتوقف عند حدود تفسير الواقع، و لا تعمل على تغييره بل تسعى إلى التعمق في فهم تلك المنطلقات التي تقود إلى ضبط منهج التحليل العلمي الماركسي الهادف إلى اكتشاف ما يجبه من اجل تغيير الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي، تغييرا يكون في خدمة تحقيق الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية التي تعتبر ركائز لتحقيق كرامة الإنسان التي هي قوام وجوده الاجتماعي.
و بذلك السعي الماركسي يصبح الإنسان حاضرا في عمق الوجود و عاملا باستمرار على حماية وجوده الذي لا يقوى و لا يتوطد إلا بحفظ كرامته في أبعادها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و الحقوقية و المعرفية و العلمية و الروحية، و هي أبعاد ضرورية لوجود الإنسان أولا، و لحفظ كرامته ثانيا.
و هكذا نجد انه في كل تفكير علمي سليم لابد من منطلقات سليمة. و المنطلقات السليمة تحتاج منا إلى التوقف عندها، و هو ما فعلته الماركسية منذ ظهورها، و هو ما تفعله و ستفعله إلى ما لا نهاية. لأن العلم الماركسي هو علم المستقبل، و ليس ما يدعيه علماء المستقبليات الذين تختلف منطلقاتهم، فينتجون فكرا مثاليا لا علاقة له بالعلم. ويساهمون بسبب ذلك في تضليل شرائح عريضة من أفراد المجتمع و هو ما لا يقوى عليه إلا المضللون الذين يسمون أنفسهم مستقبليين.
12) جعل الطبقة العاملة و سائر الكادحين يحملون آمالا في المستقبل بدون حدود، و هو أمر لم يكن قائما قبل ظهور الماركسية. فقد كان السائد هو قبول العمال و الكادحين بما يمارس عليهم من قبل المستغلين من العمال و الكادحين. و الماركسية عندما تقلب الوعي و تعيده إلى طبيعته، إنما تحوله من وعي زائف إلى وعي حقيقي في فكر و وجدان و ممارسة العمال و الكادحين. و لذلك نجد البورجوازيين و الإقطاعيين و كل المستفيدين من الاستغلال يفقدون صوابهم، و يسعون إلى مقاومة الماركسية بكل الوسائل، و يوظفون بالدرجة الأولى الدين الإسلامي و سائر الديانات الأخرى، و يعملون على إنشاء تنظيمات دينية متطرفة للعب هذا الدور، و يخترقون سوق الكتاب و الإعلام السمعي البصري و المكتوب/المقروء، بما يؤدي إلى خلق تيار عام في المجتمعات البشرية يجعل الجماهير الشعبية الكادحة و المقهورة تحارب الماركسية على أنها دعوة إلى الإلحاد، و هو ما يعطي الشرعية للاستغلال و يؤيده، و يعمل على تعميقه باعتباره قدرا، و ليس ممارسة طبقية استغلالية تقود المستفيدين من الاستغلال إلى تعميقه، و اعتبار ذلك أقصى ما وصلت إليه البشرية، أو ما اصبح يعرف بنهاية التاريخ.
و لتحقيق حمولة الآمال في المستقبل في صفوف العمال و باقي الكادحين لابد من :
أ- امتلاك الوعي الطبقي المتمثل بالخصوص في إدراك العلاقة القائمة بين العمال و باقي الكادحين من جهة، و المستغلين من البورجوازيين و الإقطاعيين و سائر المستفيدين من عملية الاستغلال من جهة أخرى، ثم العلاقة القائمة بين العمال و وسائل الإنتاج، و ما يحصل عليه العمال، و ما يذهب إلى جيوب المستغلين.
ب- إدراك أهمية التنظيم على جميع المستويات، و أهمية الانخراط فيه و دوره في تقوية صفوف الكادحين، و فرض احترامهم، و انتزاع مكاسب اقتصادية لصالحهم، لأنه بدون إدراك أهمية التنظيم، لا يحضر في وجدان العمال و في فكرهم، و في ممارستهم الرغبة في التنظيم، و السعي إلى نشأته، و الانخراط فيه.
ج- المساهمة في بناء معرفة مكونات المصلحة الطبقية للعمال و الكادحين عن طريق تكوين ملفات مطلبية و عامة تكون موضوعا للنضال بواسطة الإطارات النقابية و الجمعوية و الحقوقية.
د- وضع برامج للنضال تتناسب مع طبيعة التنظيم الجماهيري الذي ينخرط فيه العمال و الكادحون من اجل انتزاع المزيد من المكاسب لتحسين الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية للعمال و الكادحين.
ه- المساهمة الإيجابية و الفعالة في بناء البرنامج السياسي لحزب الطبقة العاملة، و سائر الكادحين حتى لا يكون ذلك البرنامج مملى من فوق، و حتى يراعى فيه تعبيره عن واقع بعينه. مما يجعل المعنيين به ينخرطون في النضال من اجل تحقيقه في أفق التغيير الشامل للنظام الاستغلالي القائم في مكان ما.
و بالدفع بالعمال في اتجاه امتلاك الوعي الطبقي، و الوعي لا يكون إلا طبقيا، و العمل على اجرأة ذلك الوعي، فإن العمال و سائر الكادحين يحولون اليأس إلى أمل، و الاستسلام إلى مقاومة الاستغلال، و الخضوع للنظام الاستغلالي إلى رفض ذلك النظام، و السعي إلى تغييره بنظام آخر ينتفي فيه الاستغلال.
13) احترام مقومات الشعوب الروحية و الحضارية، لأن تلك المقومات تعتبر شيئا ماديا ملموسا في حياة الشعوب، و لا يمكن أبدا استئصالها و القضاء عليها. و من عملية المنهج العلمي الماركسي الاعتراف بتلك المقومات، و استحضارها في التحليل الملموس للواقع الملموس، و في هذا الإطار لابد أن تستحضر الماركسية معتقدات الشعوب، و دور تلك المعتقدات في تحقيق وحدة كل شعب على حدة. و في العمل على إيجاد علاقات الاحترام بين الشعوب التي تجمعها نفس المعتقدات على اختلاف ألسنتها و ألوانها و انتمائها إلى قارات مختلفة، كالشعوب الإسلامية، و الشعوب المسيحية … و هكذا.
و الماركسية عندما لا تستحضر المقومات الروحية و الحضارية للشعوب المعنية بالتحليل الماركسي تفتقد كونها علمية. و هي بذلك تفقد مبرر وجودها، لأن المقومات المستهدفة بالاعتبار تقود إلى :
أ- استحضار التاريخ الذي عاشه شعب من الشعوب، و ما حصل فيه من تطور اقتصادي، و اجتماعي، و ثقافي، و مدني، و سياسي و ما ترتب عنه من اكتساب مجموعة من المعتقدات. و ما تكون من عادات و تقاليد و أعراف. و اثر كل ذلك على حياة الأفراد و الجماعات و دوره في عملية التحول على المدى المتوسط و البعيد، أو في الجمود الذي تعرفه الحياة.
ب- استحضار المعتقدات السائدة و دورها في تحقيق وحدة الشعب و العوامل التي ساعدت على ذلك، و ما مدى تأثيرها في حياة الناس و توجيه سلوكهم الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي.
ج- استحضار الإبداعات الحضارية التي تربط الشعوب بتاريخها و جعلها تستحضر التاريخ من اجل الاستقواء به أمام الشعوب الأخرى، و الاستعانة به على الحاضر من اجل مستقبل افضل.
د- استحضار مكتشفات الشعوب العلمية، و إبداعاتها في هذا المجال و دور كل ذلك في تكون تراث روحي لدى شعب من الشعوب برفع مستواه إلى صدارة الشعوب المتحضرة.
و باستحضار هذه المكونات الروحية للشعوب تكتسب الماركسية موضوعيتها التي هي الجوهر فيها. و تعرب في نفس الوقت عن عدم عدائها لما هو روحي و عقائدي لتتجاوز بذلك التحريف الذي لحقها، و لتسترجع مكانتها في أوساط الكادحين لأن التحليل المادي للواقع لا يعني أبدا التركيز على الجانب المادي، بل يعني استحضار كل العناصر المكونة لذلك الواقع حتى و إن لم تكن مادية لدورها في توجيه حركة الواقع باعتبارها حركة مادية صرفة، و الحركة لا تكون إلا مادية.
و إذا سلمنا بالفصل بين المثالي و المادي في المنطلقات، فإن ذلك الفصل لا يمتد أبدا إلى مكونات الواقع التي تجمع بين ما هو روحي أو عقائدي الذي يوجد ملازما للمجتمع البشري، و بين مادية ذلك الواقع و في ذلك المجتمع.
انه إذن التحليل الماركسي الذي لا يلغي أي عنصر من عناصر الواقع، و بالتالي فإن نفي أي عنصر سيؤدي إلى عكس ما يهدف إليه التحليل العلمي الصحيح، و يتوصل إلى نتائج قد لا تكون علمية، و هذا هو الخطأ الذي وقع فيه الماركسيون حينما اعتبروا المكونات الروحية و العقائدية لشعب من الشعوب مكونات مثالية، و لا يعتبرونها في التحليل ليتوصلوا بعد ذلك إلى نتائج تؤدي إلى إعلان العداء للماركسية من قبل حاملي المعتقدات المختلفة، و هو ما تعاني منه الماركسية إلى اليوم.
14) عدم التمييز بين الناس على أساس اللون أو العرق أو الدين أو اللغة، لأن العلم الماركسي يرفض ذلك التمييز لاعتبارات نذكر منها :
أ- أن المستهدف بذلك العلم هو الإنسان أنى كان لونه أو جنسه أو لغته أو دينه أو عرقه، فهو الإنسان بخصائص معينة يجب استحضارها في التحليل دون توظيفها في التفريق بين الناس و العمل على استثمارها في تحقيق الوحدة في إطار التنوع.
ب- أن الغاية هي تحقيق كرامة الإنسان كيفما كان، و أنى كان جنسه أو لونه أو عرقه أو دينه.
ج- أن دعم تحقيق الكرامة لا يتم إلا بتمتيعه بحقوقه الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية لأنه بدون تمتيعه بها تبقى كرامته مهدورة.
د- أن حماية تلك الكرامة لا تحصل إلا بتوفير الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية. فالحرية تمكن الإنسان من التعبير عن آلامه و آماله، و طموحاته و تطلعاته الفردية و الجماعية. و الديمقراطية تمكنه من المساهمة في تقرير مصير وطنه الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي. و العدالة الاجتماعية تتيح له فرصة الاستفادة من الخدمات الاجتماعية و من دخل يتناسب مع حاجياته المادية المعنوية.
و هذه الاعتبارات وغيرها توضح لنا إلى أي حد يصير العلم الماركسي وسيلة لتحقيق الوحدة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية بين البشر على مستوى الدولة الواحدة، أو على مستوى مجموعة من الدول أو على المستوى العالمي. و هذه الوحدة في الرؤيا و في التصور و في الممارسة هي أرقى ما يمكن أن يحققه الإنسان، و قد كان العلم الماركسي سباقا إليه من اجل رفع مكانة الإنسان إلى مستوى تحقيق الكرامة الشاملة التي لا تتقيد لا بالدين و لا بالعرق و لا باللغة و لا باللون. و قد حدا حدو العلم الماركسي ما اصبح يعرف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي كان وراء صدور مجموعة من المواثيق الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و مجموعة من المواثيق الدولية المتعقلة بحقوق المرأة و الطفل و العمال و نشطاء حقوق الإنسان. إلا أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و ما تلاه من مواثيق لم يرق إلى التصور الذي أبدعه العلم الماركسي الذي رصد أسباب الانتهاكات الحقوقية الحقيقية، و المتجلية بالخصوص في عدم وضع حد ابدي لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان و بكافة الوسائل الاقتصادية و الاجتماعية و الأيديولوجية و السياسية، و هي وسائل ترتبط أساس بالأنظمة الاستغلالية السائدة.
فالحديث عن حقوق الإنسان في مجتمع يتكرس في إطاره الاستغلال هو مجرد تلميع للنظام الاستغلالي السائد فيه، و إكسابه شرعية الاستمرار في تكريس ذلك الاستغلال.
و لذلك فحقوق الإنسان يجب أن تكون مقرونة بالسعي إلى القضاء على الأنظمة الاستغلالية الهمجية و هو ما يرى العلم الماركسي نجاعته، و سبيلا حقيقيا إلى تحقيق كرامة الإنسان على جميع المستويات.
15) إعطاء مضمون جديد للديمقراطية، قائم على أساس الحرية و العدالة الاجتماعية. فالمضمون الذي كان سائدا عن الديمقراطية هو المضمون الانتخابي وفق قوانين انتخابية قد لا تكون محترمة في معظم الأحيان. و قد يطالها التزوير الذي تشهد به الوقائع في معظم الدول بما فيها الدول التي تدعي أنها قطعت أشواطا بعيدة في هذا الإطار.
أما العلم الماركسي فلا يرى الديمقراطية إلا من المنظور الشمولي الذي يشمل المضامين الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية على مستوى الممارسة اليومية.
فالمضمون الاقتصادي للديمقراطية لا يتحقق إلا بالتوزيع العادل للثروة وفق قاعدة ” لكل حسب حاجته و على كل حسب قدرته” و هي قاعدة لا تستثني أي إنسان من الاستفادة الاقتصادية في حالة وجود عائق مانع من العمل بصفة مؤقتة، أو بصفة دائمة. و هذه الرؤية لكيفية توزيع الدخل تقطع الطريق أمام أمرين اثنين :
الأمر الأول : الاستبداد بالثروة دون سائر مستحقي تلك الثروة كما يحصل في النظام الاستغلالي.
الأمر الثاني : التقاعس عن العمل الواجب حتى تتم الاستفادة من الدخل بشرط أن يكون العمل متناسبا مع المؤهلات التي يتمتع بها الإنسان.
و المضمون الاجتماعي لا يتحقق إلا بتعميم الخدمات الاجتماعية على جميع أفراد المجتمع كالتعليم و الصحة و السكن و التشغيل و كل الخدمات الأخرى لأنه بتلك الخدمات تتحقق إنسانية الإنسان على المديين القريب و البعيد، و بانعدامها يحال الإنسان على الحرمان الجزئي أو الكلي من تلك الخدمات، و هو ما يعتبر مسا بكرامة الإنسان و إهدارا لها.
أما المضمون الثقافي فيعني إتاحة الفرصة أمام المكونات الثقافية من اجل المساهمة في الإثراء الثقافي، و منع قمع أي مكون كيفما كان، ذلك أن القمع يتناقض مع الممارسة الديمقراطية.
وبخصوص المضمون المدني للديمقراطية فيتجسد في المساواة بين الناس بقطع النظر عن جنسهم أو لغتهم أو عرقهم أو لونهم أمام القانون كيفما كان مستواهم المادي أو الأدبي، و مهما كانت مسؤولياتهم الإدارية و السياسية.
و على المستوى السياسي فإن مضمون الديمقراطية يستهدف الحريات العامة، و حرية الانتماء الحزبي و النقابي، و المساهمة في إقرار دستور ديمقراطي، و وضع قوانين انتخابية سليمة، و اكتساب حق الترشيح و التصويت لكل الناس على أساس المساواة و حق تحمل المسؤولية السياسية أنى كان مستواها.
و نظرا لأن العلاقة القائمة بين الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و ما يصطلح على تسميته بالديمقراطية في ظل مجتمع استغلالي تنتفي فيه الحرية و العدالة إنما هو ممارسة تهدف إلى التضليل، و تلميع الأنظمة الاستغلالية الاستبدادية و إكسابها شرعية الاستمرار، و إيهام الناس بصلاحيته. و بذلك تصبح الديمقراطية محرفة عن الهدف من وجودها لتخدم أهدافا لا ديمقراطية في إطار اختيارات لا شعبية، و هو ما يجب التصدي له و تعريته على المستويات القريبة و المتوسطة و البعيدة من اجل إعادة الاعتبار إلى المفهوم الصحيح للديمقراطية الذي لا يتحقق إلا في إطار الربط الجدلي بين الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية التي لا تعني في عمقها إلا تحقيق المجتمع الاشتراكي في نهاية المطاف. و لكن برؤى جديدة، و تصور جديد يعكس حقيقة المنهج الماركسي العلمي، و يأخذ بعين الاعتبار مظاهر التحريف التي لحقت الاشتراكية و المجتمع الاشتراكي الذي لا يكون إلا عادلا و متحررا و ديمقراطيا، و ينبذ الممارسة الدوغمائية التي لا تعني إلا إيجاد مبرر لتكريس استبداد معين، و مصادرة الآراء الأخرى.
16) التعامل مع الواقع باعتباره كيانا متطورا في جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و على مستوى العلوم و الآداب و الفنون، لأن علمية العلم الماركسي تقتضي التعامل مع الأشياء على أنها متحولة باستمرار و هذا التحول يسير في اتجاه التطور :
أ- على المستوى الاقتصادي نجد أن العلم الماركسي أتبث أن المجتمعات البشرية مرت بمراحل اقتصادية رئيسية تتلخص في مراحل المشاعة، و العبودية، و الإقطاع و الرأسمالية ثم الاشتراكية مع اختلاف في المرور من نفس المراحل من منطقة إلى أخرى. نظرا لاختلاف الشروط الموضوعية التي تؤدي إلى إنضاج شروط بروز مراحل معينة أو عدم إنضاجها.
ب- على المستوى الاجتماعي نجد أن المجتمع يرتبط بشكل كبير بالمراحل الاقتصادية المختلفة، فيتطور بتطور الاقتصاد و تتطور تبعا لذلك معارفه، و طرق عيش الناس، و كيفية التفكير و التعامل، مما ينعكس على تطور العادات و التقاليد و الأعراف و القوانين لينتقل الناس من مستوى اجتماعي إلى مستوى آخر مختلف عنه. فالمجتمع المشاعي ليس هو المجتمع العبودي، و ليس هو المجتمع الإقطاعي، و ليس هو المجتمع الرأسمالي، و ليس هو المجتمع الاشتراكي. لأن كل مجتمع يشكل نقلة نوعية عن المرحلة التي سبقته و سيستمر ذلك التطور إلى ما لا نهاية حتى في إطار النظام الواحد فإنه يستمر في التطور حتى يستنفذ مهامه، و يجنح إلى التفسخ لاعطاء نظام آخر.
ج- و على المستوى الثقافي نجد أن الثقافة أيضا تتطور تبعا لتطور أحوال الناس الاقتصادية و الاجتماعية. فالثقافة باعتبارها تعبيرا عن مختلف المقومات التي تحكم سلوك الناس و توجهه، لا يمكن أن تبقى ثابتة، بل تتطور تبعا لتطور المجتمع الذي يعرف تطورا في القيم التي تكون سائدة فيه.
د- و على المستوى المدني، فالنظرة إلى الإنسان تتغير من مرحلة إلى أخرى فهو في مرحلة المشاعة عاش المساواة الطبيعية، و في مرحلة العبودية يفقد جزء مهم المجتمع حريته، و في مرحلة الإقطاع يستعبد الإقطاعيون معظم البشر بواسطة الأرض التي يسيطرون عليها، و في مرحلة الرأسمالية يرغم العمال على بيع قوة عملهم إلى الرأسماليين الذين يملكون وسائل الإنتاج. أما في المرحلة الاشتراكية، فالناس أمام القانون سواء و لا وجود لأي تمييز على أساس جنسي أو عرقي أو لغوي أو ديني لأن أهم ما تقوم به الاشتراكية هو تذويب الفروق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و القومية و الجنسية و اللغوية و الدينية.
ه- و على المستوى السياسي نجد أن الممارسة السياسية في مرحلة المشاعة رهينة بإرادة الطبيعة و في العبودية تصير السلطة المطلقة بيد الأسياد الذين يفعلون ما يشاءون في العبيد دون حسيب أو رقيب و في الإقطاع يكون الأمر بيد الإقطاعيين الذين يتحكمون في كل شيء. و في المرحلة الرأسمالية يكون النظام الرأسمالي ملمعا نفسه بما يسميه بالديمقراطية المنتجة للنظام البرلماني، أما المرحلة الاشتراكية الحقيقية – إذا تحققت- فالذي يسود هو الشعب الذي يستطيع –حينذاك- تقرير مصيره بنفسه.
و تبعا للتطور الذي يحصل في المجال السياسي نجد تطورا آخر يتعلق بالممارسة الأيديولوجية التي تختلف من مرحلة إلى أخرى، كما تختلف حسب تطور و اختلاف الطبقات الاجتماعية.
17) و من أهم ما أنجزه العلم الماركسي اكتشاف أن تاريخ البشرية هو تاريخ الصراع بين الطبقات، و ليس تاريخ الوقائع و الأحداث و السلالات و السلوك و الأنظمة التي حكمت.
و هذا الاكتشاف العلمي في مجال التاريخ يعيد الأمور إلى حقيقتها و يسعى إلى إعادة الاعتبار للطبقات الاجتماعية التي تنسب صراعاتها إلى الأفراد، و هو ما لم يكن واردا في التاريخ حسب المفهوم الماركسي. فالأفراد يمكن أن يلعبوا دورا تاريخيا معينا إلا أن ذلك الدور لا يتجاوز مجرد تجسيد دور الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها ذلك الفرد.
و بناء على هذا الاكتشاف العلمي الماركسي العظيم، فإن تاريخ البشرية ابتدأ بانقسام المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين تسيطر فيه إحداهما على الطبقة الأخرى و تسخر الطبقات الوسطى لخدمة تلك السيطرة و دعمها.
و لذلك لا نجد حديثا وافيا عن مرحلة المشاعة، لأن هذه المرحلة لم تعرف صراعا بين البشر الذين كانوا يشكلون جزءا من الطبيعة و يصارعون ضمنها انطلاقا من حاجتهم إلى الغذاء و الكهوف و الأمن من الحيوانات المفترسة. و هي أمور وظف فيها البشر وسائل بدائية للحصول على حاجتهم، و الدفاع عن أنفسهم، و ضمان استمرار الجنس البشري. و هذه الوسائل تطورت مع مرور الوقت لتصبح وسيلة للسيطرة على مكونات الطبيعة بما فيها جزء مهم من البشر الذين يرغمون على خدمة من يملك وسائل التطور لينقسم المجتمع إلى طبقة الأسياد المالكين لوسائل السيطرة الطبقية، و العبيد الذين لا يملكون أي شيء من ذلك. و نظرا للاستغلال البشع الذي مورس على العبيد في هذه المرحلة فإنهم ينتفضون للخلاص من العبودية و يصارعون من اجل ذلك. و قد أدى صراع العبيد إلى انفراز مرحلة أخرى بعد اكتشاف الزراعة و أهمية الأرض و هذه المرحلة هي مرحلة الإقطاع التي يتحول فيها العبيد إلى اقنان (عبيد الأرض) يخدمون الأرض لصالح الإقطاعيين الذين يملكونها. و عملية استغلال الأرض كانت وراء أبحاث عدة اقتضت تطوير المعارف المختلفة المتعلقة بإنتاج البضائع المستعملة في استغلال الأرض، و هو ما يؤدي إلى حصول تطور في العلوم و الآداب و الثقافة، و هو ما أدى إلى اكتشاف الآلة البخارية التي شكلت ثورة في حياة البشرية لمساهمتها في تطوير وسائل إنتاج البضائع التي أفرزت أهمية العمل في المشاغل التي تحولت فيما بعد إلى معامل تجذب إليها عبيد الأرض الذين كانوا يصارعون من اجل التحرر من الارتباط بالأرض لتأتي بعد ذلك المرحلة الرأسمالية التي ينقسم فيها المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين : طبقة البورجوازيين الذين يملكون وسائل إنتاج البضائع و الطبقة العاملة. و هذه المرحلة التي قامت على رفع شعارات الحرية و الديمقراطية، و حقوق الإنسان في بدايتها، ثم تحولت إلى مرحلة يعاني فيها العمال من همجية الاستغلال الذي يزداد همجية مع مرور الأيام. و بسبب قدرة الرأسمالية على الاستفادة من تطور العلوم و الآداب و الفنون و الثقافة و بسبب قصور الاشتراكيين عن تطوير الفكر الاشتراكي حتى يستطيع استيعاب التحولات المتسارعة في مختلف المجالات، و يوظفها لصالح الفكر الاشتراكي العلمي و النضال من اجل الاشتراكية.
18) اعتبار الواقع المادي أساسا لذلك الصراع، لأن الواقع المادي بتحوله و تطوره هو موضوع الصراع. فهو في مرحلة المشاعة مجرد ملاذ نلجأ إليه للحصول على حاجتنا الضرورية في الأكل و الشرب و المأوى و تلبية الرغبات… و في مرحلة العبودية يتحول إلى رغبة في السيطرة على بعض مكونات الطبيعة بعد اختراع وسائل معينة مكنت جزءا من الناس من اصطياد الحيوانات و تدجينها، و السيطرة على جزء من البشر كعبيد ليكون في خدمة الإنسان.
و في مرحلة الإقطاع تتحول الحاجة إلى الأرض و إلى من يعمل فيها لانتاج الخيرات لصالح الإقطاعيين . و ما يقتضيه ذلك من تطوير للوسائل المستعملة في مجال الزراعة . و هو ما ولد حاجة أخرى إلى صناعات معينة ترتبت عنها الرغبة في تطوير المعرفة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و هو ما انتج لنا ثورة علمية و تقنية انعكست على الإنتاج الصناعي الذي ظهرت أهميته و نجاعته، و هو ما انعكس على تطور الطبقات الاجتماعية لتحل مرحلة أخرى تتناسب مع الواقع الجديد هي المرحلة الرأسمالية التي تتصارع فيها طبقتان رئيسيتان هما : الطبقة البورجوازية و الطبقة العاملة. فالطبقة البورجوازية تحرص على التراكم الرأسمالي. و توظف في سبيل ذلك كل الإمكانيات، و الطبقة العاملة تحرص على التوزيع العادل للخيرات التي تنتجها.
و بذلك نجد أن الواقع المادي المتطور هو موضوع الصراع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي من اجل السيطرة عليه و السعي إلى مضاعفة الاستفادة منه لصالح الطبقة التي تملك أدوات السيطرة الطبقية القمعية و الأيديولوجية لتأبيد سيطرتها على جميع المستويات لاجل استدامة استفادتها.
29) تفنيد الأسس العرقية و الدينية و اللغوية للصراع، و اعتبارها مجرد تحريف للصراع الطبقي الحقيقي لأن الصراع القائم على هذه الأسس هو صراع غير حقيقي. و حتى تتجنب الماركسية صراعا من هذا النوع تعترف بتعدد الأعراق و اللغات و القوميات و الديانات. ذلك التعدد الذي يقوم على أسس موضوعية، و الذي يجب أن يتحول إلى ممارسة أيديولوجية معبرة عن مصلحة طبقية مبطنة.
فالتفاعل بين الأعراق و اللغات و القوميات و الديانات يجب أن يحصل في مناخ ديمقراطي لا توجد فيه أية سيطرة لعرق أو لغة أو قومية أو دين على الباقي. و بالتالي فالصراع الواحد الشرعي هو الصراع الطبقي الذي يعرف عدة مستويات نستعرض منها :
أ- المستوى الاقتصادي الذي يقتضي الصراع من اجل تقليص الفوارق الطبقية و تمكين جميع أفراد المجتمع من الاستفادة من الدخل الوطني.
ب- المستوى الاجتماعي الذي يعرف صراعا من اجل التمتع بحق التعليم و التطبيب و السكن و الشغل بما يتناسب مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
ج- المستوى الثقافي الذي يسمح بتفاعل الثقافات التي يجب أن تتاح لها الفرصة في التفاعل و الاستفادة من مختلف الأدوات الثقافية و من وسائل الإعلام المختلفة على أساس المساواة.
د- المستوى المدني حيث يتم الصراع في هذا الإطار من اجل تحقيق المساواة بين الناس أمام القانون مهما كانت الطبقة التي ينتمون إليها و مهما كانت مسؤولياتهم، و كيفما كان عرقهم أو لغتهم أو جنسيتهم أو دينهم أو قوميتهم. و بتحقيق تلك المساواة على المستوى القانوني و على مستوى الممارسة تتحقق دولة القانون.
ه- المستوى السياسي الذي يجري فيه الصراع من اجل اكتساب حق تقرير المصير على المستوى الدستوري من اجل اكتساب حق التصويت و الترشيح، و وضع قوانين نزاهة الانتخابات الحرة و انتخاب مجالس محلية و جهوية و وطنية.
و هذه المستويات من الصراع التي أتينا على ذكرها تدخل في إطار ما يصطلح على تسميته بالنضال الحقوقي أو النضال الديمقراطي الذي يكتسي صفة الديمومة باعتباره صراعا يوميا و لحظيا و هادفا و لا يتم اللجوء إلى الصراع التناحري إلا في مرحلة معينة قد لا تدعو إليها الضرورة إذا تم احترام الممارسة الصحيحة في الصراع.
30) بيان أن الصراع ليس بين السماء و الأرض بقدر ما هو صراع بين البشر على الأرض. و من اجل فرض نمط معين من الإنتاج لأن ما كان سائدا قبل الماركسية هو اعتقاد الناس أن الصراع القائم يجري بين السماء و الأرض و بين الخير و الشر، و بين الإيمان و الإلحاد. و هذا النوع من الصراع هو مجرد تفسير يبثه المستغلون لتضليل الكادحين، و جعلهم يحملون معتقدات خاطئة حول الصراع. و لما ظهرت الماركسية و وظفت منهجها العلمي كشفت عن حقيقة الصراع، و بيان مدلوله و الوقوف على موضوعه.
و الماركسية عندما قامت بذلك إنما أنزلت الصراع من السماء إلى الأرض و جعلته قائما بين البشر باعتبارهم منقسمين إلى طبقات اجتماعية أصبحت تصنف في خانات اليمين و اليسار و الوسط. و هي بذلك تبعد العقائد المختلفة من الإقحام في الصراع، و تعتبرها قيما سامية تدخل في إطار المعتقدات الإنسانية التي يجب احترامها. إلا إذا تحولت إلى ممارسة إيديولوجية تظهر فيها تلك المعتقدات و كأنها متحيزة إلى المستغلين المالكين لوسائل الإنتاج المستفيدين من تراكم فائض القيمة ضد المستغلين الذين يشغلون تلك الوسائل بأجور قد لا ترتفع إلى مستوى تلبية الحاجيات الضرورية. و الماركسية بذلك تكشف عن مكونات عملية الإنتاج، و العلاقات القائمة فيها و درجة الاستغلال الممارس على المنتجين الحقيقيين و مدى معاناتهم و ما يجب عمله للتقليص من الاستغلال، و آفاق عمل القضاء النهائي على الاستغلال، و ما توصلت إليه الماركسية في هذا الإطار، و بمنهجها العلمي يوضح بشكل دقيق أن الصراع لا يمكن أبدا أن يجري بين السماء و الأرض بقدر ما يجري على الأرض و بين البشر. و بذلك يتحول الصراع من صراع مثالي إلى صراع مادي صرف، محكوم بشروط مادية، و يسعى إلى تحقيق أهداف مادية.
31) بيان افتعال الصراعات العرقية و العقائدية و القومية و اللغوية خدمة للطبقات المستغلة. و هذا الافتعال ليس إلا تعبيرا عن الممارسة الإيديولوجية الهادفة إلى تضليل الشعب و تضليل طليعته الطبقة العاملة. فالطبقة التي تستغل مجموع الشعب الكادح تسعى باستمرار إلى صرفه عن التفكير في مصدر الاستغلال و جعله يعتقد :
أ- أن السيطرة العرقية هي التي تقف وراء تجسيد الصراع بين الأعراق المختلفة التي يتكون منها الشعب فتصبح قبيلة ضد قبيلة مثلا … و هكذا.
ب- أو أن تلك السيطرة تكون لدين على بقية الأديان أو لمذهب على بقية المذاهب في إطار الدين الواحد لتنتشر بذلك الطائفية و يشرع الناس في إذكاء الصراع فيما بينها.
ج- أو أنها تكون لقومية على باقي القوميات الأخرى فيمتد الصراع بين المنتمين إلى قومية معينة ضد قومية أخرى تسود.
د- أو أنها تكون للذين يتكلمون لغة معينة على باقي اللغات الأخرى، فتحتد الصراعات اللغوية بين متكلمي اللغات المختلفة.
و في جميع الأحوال فالصراع هنا غير طبيعي، و غير علمي و غير حقيقي، لأنه ليس صراعا طبقيا، و لأن المستغلين المالكين لوسائل الإنتاج ينتمون إلى مختلف الأعراق، و الأديان، و المذاهب، و القوميات، و اللغات. و لذلك يكون من الضرورة العلمية إتاحة الفرصة لمختلف المكونات من اجل البقاء في المجتمع بشكل طبيعي، و أن يتم تمكينها من وسائل التطوير و التطور على قاعدة احترام وحدة المجتمع و تجنب قيام تنظيمات جماهيرية على أساس عرقي، أو لغوي أو ديني أو قومي نظرا لما يترتب عن ذلك من روح النعرة الطائفية.
و في المقابل فالتنظيمات التي تقوم في المجتمع يجب أن تعبر عن الانتماء الأيديولوجي/الطبقي الذي يوجد في المجتمع ككل، سواء كان ذلك التنظيم مهنيا أو سياسيا. و أن يكون محدد الأهداف في حالة بناء تنظيم جماهيري واضح، و بذلك يحدث تنظيم الصراع بعيدا عن النعرة الطائفية التي تبقى عائقا أمام تطور المجتمعات و الشعوب.
32) بث الوعي العلمي الحقيقي في الفكر و في الممارسة، و الحرص على بث الوعي الحقيقي يعتبر جوهر الممارسة باعتبار ذلك الوعي وسيلة لمناهضة الوعي الزائف الذي يبثه المستغلون في المجتمع، و يعملون على تغلغله بين أفراد المجتمع. و الوعي العلمي لا يكون إلا طبقيا، لأنه يلعب دورا كبيرا في جعل الكادحين، و بالتحليل الملموس للواقع الملموس، يدركون خطورة ما يمارس عليهم من استغلال أيديولوجي و سياسي بالإضافة إلى الاستغلال المادي المترتب عن عدم تمتع الكادحين بمجموعة من الحقوق الاقتصادية التي تسرق لصالح المستغلين.
فالعلم الماركسي لا يكون علما إلا إذا عمل على جعل العلم قائما في وجدان الناس و فكرهم و في ممارستهم. لأنه بالعلم و بالعلم وحده، يتحول المجتمع إلى حامل للوعي الطبقي الذي يؤهل حامليه إلى إدراك أسباب الاستغلال الممارس عليهم. و من يمارسه ؟ و ما الغاية من ممارسة ذلك الاستغلال ؟ و ما طبيعته ؟ و بالبحث المستمر عن الإجابة تتم ممارسة الصراع الفكري و الأيديولوجي و يتعمق الوعي العلمي.
و بذلك يتبين أن دور الماركسية هو دور شمولي لا يدخل في اعتباره الصراع ضد الأديان و القوميات، و الأعراق و اللغات، بقدر ما يسعى إلى إكساب ذلك الصراع بعده الطبقي من اجل جعل الطبقات التي يمارس عليها الاستغلال الاقتصادي و الأيديولوجي و السياسي تقاوم ذلك الاستغلال و تسعى إلى القضاء عليه.
و هكذا نقف على مظاهر دور الإسلام، و دور الماركسية لنصل إلى أن جوهر كل منهما هو حفظ كرامة الإنسان. لكن هل يبقى للإسلام ذلك الدور ؟ و هل يبقى للماركسية دورها ؟ إن ما يمكن أن نسجله هنا هو أن الإسلام استهدف بتحويله إلى أيديولوجية، و الماركسية استهدفت بتحويلها إلى عقيدة.
تحويل الإسلام إلى أيديولوجية ممارسة تحريفية :
إن الشروط التي ظهر فيها الإسلام تقتضي تصحيح المعتقدات الخاطئة التي كانت سائدة بين الناس من قبل و خاصة بين العرب و التي أدت إلى حدوث تمزق في المجتمع يقود إلى حروب طاحنة بين البشر و الغاية من تصحيح المعتقدات الخاطئة هي توحيد العقيدة التي لا تكون إلا صحيحة كمدخل لتوحيد الناس. فتصيبهم الحروب المختلفة و المدمرة و لجعلهم يتفرغون لعملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية.
فتوحيد عبادة الله بظهور الإسلام يعتبر تحولا عظيما في تاريخ البشرية، لأنه ككل نقلة نوعية في اتجاه إخضاع الأمور إلى التحكيم العقلي الذي دعا إليه القرآن الكريم في غير ما آية بما في ذلك العبادات التي جاء فيها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام “فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لا احب الآفلين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء بما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين” فإبراهيم عليه السلام أدرك وحدانية الله و تجرده ” لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار” باستخدام عقله في هذا الكون، و انطلاقا من الشروط التي أحاطت به و وصولا إلى النتيجة المتوخاة.
و في آية أخرى نجد قوله تعالى “لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا” في إشارة إلى تعدد آلهة المشركين قبل الإسلام مما افسد المجتمع العربي في ذلك الوقت و ادخله في حروب مدمرة.
و قد أدى هذا التحول إلى توحيد العرب في نظام عربي واحد و الشروع في توحيد الأقوام المختلفة في ظل الدولة الواحدة التي أنشأها المسلمون و التي حكمت من المحيط الأطلسي إلى حدود الصين، و هو ما ترتب عنه تطور نوعي في الحياة البشرية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و انتج تراكما معرفيا و علميا و حضاريا لازال يعتبر مرجعا إلى يومنا هذا.
و لذلك فتوحيد عبادة الله لا يكون إلا بغاية تمرس البش على التوحد لا على التنمذج و التقولب.فالتوحد يعني مد الجسور بين البشر على اختلاف ألسنتهم و ألوانهم. فقد جاء في القرآن الكريم ” إنا خلقناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا” و التعارف لا يكون إلا بإجراء الحوار بين طرفين مختلفين حول قضية من القضايا وصولا إلى ما يوحد لتجنب الحروب المدمرة.
غير أن ما نراه اليوم تبعا لما حدث في تاريخ الإسلام الذي يسجل تفرق المسلمين إلى فرق متعددة تدعي كل واحدة منها تمثيلها للإسلام و المسلمين. و ما ذلك إلا لاعتبار الإسلام و تأويل نصوصه تعبيرا عن مصلحة كل فرقة تتحول إلى حزب سياسي. فشيعة بني أمية و شيعة علي، و شيعة آل الزبير، و الخوارج كلها فرق/أحزاب يسعى كل منها إلى ربط الإسلام بالسياسة و جعله تعبيرا عن الموقف السياسي لحزب من الأحزاب. لتستمر الفرق/الأحزاب بعد ذلك موظفة الإسلام في مجال السياسة، و هو توظيف يهدف إلى النمذجة و القولبة كما يجري الآن في العديد من البلدان الإسلامية حيث يمكننا بكل سهولة التمييز بين المنتمين إلى الأحزاب المؤدلجة للإسلام من خلال طريقة تعامل الناس و شكل اللحية و نوع ما يوضع على الرأس تماما كما يتميز المنتمون إلى التيارات و الأحزاب الدينية الصهيونية و هذه النمذجة و القولبة لا علاقة لها بما جاء به الإسلام الذي يرى ” أن الله لا ينظر إلى صوركم بقدر ما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم”.
و لذلك فتحويل الإسلام إلى ممارسة أيديولوجية ينفي عنه كونه صالحا لكل زمان و مكان، كما ينفي عنه كونه دين الحرية على مستوى المعتقدات المختلفة “لا إكراه في الدين” و دين المساواة ” لا فرق بين عربي و لا عجمي و لا بين ابيض و اسود إلا بالتقوى” و دين الإخاء و التسامح و المحبة ” المومنون و المومنات بعضهم أولياء بعض” –قرآن كريم- و “المومن للمومن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا” –حديث شريف- و دين الحوار ” و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي احسن” – قرآن كريم- لأن الأيديولوجيا تقتضي رفع شعارات نقيضة لما أوردناه من آيات و أحاديث مثل شعار “الإسلام دين و دولة” و شعار “الجهاد” و شعار “الدولة الإسلامية”. لأن هذه الشعارات تقتضي الإقصاء و نفي الآخر، و السعي إلى السيطرة على جهاز الدولة باسم الإسلام، و إدخال الناس في قالب مسلكي معين ينفي التفاعل و التطور و يحرص على النمذجة في المظهر و في المصطلحات المستعملة و في الفكر و في المعاملة و يحول المسلمين إلى جواسيس على بعضهم البعض.
و هذه الممارسة الأيديولوجية التي أنبتتها الفرق الإسلامية منذ مقتل عثمان بن عفان، و لازالت تنبتها إلى يومنا هذا هي ممارسة تحريفية لا علاقة لها بالإسلام و لا بفهمه الصحيح الذي لا يلغي الاختلاف و حق الاختيار و التفاعل مع المستجدات التي تحدث و التي يجب استيعابها من قبل المسلمين.
فماذا نفعل من اجل إسلام غير مؤدلج ؟ إن الجواب على هذا السؤال يقتضي :
1) تكريس الفهم الصحيح للإسلام باعتماد المرجعية الصحيحة : الكتاب و السنة، وكل الكتب التي تثبت نزاهتها العلمية و المعرفية، و تجنبها لادلجة الدين الإسلامي.
2) تصنيف الكتب المؤدلجة للدين الإسلامي ضمن الكتب المحرفة له، العاملة على استغلالها للدين الإسلامي لصالح السياسة أو لصالح ممارسة تحريفية محددة، و التشهير بها، و إنجاز دراسات نقدية لمضامينها من اجل الكشف عن التأويلات التي تروج لها.
3) الحفاظ على المساجد من استغلال مؤدلجي الدين الإسلامي، و الحرص على أن يكون أئمة المساجد على بينة من حقيقة الإسلام، و الحصول على الحد الأدنى من المعرفة الدينية الصحيحة. و العمل على إخضاعهم للمحاسبة القانونية في حالة توظيف المساجد لأغراض مشبوهة.
4) أن تكون مصادر المعرفة الدينية خاضعة لمراقبة هيأة علمية متخصصة ذات وجود مركزي، و جهوي و محلي تراقب ما يمارس في المساجد و المدارس و المعاهد و الكليات التابعة للدولة. و ما يدرس في المدارس المختلفة مما يمس تحريف جوهر الإسلام.
5) منع تكوين جمعيات و أحزاب و نقابات على أساس الانتماء الديني حتى لا تتخذ تلك الإطارات وسيلة لتضليل الناس و استقطابهم لجعلهم يعتقدون بادلجة الدين الإسلامي.
6) منع التمظهر اللصيق بالترهبن المخالف للعادات و التقاليد و الأعراف، و الهادف إلى التأثير على سلوك الناس، و الساعي إلى تكريس شكل معين من ادلجة الدين الإسلامي.
و بذلك نحافظ على العقيدة الإسلامية من التحريف، و نحصنها من الادلجة، و نمكنها من إنجاز دورها في التربية الروحية، و بث القيم النبيلة في صفوف المسلمين.
و للوصول إلى ذلك لابد من تنوير عقول المسلمين و بث أشكال الوعي الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي. لأن إرجاع الأمور إلى أصولها يعتبر وسيلة لتصحيح العقيدة.
فإرجاع حدوث الأفعال إلى الإحساس المادي و إلى العلاقات الاجتماعية بين الناس يزيل التفسير المثالي من أذهان الناس، و يجنبها القول بمرجعية الأحداث و الأقوال إلى قوى غيبية لا نعلمها. و بالتالي تزول الحاجة إلى مدعي معرفة الغيب بإثبات أن التفاعلات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية المصحوبة بتردي أشكال الوعي التي يحل محلها الوعي الزائف.
و لذلك فممارسة ادلجة الدين الإسلامي تعتبر ظاهرة مرضية ترتبط بتعميق الاستغلال الرأسمالي العالمي لأوضاع الكادحين في العالم الذي جاء مصحوبا بمناهضة و محاربة المد الاشتراكي على المستوى العالمي، و توظيف كل الإمكانيات من اجل ذلك، بما فيها توظيف الدين الإسلامي من قبل الذين قدمت لهم الرأسمالية العالمية كل الإمكانيات المادية لأداء دورهم المرحلي لمساعدة الرأسمالية العالمية على محاصرة الاشتراكية على المستوى العالمي حتى لا يتغلغل في صفوف الكادحين بدعوى مواجهة “الإلحاد”.
و لتجاوز هذه الظاهرة المرضية يجب إعادة الاعتبار لدمقرطة المجتمع اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا و مدنيا و سياسيا لأنه بدون الدمقرطة لا يمكن القضاء على الأمراض الناتجة عن الاستغلال الرأسمالي التبعي للشعوب الإسلامية. فدمقرطة المجتمع تمكن الفعاليات الاجتماعية من التمتع بحقوقها و التعبير عن رأيها في كل القضايا التي تهمها و اختيار من يمثلها في كل المؤسسات التمثيلية، وفق برنامج محدد و هادف يسعى إلى وضع حد لمختلف الظواهر المرضية و بدون تلك الدمقرطة يحضر التعلق و التراجع و التدهور المنتج لظاهرة ادلجة الدين الإسلامي، و إقناع الناس بتلك الادلجة و تعبئتهم وراء مؤدلجيهم لتحقيق أهداف طبقية محددة، و ليس نشر الإسلام أو المحافظة عليه أو الدفاع عنه كما يدعي ذلك المتنبئون الجدد.
فما مصير مؤدلجي الدين الإسلامي ؟ من المعلوم أن من وقف وراء ازدهار هؤلاء، و اكتساحهم للشعوب الإسلامية في جميع أرجاء الأرض، و قيادة المسلمين و تعبئتهم لمحاربة المد الاشتراكي، و العمل على نقض الفكر الاشتراكي العلمي، و إتاحة الفرصة أمام التغلغل الرأسمالي التبعي هم الرأسماليون و الرجعيون. و مادام هؤلاء قد حققوا أهداف الرجعية، و الرأسمالية الهمجية العالمية، فإن الرجعية و الرأسمالية العالمية لم تعودا في حاجة إلى مثل هذا التوظيف الإيديولوجي للدين الإسلامي و لا لمؤدلجيه. و بالموازاة مع ذلك أخذت تنكشف معالم الإيديولوجية في فكر و ممارسة المتنبئين الجدد و دورهم في تكريس التخلف الاجتماعي الذي اصبح يتعمق اكثر من أي وقت مضى. و لذلك فمؤدلجو الدين الإسلامي اصبحوا يشكلون عائقا كبيرا أمام التطور الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي بسبب تمسكهم بالشعارات الأيديولوجية التي صاغوها بدعم من الإمبريالية و الرجعية التي لم تعد تطمئن على نفسها من خطر المتنبئين الجدد، و جحافل اتباعهم. و لذلك فإن الرجعية الرأسمالية التابعة و الرأسمالية ستعمل على التخلص منها، و الجماهير الشعبية الكادحة ستتخلص من هيمنة الفكر الإسلامي المؤدلج على عقولها، و سينحصر فقهاء الظلام الذين سيراوحون مكانهم، و لا يجدون سبيلا إلى الامتداد كما كانوا، و سيصبح خطابهم منبوذا لانكشاف ادلجته و لتمسك المسلمين في معظم بقاع الأرض باعتبار الإسلام دين السلام، لا دين الإرهاب. لأن ما يدفع إلى اعتبار الإسلام دين الإرهاب هو تحويله إلى أيديولوجية. و هكذا نجد أن إعادة النظر و كيفية التعامل مع مؤدلجي الدين الإسلامي سيغطي مرحلة بكاملها ليعود الاعتبار إلى دور التنوير الذي يجعل المسلمين بالخصوص يسعون إلى البحث عن السبل التي تقود إلى اندماجهم في المحيط العالمي المتقدم و المنفتح على كل أشكال التطور التي سيلعب الإسلام دورا أساسيا فيها باعتباره صالحا لكل زمان و مكان.
تحويل الماركسية إلى عقيدة ممارسة تحريفية :
و ما قلناه عن تحويل الإسلام إلى أيديولوجية أدى إلى تحريف العقيدة عن أهدافها الحقيقية، يمكن قوله كذلك في الماركسية التي يجب اعتبار تحويلها إلى عقيدة ممارسة تحريفية.
فالأصل في الماركسية أن تكون منهجا للتحليل الملموس للواقع الملموس وصولا إلى معرفته، و استشراف ما يجب عمله لتغييره إلى الأحسن. و هذا المنهج له منطلقات، و قوانين و أهداف يسعى إلى تحقيقها سعيا إلى تغيير الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي بما يخدم مصلحة الكادحين بقيادة الطبقة العاملة، و التغيير لا يكون إلا بإذكاء حدة الصراع الطبقي و العمل على إدارته بما يخدم الطبقة العاملة و حلفائها.
و قد لعب المنهج الماركسي منذ ظهور الماركسية و إلى اليوم دورا كبيرا في جعل الوعي الطبقي يعم الكادحين في هذا العالم و خاصة الطبقة العاملة. فقد اصبح الكادحون بقيادة الطبقة العاملة يدركون عمق الاستغلال الذي يمارس عليهم، و من يستغلهم، و نسبة ما يذهب إلى جيوبهم من فائض قيمة الإنتاج و دور الدولة كأداة للسيطرة الطبقية في قمع الكادحين و إخضاعهم للاستغلال البورجوازي الذي لا يرحم. كما لعب دوره في جعل هؤلاء الكادحين يدركون ما يجب عمله لخوض الصراع ضد المستغلين، و خاصة عندما يتعلق الأمر بتأسيس تنظيمات جماهيرية و حزبية لقيادة خوض الصراع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي من اجل الحد من شراسة الاستغلال على المدى المتوسط، و من اجل وضع حد للاستغلال على المدى البعيد. و هذا ما دعا إلى تأسيس النقابات و الجمعيات، و الأحزاب كأدوات لخوض ذلك الصراع و قيادته.
إلا أن ابتلاء الماركسية و المنهج الماركسي بالوثوقية على يد البيروقراطيين قاد إلى تحويل الماركسية إلى عقيدة تنتج عبادة البيروقراطيين بدل عبادة الله كما يحصل في الديانات السماوية. فالعقيدة الماركسية تقود إلى تقديس النموذج في الفكر، و في الممارسة و في الأشخاص، و هو تقديس لا علاقة له بحقيقة الماركسية بقدر ما له علاقة بالأشخاص الذين تمكنوا من الوصول إلى المراكز العليا للسلطة التي استغلوها لفرض عقيدتهم المنسوبة إلى الماركسية، و فرض كيفية الممارسة السياسية و النقابية و الحزبية و المنظماتية المختلفة و الإيقاع بكل من خالف رأي القيادة الحزبية و السياسية المحلية و المركزية و تصفية كل المخالفين الماركسيين عبر العالم.
فالدوغمائية أو الوثوقية ممارسة قمعية تهدف إلى التخلص من المعارضين الذين يرفضون عبادة الأشخاص، و عبادة النموذج الفكري و الحزبي و النقابي و المنظماتي الذي يعزف على نفس أوتار القائد، و معلوم ما جرته الدوغمائية على الماركسية من خراب، و خاصة عندما حولتها إلى مجرد مقولات لا علاقة لها بالماركسية و بالمنهج الماركسي العلمي.
و قد أدى تحويل الماركسية إلى عقيدة إلى الدخول في عملية ممارسة حق القائد في مصادرة حق الرأي الآخر في التواجد عن طريق توظيف الماركسية نفسها، و أجهزة الدولة القمعية و أجهزة الحزب و النقابة و المنظمات الحزبية في عملية المصادرة من اجل القضاء على كل العقائد الأخرى حتى تبقى العقيدة الماركسية وحدها السائدة بقوة الواقع الناتج عن قوة القمع. و كنتيجة لذلك، و بسبب تعدد الأنظمة الماركسية فقد تعددت العقائد الماركسية التي تختلف منطلقاتها و آفاق عملها لتجد نفسها متصارعة فيما بينها، بل و متناحرة و كل واحدة من تلك العقائد الماركسية تتهم الأخرى بالتحريف الذي لا يمكن تبريره إلا بنفي كون الماركسية عقيدة ، و التعامل معها كمنهج للتحليل العلمي، و السعي إلى تحويل الواقع في اتجاه تحقيق كرامة الإنسان التي لا تتحقق إلا بالقضاء على أشكال الاستغلال المادي و المعنوي، ذلك القضاء الذي لا ينفي حق الإنسان في اختيار العقيدة التي يراها مناسبة له دون أن يرغمه أحد على ذلك.
و كما اعتبرنا تحويل العقيدة الإسلامية إلى أيديولوجية ممارسة تحريفية. نعتبر كذلك تحويل الماركسية إلى عقيدة ممارسة تحريفية أيضا، و هو ما يدعو إلى إعادة قراءة الماركسية و التاريخ الماركسي من اجل الوقوف على أشكال التحريف التي لحقت الماركسية و التي حالت دون استفادتها من التطور العلمي و التكنولوجي و العمل على إزالة تلك الأشكال التحريفية من الفكر الماركسي و إعادة الماركسية إلى اصلها القائم على الانفتاح على العلوم المختلفة، و السعي إلى تطوير مناهجها و الاستفادة من النتائج التي تتوصل إليها، و العمل على تطوير المنهج الماركسي الذي يجب أن يستوعب مختلف المستجدات المنهجية العلمية التي يجب توظيفها و التعامل مع مستجدات الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي من اجل ضبط وتيرة العمل على تغيير الواقع بما يخدم مصلحة الكادحين.
و قد أدى تحويل الماركسية إلى عقيدة : انحسار الاشتراكية و الاشتراكيين، و انهيار الاشتراكية في اعتى معاقلها الاتحاد السوفياتي – و تراجع العديد من الأحزاب عن تبني الاشتراكية العلمية بعد انهيار النموذج المثال/النموذج المقدس و انحسار ما بقي منها على قناعته بالاشتراكية العلمية في تطورها، و تعاطيها مع المستجدات المختلفة، و محاصرتها من قبل الرجعية المتخلفة، و الأجهزة القمعية، و من قبل الأحزاب التي تدعي الديمقراطية و التقدمية المستعدة دائما لارتداء اللباس المناسب في الوقت المناسب للمقام المناسب حتى و إن أدى ذلك إلى التنكر للمبادئ و للتاريخ النضالي لحركة التحرر الوطني و حركة التحرير الشعبية.
و للانفلات من الجمود العقائدي الذي أصيبت به الماركسية لابد من إعادة الاعتبار إلى الديمقراطية بمفهومها العلمي الماركسي التي تعتبر وسيلة وحيدة للكشف عن التناقض القائم في تحويل الماركسية إلى عقيدة، و الخلفية الطبقية التي تحكم ذلك. و سبل تجاوز هذه الظاهرة المرضية التي ابتليت بها الماركسية على يد من يمكن اعتبارهم من كبار الماركسيين و قادتهم كما هو الشأن بالنسبة لجوزيف ستالين.
و تبعا لذلك فقد تحول قادة اعتى دولة اشتراكية في العالم إلى بورجوازيين استغلوا الجمود العقائدي الذي دعوا إلى تجاوزه بما صار يعرف ب”البيروكسترويكا” أو إعادة البناء، و “الغلانزوست” أو الشفافية التي كانت في ظاهرها دعوة إلى دمقرطة المجتمع، و إشراك الناس في كل ذلك و دعوتهم إلى المساهمة في إعادة البناء الاشتراكي، و في باطنها السعي إلى تقويض الدولة الاشتراكية العظمى ليقوم على أنقاضها ما اصبح يعرف بالدول المستقلة التي اتجهت جميعها لتخطب ود الرأسمالية، و تدخل شعوبها في جحيم الفقر و القهر و الجوع و المرض، إلى جانب الاحتفاظ بالرؤوس النووية. جزاءا على هذا العمل نال المحرف غورباتشوف جائزة نوبل للسلام، فاحتفت به وسائل الدعاية الرأسمالية.
و لعل ما يلفت انتباهنا في هذه النازلة هو أن وضع حد لاعتبار الماركسية عقيدة لم يحصل بالطرق العلمية التي يقتضيها البحث الاشتراكي العلمي الذي كان من المفروض أن تشكل له هيئات مختصة لدراسة مرحلة بكاملها، و ما شابهها من تجربة الماركسية في استغلال الدولة التي كانت محسوبة على الاشتراكية لخدمة المصلحة الطبقية لبيروقراطية الدولة و الحزب على السواء من اجل الخروج بخلاصات تترجم إلى إجراءات عملية تساهم في تطوير النظرية الماركسية و الفكر الماركسي و الماركسيين على مستوى الممارسة السياسية. و هو ما لم يتم اللجوء إليه فكانت معالجة ممارسة تحريفية بممارسة قادت إلى التحول في اتجاه الرأسمالية و هو ما يمكن اعتباره اكبر خدمة قدمها التحريفيون إلى الرأسمالية هي نهاية التاريخ.
و لذلك فتجاوز تحويل الماركسية إلى عقيدة يفرض على الاشتراكيين العلميين :
1) تطوير المجتمع الاشتراكي بما يتناسب مع ما وصل إليه العلم الحديث و التكنولوجية الدقيقة و المتطورة التي أصبحت في خدمة العلوم و الآداب و الفنون، حتى يصير المنهج متطورا فعلا في تفاعل مع المناهج العلمية الدقيقة.مما يساعد على تطوير التحليل العلمي للواقع، و الوصول إلى خلاصات تساعد على التغيير الحقيقي للواقع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي أو على وضع برنامج رائد للنضال من اجل التغيير المنشود.
2) و بما أن بناء الأداة النضالية بناءا سليما يعتمد مبادئ المركزية الديمقراطية، و التنظيم الخلوي، و النقد و النقد الذاتي، كما يعتمد أسس بناء الحزب الاشتراكي العلمي المتمثلة في الأساس الأيديولوجي الاشتراكي العلمي، و الأساس التنظيمي الذي يتناسب مع هذه الأيديولوجية و الأساس السياسي المعبر عن القناعة الإيديولوجية الاشتراكية العلمية، لأنه بدون بناء الأداة النضالية الصحيحة نبقى عاجزين عن قيادة النضال من اجل التغيير.
3) قيادة النضال الديمقراطي في إطار جبهة للنضال من اجل الديمقراطية تساهم كل المنظمات التي تسعى إلى تحقيق الديمقراطية في مجتمعاتها وفق برنامج محدد لاستنهاض قطاعات المجتمعات المتخلفة، و إعدادها لامتلاك الوعي المتطور و المتحرك لفرض انتزاع الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و فرض احترامها عبر القوانين المتبعة في جميع المجالات.
4) العمل على اجراء انتخابات حرة و نزيهة بإشراف هيئة محايدة تفرض احترام إرادة الشعوب المقهورة، و تشكيل حكومة من الأغلبية تقوم بتنفيذ البرنامج الذي صوتت الجماهير لصالحه.
5) قيام الهيئات المنتخبة بمراقبة الحكومة، و محاسبتها بالإضافة إلى تشريع القوانين الضرورية لعملية التغيير المنشود و اجرأة المواثيق الدولية من خلال ملاءمة القوانين المحلية معها.
6) قيام الحكومة بإنشاء هيئات مختصة بدراسة القوانين و الوقوف على جوانب القصور فيها، و العمل على تطويرها بملاءمتها مع المواثيق الدولية قبل فرضها على المؤسسة التشريعية. و أخرى مختصة بدراسة الوضعية الاقتصادية، و تحديدها إذا كانت وطنية أو غير وطنية، و هل تستجيب لمتطلبات الشعوب أم لا؟ و هل يصمد الاقتصاد الوطني أمام التقلبات العالمية ؟ و هل هو مؤهل لمنافسة اقتصاديات الدول المتقدمة ؟ و ماذا يجب عمله للوصول إلى بناء اقتصاد وطني متطور و مستفيد مما تحققه اقتصاديات الدول المتقدمة و متحول إلى اقتصاد اشتراكي تكون فيه ملكية وسائل الإنتاج للشعوب ؟ و يتم توزيع الدخل بين الفقراء توزيعا عادلا ؟ و أخرى لدراسة الوضعية الاجتماعية قصد الوقوف على جوانب القصور في التعليم و الصحة. و ماذا يجب عمله لجعل الخدمات الاجتماعية في خدمة الجميع ؟ و أخرى لدراسة الوضعية الثقافية، و ما العمل لإنجاز ثورة ثقافية حقيقية لجعل الناس يمتلكون وعيا ثقافيا متقدما تتم في إطاره إعادة النظر في الهياكل السياسية القائمة في كل بلد على حدة من اجل إزالة مظاهر الاستبداد التي تحول دون ديمقراطية المجتمع، و استبدالها بهياكل ديمقراطية تؤهل الشعوب للقيام بالممارسة الديمقراطية الحقيقية التي تعتبر ضرورية لممارسة الشعوب لسيادتها.
و بذلك تكون الماركسية وسيلة لتثوير المجتمع من اجل أن يختار ما يناسبه على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، بعد أن يمتلك وعيه الحقيقي الذي يقوم الحزب الاشتراكي العلمي بإشاعته بين الناس بواسطة المثقفين الثوريين الذين يتحملون هذه المسؤولية بإخلاص و تفان لا مثيل لهما. و بتحول الماركسية إلى وسيلة لتثوير المجتمعات البشرية يزول عنها كونها عقيدة كما يسعى إلى ذلك بيروقراطيو الأحزاب الماركسية التقليدية.
و بناء على هذا التجاوز، هل تعود الماركسية إلى الواجهة كمنهج و كهدف ؟
إن منظري البورجوازية و البورجوازية الصغرى و المتوسطة يرون أن مجال عودة المنهج الاشتراكي العلمي باعتباره منهجا ماركسيا إلى الواجهة لم يعد واردا لأنه اصبح متجاوزا بحصول القناعة بأن النظام الرأسمالي في ظل العولمة هو آخر ما وصلت إليه البشرية و دليلهم على ذلك هو فشل التجارب الاشتراكية أو شبه الاشتراكية التي كانت حتى الآن، و أن العديد من الأحزاب الاشتراكية تخلت عن ماركسيتها و تحولت إلى أحزاب بورجوازية صغيرة، أو أحزاب بورجوازية، إن لم تعمل على حل نفسها و تراجع كبار الماركسيين في العديد من الدول، و خاصة الدول القائدة في بلاد المسلمين، و إعلان ثوريتهم. و هو دليل لا يرقى أبدا إلى مستوى قول الحقيقة لأن الذي انهار هو التجارب التي تسمي نفسها “اشتراكية”، و الأحزاب التي تخلت عن المنهج الاشتراكي العلمي هي أحزاب البورجوازية الصغرى، و من طبيعة أحزاب من هذا النوع أن تكون تجريبية تستبدل أيديولوجية بأخرى لتحقيق تطلعاتها حتى لا نقول مصلحتها الطبقية. لأن البورجوازية الصغرى تتلون كالحرباء و تتنقل في مواقع مختلفة. و لذلك لا نستغرب إذا وجدناها تتنقل بين الأحزاب، و تغير إيديولوجيتها كما تغير ملابسها. أما الماركسية فتبقى صامدة بالماركسيين الحقيقيين، و متطورة بمساهمتهم المستفيدة مما تبدعه العلوم من مناهج في مختلف المجالات العلمية. و المنهج الماركسي سيعرف تطورا بإبداعات الماركسيين النظرية و العلمية و سيلعب دوره في التحليل الملموس للواقع الملموس انطلاقا مما تقتضيه الرغبة في مقاومة نتائج عولمة اقتصاد السوق، و همجية الرأسمالية، و رغبة الشعوب في التخلص من تلك الهمجية، و النضال من اجل تحقيق الاشتراكية التي ستبقى أمل الشعوب المقهورة كيفما كان التضليل الذي يمارس عليها من قبل الأنظمة الرأسمالية و الأنظمة التابعة شبه الرأسمالية، و شبه الإقطاعية. و ما دام الأمر كذلك فإن عودة المنهج الاشتراكي العلمي إلى الواجهة سيبقى واردا لأن ما يجري الآن في العالم يحتاج إلى فهم علمي دقيق. و ذلك الفهم العلمي لا يتم إلا بالمنهج الاشتراكي العلمي لا بمنهج آخر و لا ينجزه بمناضليه الماركسيين إلا حزب اشتراكي يناضل من اجل الحرية و الديمقراطية و الاشتراكية.
أهداف الإسلام و أهداف الماركسية أو علاقة الالتقاء و الاختلاف :
و للحديث عن أهداف الإسلام و أهداف الماركسية يجب أن نستحضر منذ البداية أن الدين الإسلامي نشأ في ظروف موضوعية تختلف كليا و جزئيا عن الشروط الموضوعية التي نشأت فيها الماركسية. فالدين الإسلامي نشأ في الجزيرة العربية خلال القرن السابع الميلادي و في مجتمع قبلي متخلف، و في ظل سيادة عبادة الأوثان التي لا تتناسب مع عبادة الإنسان لها، و التي جاء الإسلام لنفي عبادتها، و إخلاص العبادة لله وحده بناءا على ما جاء في القرآن الكريم، و السنة الشريفة.
و المجتمع الذي نشأ فيه الدين الإسلامي هو مجتمع عبودي/قبلي/رعوي يعتمد الغنيمة التي تكلف الناس أرواحهم أثناء خوض حروب الكر و الفر كوسيلة اقتصادية للحصول على المتاع و الرقيق. كما يجب أن نستحضر الشروط الموضوعية التي ظهرت فيها الماركسية. فقد نشأت في أوربا و خلال القرن التاسع عشر، و كنتيجة لتفاقم أوضاع الطبقة العاملة بسبب شراسة ما تتعرض له من استغلال، و هذا يعني أنها ظهرت في مجتمع متطور بالقياس إلى ما كانت عليه الجزيرة العربية في القرن السابع. و قد ظهرت الماركسية على يد ماركس و انجلز، و الهدف من ظهورها هو محاربة الاستغلال البشع و الشرس الذي تتعرض له الطبقة العاملة على يد كبار البورجوازيين الذين يملكون وسائل الإنتاج.
و بصفة عامة فالإسلام دين يهدف إلى إخلاص العبادة لله، أما الماركسية فليست دينا، إنها مذهب اقتصادي اجتماعي ثقافي سياسي يهدف إلى تغيير علاقات الإنتاج من علاقات إنتاج رأسمالية في بناء الدولة الرأسمالية، و الرأسمالية التابعة إلى علاقات إنتاج اشتراكية. ثم إن الدين الإسلامي هو دين جميع الناس سواء كانوا رأسماليين أو اشتراكيين، و سواء كانوا شرقيين أو غربيين أو شماليين أو جنوبيين، و يكفي لكي يصبح الإنسان مسلما أن يشهد أن لا اله إلا الله و أن محمدا رسول الله.
أما الماركسية فهي مذهب يحق لجميع الناس أن يقتنعوا به و يسعوا إلى تحقيق الاشتراكية بناء على ذلك الاقتناع الذي لا ينفي الاعتقاد بالدين الإسلامي و لا يحول دون اعتناقه.
الاقتناع بالماركسية معناه الاقتناع بالمنهج الاشتراكي العلمي الذي أبدعه منظرو الاشتراكية ماركس و انجلز و توظيف ذلك المنهج في تحليل الواقع، و الوصول إلى ما يجب فعله لتغييره حتى يصبح في مصلحة الكادحين و طليعتهم الطبقة العاملة.
و انطلاقا من هذا التوضيح يمكن أن نسجل نقط الالتقاء و الاختلاف بين الإسلام و الماركسية مع إخضاع كل نقطة للمناقشة حتى نتبين التمايز الواضح بين الإسلام و الماركسية على مستوى الأهداف ؟
1) فالدين الإسلامي يسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التي نذكر منها :
أ- إخلاص العبادة لله تعالى وحده دون سواه “قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفؤا أحد” لأنه لو لم يسع إلى ذلك ما عرف هذا الإقبال الواسع، و هذا الانتشار السريع كالنار في الهشيم بسبب كون الدعوة إلى توحيد عبادة الله تعالى قد تعد بداية للتحرر من عبادة الأوثان التي تقود إلى تقديس الأشخاص و تأليههم أو احتقارهم و استعبادهم. فتوحيد عبادة الله إذن هي بداية تحرر الإنسان من التبعية. إلا أن هذا التحرر اكتفى بالتحرر من عبادة الأوثان. و ما سوى ذلك يترك لتطور الإنسان على جميع المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. فكلما تطور المجتمع، إلا و نجد أن الإنسان يحصل على مستوى معين من الحرية إلى أن وصلنا إلى المرحلة التي يتحرر فيها الإنسان من التبعية لمالكي وسائل الإنتاج التي تصبح مملوكة للمجتمع بدل الأفراد و يصبح الإنتاج موزعا بين جميع أفراد المجتمع على أساس مبدأ ” على كل حسب قدرته و لكل حسب حاجته” فتوحيد عبادة الله هي بداية انفلات الإنسان من عبودية الأسياد في بداية خلخلة المجتمع العبودي.
ب- احترام العقائد التوحيدية التي تجمعها بالدين الإسلامي عبادة الله تعالى مع الاختلاف في طريقة العبادة انطلاقا من “مبدأ التعدد في خدمة الوحدة”. فاختلاف الرسل و طرق العبادة لا يلغي وحدانية العبادة، و احترام العقائد الأخرى يدخل في إطار انفتاح الإسلام على تلك العقائد و إقراره بحق الإنسان في اختيار العقيدة التي يؤمن بها أو البقاء بدون عقيدة. فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى ” فمن شاء فليومن و من شاء فليكفر”و قوله تعالى ” لا إكراه في الدين” و قوله تعالى “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله” و قوله تعالى ” قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون و لا انتم عابدون ما اعبد و لا أنا عابد ما عبدتم و لا انتم عابدون ما اعبد لكم دينكم و لي دين” و هي أقوال تؤكد كلها موقف الإسلام من حرية العقيدة التي يجب أن تكون سائدة في المجتمع البشري. و هو ما جاءت به المواثيق الدولية عندما يتعلق الأمر بحرية العقيدة و هي خلاف ما يجري في المجتمعات الإسلامية حيث يرغم غير المسلمين على اعتناق الإسلام ، أو يرغمون على اعتناق دين معين إذا كانوا لا يقتنعون به.
ج- تحقيق كرامة الإنسان انطلاقا مما جاء في الكتاب و السنة حيث تختصر كرامة الإنسان في تسخير ما يوجد في الطبيعة لخدمة الإنسان. و قد ورد في القرآن الكريم ما يفيد ذلك و منه قوله تعالى “و لقد كرمنا بني آدم” و قوله تعالى ” و من الثمرات و النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا” هذا بالإضافة إلى سوق مجموعة من الأحكام التي ترفع مكانة الإنسان على جميع الكائنات الأخرى التي ميزه عنها بالعقل و بالكلام و بالقدرة على الاسترجاع و الاستفادة من التجارب السابقة. و من تجارب الآخرين لأجل صياغة تجربة جديدة و متطورة و نوعية ” انا خلقناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم”.
د- بث القيم الإنسانية بين البشر كقيم الخير و الشر، و قيم الجمال و الحب و كل ما يؤدي إلى قيام مجتمع للمسلمين خال من الأمراض التي تسيء إلى كرامة الإنسان. فأول آية نزلت على محمد (ص) “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق” تبين أهمية العلم و المعرفة كقيمتين إنسانيتين و نحن إذا قرأنا القرآن الكريم من أوله إلى آخره نجده يزخر بالقيم الإنسانية النبيلة التي يرى الإسلام تجسيدها في المسلمين و قد جاء في السنة ما يؤكد ذلك و ما يغنيه.
ه- تمتيع الناس بمجموعة من الحقوق التي يقتضيها الاعتقاد بالدين الإسلامي كحقوق الآباء على الأبناء و حقوق الأبناء على الآباء. و حقوق الفقراء على الأغنياء و حقوق الجار و حقوق الصحبة. و قد جاء في هذا الإطار قوله تعالى ” و لا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة” و قوله تعالى “و حمله و فصاله في عامين” و قوله تعالى ” إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و الغارمين وفي سبيل الله و ابن سبيل فريضة من الله” إلى غير ذلك من الآيات و الأحاديث التي تنص على مختلف الحقوق التي يسعى الإسلام من وراء الحرص عليها إلى بث روح التعاضد بين المسلمين بما يضمن سلامة مجتمع المسلمين من التمزق و الانحلال .
و- بناء مجتمع سليم من الأمراض الاجتماعية. و في أفق ذلك حرم السرقة و القمار و شرب الخمر و الدعارة. فقد ورد قوله تعالى ” و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله” و قوله تعالى “يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون” و قوله تعالى ” الزاني و الزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة”. و لكن قبل هذه الصرامة يحرص الإسلام على بث العدل الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي بين الناس فقد قال تعالى ” إن الله يامر بالعدل و الإحسان” إلى آخره.
ز- و الهدف من مجتمع صالح خال من الأمراض المختلفة هو إعداد الإنسان الصالح الذي يعرف حدود الله و لا يتجاوزها، و بناء عليها يحرص على التمتع بحقوقه دون سواها و لا يلحق الأذى بغيره، يقوم بواجبه تجاه الناس، و يكون كريما معهم في المعاملة، و “الدين المعاملة” و ينصحهم، و يستمع إلى نصيحتهم و “الدين النصيحة” حتى يكون بذلك مساهما في بناء مجتمع المسلمين المنشود الذي يحرص في إطاره المسلمون على تجسيد معنى الحديث الشريف “المومن للمومن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا” فيكون كل مسلم قويا في مجتمعه، و بتلك القوة الجماعية يسعى المسلمون إلى بناء الاقتصاد و الاجتماع و الثقافة، و يختارون النظام السياسي الذي يناسبهم دون إملاء من أحد ” و أمرهم شورى بينهم”.
و بذلك يتبين أن الأهداف التي يسعى الإسلام إلى تحقيقها هي أهداف تتمحور حول هدف مركزي واحد هو ضمان تحقيق كرامة الإنسان.
2) و كما يسعى الإسلام إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التي أبرزنا بعضها بما له علاقة بالقيم النبيلة و بناء مجتمع سليم، و تحقيق كرامة الإنسان، فإن الماركسية بدورها تسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التي نذكر منها :
أ- إشاعة الوعي الطبقي بين أفراد المجتمع، لأن إشاعة هذا الوعي هو المسألة المركزية في الماركسية و بدونه تفقد الماركسية قيمتها، و تتحول إلى مجرد مذهب مثالي كباقي المذاهب المثالية الأخرى. فالماركسية منهج للتحليل و التفكير تسعى إلى جعل الطبقات المقهورة في جميع المجتمعات البشرية تمتلك وعيها، و تدرك بدقة موقفها من الإنتاج الذي يمكنها من إدراك ما يمارس عليها من استغلال بشع، و البحث عن القوانين الاجتماعية المكرسة للاستغلال، و معرفة ما يجب عمله للتخفيف من وطأته في أفق القضاء عليه. وبذلك يدرك المقهورون ما يجب عمله، و عند ذلك يشرعون في امتلاك وعيهم الذي لا يكون إلا طبقيا، و هو ما يقاومه المستغلون بنشرهم بين الناس كل أشكال التضليل الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي. و الوعي الطبقي هو الوسيلة المثلى لإزالة الوعي الزائف، الناتج عن أشكال التضليل الممارسة على المستغلين.
و الماركسية عندما تحرص على نشر الوعي الطبقي الحقيقي فلأنها تحرص على تثوير المجتمع، و جعل وعيه يتجدد باستمرار من اجل الوصول إلى تغيير بنياته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، و إنضاج شروط استمرار ذلك التغيير إلى الأحسن لقطع الطريق أمام عودة الاستغلال.
ب- لكن هل يمكن حدوث ذلك التغيير بدون أداة تناضل من اجله ؟ و لذلك نجد أن الماركسية لابد لها من أداة تعمل على نشر فكرها و وعيها و تحقيق أهدافها في المجتمع، إنها الحزب الماركسي الذي ليس إلا حزبا للكادحين و طليعتهم الطبقة العاملة. حزب يقوم على أساس مبادئ الاشتراكية العلمية باعتبارها أيديولوجية الكادحين، و تصور تنظيمي ينسجم معها، و موقف سياسي يعبر عن رغبة الكادحين في التغيير. و هذه الأداة تعمل على تنظيم العمال و الفلاحين و المثقفين الثوريين و سائر أصحاب المصلحة في التغيير بعد اقتناعهم بذلك و العمل على نشر الوعي الطبقي في صفوف أفراد المجتمع، و وضع كل أشكال التضليل التي تستهدفهم، و ربطهم بالمنظمات الجماهيرية النقابية و الثقافية و الحقوقية التي تعمل على تحسين أوضاعهم المادية و المعنوية وصولا إلى التغيير الجذري و الشامل للأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية لصالح الجماهير الشعبية الكادحة، و طليعتها الطبقة العاملة.
ج- و مما يعمل من اجل تحقيقه الحزب الماركسي قبل تحقيق هدفه الاستراتيجي، العمل على بناء مجتمع متطور، و المجتمع المتطور هو كل مجتمع تتوفر فيه شروط إمكانية التحرر و الممارسة الديمقراطية باعتبارهما شرطين للنضال من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية كمقدمة لتحقيق المجتمع الاشتراكي، و للوصول إلى مجتمع من هذا النوع يسعى الحزب الماركسي من خلال برنامجه المرحلي الذي يسعى إلى تحقيق الحرية الفردية و الجماعية في نسيج المجتمع، و في القوانين المتبعة حتى يتمكن أفراد المجتمع من التعبير عن إرادتهم و تقرير مصيرهم الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، و العمل على تحقيق الأغلبية في تلك المجالس للوصول إلى السلطة التنفيذية حتى يكون هناك تكامل بين البرنامج المحلي و البرنامج الاستراتيجي و المتمثل في إقدام الأغلبية على فرض تحقيق الاشتراكية إلى جانب تحقيق الحرية و الديمقراطية، و قيام الحكومة بالإشراف على بناء المجتمع الاشتراكي.
د- و من معالم تحقيق المجتمع الاشتراكي، العمل على حفظ كرامة الإنسان عن طريق تمتيعه بحقوقه الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية. و هذا المجتمع لا يقف عند حدود الإجراءات القانونية الصرفة، بل لابد من إيجاد المؤسسات المشرفة على حفظ تلك الكرامة سواء تعلق الأمر بالتربية و التعليم أو الصحة أو التشغيل، أو الثقافة أو الترفيه أو السياسية. لأنه بدون وجود تلك المؤسسات التي تقدم خدماتها بالمجان تبقى كرامة الإنسان مهدورة ، و معرضة لكافة أشكال الإهانة التي تلاحقها من كل الجهات المعنية بتقديم الخدمات بالمقابل، بل قد يعجز الإنسان عن أداء واجب الخدمات فيحرم منها. لذلك تحرص الماركسية في نهاية المطاف على تحقيق الاشتراكية كمنهج، و كهدف استراتيجي تسعى إلى تحقيقه على المدى البعيد، لأن المجتمع الاشتراكي هو الإطار الذي تحفظ فيه كرامة الإنسان بالمعنى الاشتراكي العلمي، على خلاف المجتمعين الإقطاعي و البورجوازي اللذين لا يعبئان أبدا بتقديم الخدمات، و تعميمها على المجتمع ككل، و دون مقابل مادام أفراده في خدمة المجتمع. و الماركسية بذلك تلتقي مع الإسلام في هذه النقطة، و تختلف في وسيلة تحقيقها كما سنرى ذلك في مكان آخر من هذه المعالجة.
ه- و تبعا لحفظ كرامة الإنسان بالمفهوم الماركسي الاشتراكي العلمي، نجد الحرص على تمتيع أفراد المجتمع بجميع الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية في إطار المجتمع الاشتراكي الذي يحرص على التوزيع العادل للإنتاج الاقتصادي الذي تكون فيه وسائل الإنتاج في ملكية المجتمع مع تقديم الخدمات الاجتماعية للجميع على أساس المساواة سواء تعلق الأمر بالتعليم أو بالصحة أو بالسكن أو بالشغل أو بالترفيه. و إتاحة الفرصة أمام المكونات الثقافية للشعب الواحد من اجل التفاعل فيما بينها على أسس ديمقراطية حتى لا يطغى مكون على باقي المكونات الأخرى. و أن يتم تمكينهم من اختيار ممثليهم في المؤسسات المختلفة على أسس تتناسب مع الديمقراطية بمفهومها الماركسي الاشتراكي العلمي. و بذلك يكون المجتمع الاشتراكي إطارا لتمتع جميع الناس بجميع الحقوق باعتبارها هدفا أسمى تسعى إلى تحقيقه الماركسية بعد تحطيم قلاع الاستغلال الرأسمالي الهمجي الذي اصبح يهيمن على العالم في ظل ما اصبح يعرف بالعولمة التي لا تعني إلا عولمة اقتصاد السوق التي تساهم في تعميق إهدار كرامة الإنسان.
و- و حتى يتمتع جميع أفراد المجتمع بجميع حقوقهم في ظل النظام الاشتراكي، يتم الحرص على تغيير الممارسة الاجتماعية و الفردية من الأمراض البورجوازية. فمحاربة أمراض النظام البورجوازي يعتبر من الأهداف الأساسية للماركسية، فلا وجود للرشوة و الفساد الإداري و القضائي و المحسوبية و الزبونية و كل أشكال التضليل الإيديولوجي التي تستهدف تكريس الاستغلال و الحيف الطبقي. و كل الأمراض التي يظهر أنها لصيقة بالأخلاق البورجوازية و المنطلقة من المبدأ الليبرالي “دعه يعمل، دعه يمر” وصولا إلى بناء مجتمع سليم من الأمراض الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية.
ز- احترام العقائد المختلفة التي يزخر بها الواقع و ضمان حق ممارسة الطقوس التي لها علاقة بتلك العقائد و حماية مؤسساتها. و تجريم إيذاء ممارسيها، و اعتبارها عاملا من عوامل التنوع في إطار الوحدة.و في هذا الإطار يتمتع المسلمون بكامل الحرية في ممارسة طقوسهم في المباني المخصصة لذلك كما هو الشأن بالنسبة لباقي الديانات الأخرى. و ما ينسب إلى الماركسية في هذا المجال مما لا يتناسب مع جوهرها ما هو إلا مجرد تجن يستهدف التضييق على الماركسيين، و التحريض ضدهم من اجل تأبيد السيطرة الرأسمالية أو الرأسمالية التابعة. لذلك تتصدى الماركسية إلى كل أشكال التضليل التي يقودها عتاة التنظيم البورجوازي المتعفن.
د- و حتى نصل إلى تحقيق الغاية من تحقيق البناء الاشتراكي المنشود كما تطمح الماركسية إلى ذلك. نجد أن من بين أهداف الماركسية : إعداد الإنسان الاشتراكي الذي يتحمل البناء الاشتراكي الذي يشترط فيه الاقتناع بالاشتراكية كهدف استراتيجي و بالبرنامج المرحلي المؤدي إلى تحقيقه، و الانخراط في النضال الديمقراطي الحقيقي من اجل استنهاض جميع أفراد المجتمع و إعدادهم أيديولوجيا، و سياسيا للارتباط بالحركة الاشتراكية وصولا إلى تحقيق البرنامج المرحلي ثم الدخول في بناء الاشتراكية.
ط- و تتويجا للأهداف المشار إليها، تسعى الماركسية إلى بناء المجتمع الاشتراكي على أنقاض المجتمع الرأسمالي و الرأسمالي التبعي عن طريق استبدال علاقات الإنتاج الرأسمالية أو الرأسمالية التبعية بعلاقات الإنتاج الاشتراكية كمدخل لبناء الاقتصاد الاشتراكي الذي يستهدف أولا و أخيرا بناء الإنسان و إسعاده بالتوزيع العادل للثروة في ظل المجتمع الاشتراكي الذي لا يكفي الوصول إلى تحقيقه، بل لابد من التخطيط لتحقيق ضمان تطويره و تطوره و استمراره، و حمايته من كل ما يؤدي إلى التشكيك في نجاعته، و صلاحيته للإنسان.
و تطوير و تطور المجتمع الاشتراكي يقتضي قطع الطريق أمام الدوغمائية، و الحرص على الممارسة الديمقراطية، و الاهتمام ببناء و سلامة الأدوات المساعدة على ذلك.
و بتحقيق هذه الأهداف الماركسية جزئيا أو كليا، تكون الماركسية قد برهنت فعلا عن صلاحيتها كإطار للنضال من اجل تحقيق سعادة الإنسان.
3) و انطلاقا من وقوفنا على أهداف الإسلام و أهداف الماركسية نجد أن هناك نقطا للالتقاء، و نقطا للاختلاف مع اعتبار اختلاف الشروط الموضوعية التي ظهر فيها الإسلام عن الشروط الموضوعية التي ظهرت فيها الماركسية، و اعتبار انه لا داعي للقول بوجود تناقض صارخ بين الإسلام و الماركسية كما يدعي ذلك مؤدلجو الدين الإسلامي الذين وهبوا أنفسهم لخدمة الرأسمالية و الرأسمالية التابعة، خاصة و أن مؤسسي الماركسية لم تكن لهما دراية كافية بالإسلام. و أن مقولة ماركس الشهيرة “الدين أفيون الشعوب” جاءت في سياق الدور الذي كانت تلعبه الكنيسة لصالح الرأسماليين كما كانت تلعبه لصالح الإقطاعيين من قبل دون سائر الطبقات في النظاميين الإقطاعي ثم الرأسمالي. ثم إن الدين الإسلامي ليس دينا لطبقة معينة دون سائر الطبقات، فهو دين لجميع الناس يعتنقه الإقطاعي و البورجوازي و العامل و التاجر، و كل الذين يختارونه دينا لهم. و لذلك لا نجد تناقضا واضحا بين الماركسية و الإسلام، خاصة و انه لم تكن هناك ماركسية في فترة ظهور الإسلام. و الماركسيون الأوائل لم تكن لهم معرفة بالإسلام. و إلى جانب ذلك، فالإسلام دين و الماركسية علم. و الإسلام ليس ضد العلم بل يدعو إليه، و الماركسية كعلم لم تضع أسسا لذلك المنهج. و إذا ظهر في المنهج أو في أسسه ما يوحي بمعاداة الماركسية للدين –أي دين- فذلك ليس شأن الماركسية، انه شأن العلم نفسه الذي يستفيد من نتائجه البورجوازي و الإقطاعي و العامل و الفلاح و المسلم و المسيحي و اليهودي و البوذي، و لذلك لا نرى تناقضا بين الإسلام و الماركسية و هو ما يبيح لنا القول بنقط للالتقاء، و نقط للاختلاف.
فالإسلام و الماركسية يتفقان في :
أ- تمتيع الناس بحقوقهم التي تقتضيها الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية، مع اعتبار الاختلاف القائم بين تصور الإسلام و تصور الماركسية لتلك الحقوق.
ب- تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع مع استحضار الاختلاف في تصور العدالة و كيفية تطبيقها بين الإسلام و الماركسية. فالعدالة في الإسلام هي عدالة الله في الأرض التي تتحقق بين العباد من خلال أخذهم بالأوامر و اجتنابهم النواهي، و عملهم على تطبيق الحدود كما جاءت في الكتاب و السنة مع فتح باب الاجتهاد في القضايا التي لم يرد فيها نص. و العدالة في الماركسية هي عدالة في توزيع الثروة، و في تقديم الخدمات إلى جميع البشر، أنى كان لونهم أو جنسهم، أو عقيدتهم، و إتاحة الفرصة أمام المكونات للفعل في المجتمع على أساس المساواة فيما بينها، و التعامل مع الناس جميعا على أساس المساواة فيما بينهم أمام القانون، و تمكينهم من التمتع بجميع الحقوق.
ج- حفظ كرامة الإنسان التي تعتبر قرارا إلهيا، يجب احترامه و العمل على تحقيقه على ارض الواقع بكل الوسائل التي يقرها الإسلام و تعتبرها الماركسية نتيجة لتحقيق الاشتراكية في المجتمع، لأنها ترى أن المجتمع الاستغلالي العبودي أو الإقطاعي أو الرأسمالي أو الرأسمالي التابع تهدر فيه كرامة الإنسان بكافة الأشكال حتى و إن كان أفراد المجتمع الاستغلالي يعتقدون ديانة معينة. لذلك فربط تحقيق كرامة الإنسان بالحرية، و الديمقراطية، و العدالة الاجتماعية لا يتحقق إلا في إطار المجتمع الاشتراكي الذي تسعى الماركسية إلى تحقيقه.
د- احترام العقائد الذي يراه الإسلام خاصا بالعقائد التوحيدية، و تراه الماركسية شاملا لكل العقائد التي تعتبر أن من حق حامليها التواجد. و هو اختلاف ناتج عن اختلاف تصور المجتمعات. فالإسلام و إن كان يقر بحرية الاعتقاد “لا إكراه في الدين” فإنه لا يحاور إلا أهل الكتاب كقوله تعالى ” و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي احسن” و قوله ” يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله” أما الماركسية فتتعامل مع الأديان بصفة عامة كمعتقدات من حقها أن تتواجد كمكونات ثقافية مختلفة تساهم في إثراء ثقافة المجتمع.
و بذلك يصير الإسلام و الماركسية متفقين على الأسس المتعلقة بتمتيع الناس بالحقوق المختلفة، و تحقيق العدالة ، و حفظ كرامة الإنسان، و احترام العقائد المختلفة مع الاختلاف في التصور الذي يرجع إلى طبيعة كل منهما بسبب اختلاف شروط ظهور الإسلام عن شروط ظهور الماركسية، و كون الإسلام عقيدة، و الماركسية مذهبا اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا، ثقافيا. و لذلك نجد أن الاختلاف في فهم طبيعة الحقوق، و كيفية تحقيق كرامة الإنسان، و كيفية التعامل مع العقائد المختلفة، و كيفية تحقيق العدالة مسألة إنسانية طبيعية جدا. و لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون هذا الاختلاف مصدرا للعداوة بين الإسلام و الماركسية في :
أ- بناء المجتمع يقتصر الإسلام على مجرد بث القيم الإنسانية في التعامل بين الناس مما يؤدي إلى امتثال الناس لأوامر الله تعالى و نواهيه، مما لا يتناقض مع سيادة مجتمع الأسياد و العبيد، و مجتمع الإقطاع و الأقنان، أو مجتمع البورجوازيين و العمال، أو مجتمع الاشتراكيين. فالعلاقة الاستغلالية لم يحرمها الإسلام. بل دعا إلى التخفيف منها فقط. أما الماركسية فتعمل على تقويض الهياكل الاستغلالية، العبودية و الإقطاعية، و شبه الإقطاعية و الرأسمالية و شبه الرأسمالية، و إقامة المجتمع الاشتراكي الذي يستوعب القيم الإسلامية، و يعتبرها جزءا من القيم الاشتراكية التي يعمل على سيادتها.
ب- الفهم المختلف للإخلاص، فالإخلاص في الإسلام هو إخلاص عقائدي لله و لرسوله و للمسلمين، و الالتزام بعدم إلحاق الأذى بالمومن سواء كان سيدا أو عبدا، أو إقطاعيا، أو قنا، أو رأسماليا أو عاملا مادام يومن بالإسلام، و يمكن للمومن أن يوسع مفهوم الإخلاص ليشمل أهل الكتاب بخلاف المشركين الذين لا حوار معهم، بخلاف الماركسية التي ترى الإخلاص للإنسان و للقيم الاشتراكية التي تحفظ كرامة الإنسان بقطع النظر عن العقيدة التي يومن بها، و يعادي المستغلين مهما كانت عقيدتهم حتى و إن كانت هي الإسلام. فالماركسية جاءت لتقاوم الاستغلال أنى كان مصدره في أفق القضاء عليه و إقامة المجتمع الاشتراكي: فالإخلاص في الإسلام له مقومات و الإخلاص الماركسي له مقومات أخرى، و لا يلتقيان أبدا، و لا يمكن أن يكون هذا الاختلاف وراء العداوة، و الذين يعادون الماركسية هم المستغلون من المسلمين و خاصة منهم الذين يؤدلجون الدين الإسلامي. أما المسلمون الذين يعانون من الاستغلال و يتحررون من استلاب ادلجة الدين الإسلامي فيجدون في الماركسية الخلاص.
ج- مصدر القيم الإنسانية التي رآها الإسلام في المثل العليا، و في ممارسة الأنبياء و الرسل و المومنين، و في الوحي الذي ينزل من عند الله مما هو متضمن في الكتب المنزلة التي يمكن الرجوع إليها من اجل التشبع بالقيم الإنسانية كما هي في الكتب السماوية و في سير الأنبياء و المومنين، في الوقت الذي ترى الماركسية أن مصدر القيم الإنسانية في تحقيق الاشتراكية، و القضاء على كل أشكال الاستغلال الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي مع الاعتراف التام بالقيم الإنسانية النبيلة التي جاء بها الإسلام بالخصوص.
د- طبيعة الملكية التي يراها الإسلام حقا لكل إنسان سواء كان مسلما أو غير مسلم، و سواء كانت تلك الملكية صغيرة أو كبيرة، عبودية أو إقطاعية أو رأسمالية. و المهم بالنسبة للإسلام أن يؤدي المسلم الزكاة، و أن يؤدي غير المسلم الجزية لبيت مال المسلمين، بينما نجد أن الماركسية تفصل بين الملكية التي تقتضيها ضرورة الحياة التي تساعد الماركسية على توفرها، و حمايتها. أما الملكية الكبيرة التي تعني وسائل الإنتاج، فتعود إلى المجتمع ككل، و هذا ما يثير حفيظة الإقطاعيين، و البورجوازيين الذين يوظفون كل الإمكانيات الأيديولوجية بما فيها ادلجة الدين الإسلامي لمحاربة الماركسية، و بلا هوادة حتى تندحر، و تعود الملكية الخاصة بوسائل الإنتاج إلى الرأسماليين، و ملكية الأرض إلى الإقطاعيين. و هو ما حصل في الاتحاد السوفياتي السابق و في العديد من الدول التي تحققت فيها الاشتراكية خلال القرن العشرين.
فالماركسية لم تنكر الملكية بقدر ما فصلت فيها، و الإسلام لم يميز بين الملكية التي تقتضيها ضرورات الحياة، و الملكية التي تؤدي إلى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، الأمر الذي يرجع إلى اختلاف الشروط التي ظهر فيها الإسلام عن الشروط التي ظهرت فيها الماركسية، و إلا فإن الموقف من الملكية سيتفق لو اتحدت الشروط بالنسبة لكل منهما.
و بذلك نصل إلى أن اوجه الالتقاء و الاختلاف بين الإسلام و الماركسية تتمحور حول الإنسان، من اجل إعداده إعدادا مختلفا بسبب اختلاف المنطلقات، و اختلاف الشروط الموضوعية التي لا يمكن المقارنة بينها بأي شكل من الأشكال. فالإسلام هو الإسلام يعد الإنسان إعدادا دينيا لتحقيق سعادة الدنيا و الآخرة. و الماركسية هي الماركسية تعد الإنسان لتحقيق المجتمع الاشتراكي و وضع حد نهائي للاستغلال الاقتصادي، و الاجتماعي، و الثقافي، و السياسي، و التمكن من تحقيق مصيره الذي يضمن له الحرية و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية لضمان التطور بدون حدود.
العداء بين الإسلام و الماركسية :
و بسبب الاختلاف القائم بين الإسلام و الماركسية. هل يوجد بينهما عداء ؟ و هل يصح أن يوجد ذلك العداء بين الإسلام و الماركسية ؟
انه و كما قلنا من خلال الفقرات السابقة، فإن الشروط التي حكمت ظهور الإسلام، و ظهور الماركسية تختلف، و المستهدف هو الإنسان وسعادته الدنيوية و الأخروية، أو إعداده لحمل وعيه الذي يؤهله لتحقيق مجتمع حر و ديمقراطي و اشتراكي.
و إذا أمعنا النظر فإننا نجد أن هدف الإسلام إلى تحقيق سعادة الإنسان الدنيوية التي يسميها الكرامة “و لقد كرمنا بني آدم” لوجدنا أنها تتحقق في الحرية لا في الاستعباد، و في الديمقراطية لا في الاستبداد، و في الاشتراكية لا في الاستغلال. أما السعادة الأخروية، فذلك شأن الإنسان مع خالقه، و هو ما لم يثبت أن الماركسية حشرت نفسها فيه. و إذا حصل ذلك، فإنه يعني أن الماركسية تفقد علميتها و تتحول إلى خطاب أسطوري. و مادام الأمر كذلك، فإن العداء المزعوم بين الإسلام و الماركسية غير وارد. و إذا حصل فإنه يكون بين الماركسية و المستبدين الذين يحولون الإسلام إلى إيديولوجية، و حينها لا تعادي الماركسية الإسلام بقدر ما تعادي الطبقة المستغلة التي تؤدلج الدين الإسلامي. و هذه العداوة موضوعية مادامت تدخل في إطار ممارسة الصراع الطبقي في مستواه الأيديولوجي و السياسي و التناحري.
و هكذا نجد أن الإسلام لا يعادي الماركسية، و الذي يعاديها هو ادلجة الدين الإسلامي المرتبطة بمصلحة الطبقة التي توظف مؤدلجي الدين الإسلامي، و هو ما يعجز عن إدراكه عامة الناس و يعتبرون أن الماركسية تهاجم الإسلام، و هي في الواقع لا تهاجم إلا ادلجة الدين الإسلامي باعتبارها إيديولوجية الطبقة الحاكمة المستبدة، أو التي تطمح إلى الوصول إلى السلطة من اجل ممارسة الاستبداد على المقهورين و المستلبين، و سائر الطبقات الشعبية ذات المصلحة في التغيير و إلا فلماذا نجد تجاوب المسلمين في بداية القرن العشرين بمن فيهم علماء الدين الإسلامي و فقهاؤه مع الفكر الماركسي، و مع الحركات الماركسية لا لشيء إلا:
1) لكون الماركسية تعبر عن المصلحة الطبقية التي كان المسلمون الكادحون يحسون بها عندما كان الاستعمار الرأسمالي البغيض جاثما على بلاد المسلمين.
2) لكون الحركات الماركسية تصارع النظام الرأسمالي العالمي على جميع المستويات، و تدعم حركات التحرر في جميع بلدان المسلمين من اجل مقاومة الاستعمار و دحره، و الانتصار عليه، و إقامة الدولة الديمقراطية المتحررة و العادلة.
و التجاوب مع الماركسية في ذلك الوقت لم يكن بدافع التمركس كما قد نفهم، بل بسبب الحاجة إلى الدعم الماركسي في الصراع مع النظام الرأسمالي الاستعماري.
و هل يصح أن تعادي الماركسية الإسلام ؟ إن الماركسية لم تتواجد لتعادي الأديان بصفة عامة، و الأديان السماوية بصفة خاصة، و الدين الإسلامي بالخصوص، بل اعتبرتها جزءا من معتقدات الشعوب، و احترمتها لهذه الغاية، و تركت الناس يمارسون الطقوس التي لها علاقة بمعتقداتهم، و تركت المسلمين يمارسون شعائرهم بكامل حرياتهم في اعظم دولة ماركسية في القرن العشرين، كما تدل على ذلك الوقائع و الأحداث. و كما قلنا فإن الدين أي دين عندما يتحول إلى إيديولوجية الطبقة المستبدة، أو أي طبقة تسعى إلى فرض الاستبداد فإن الماركسية تسعى إلى ممارسة الصراع الإيديولوجي إلى جانب الصراع السياسي و التناحري كمظاهر متكاملة للصراع الطبقي، و إلا فإن الماركسية لن تكون علمية، و ستفقد قيمتها كمنهج للتحليل و كإيديولوجية توظف لتهيئ الطبقة المقهورة لتحقيق الحرية و الديمقراطية و الاشتراكية و هي أهداف متكاملة.
لذلك نجد أن الإسلام عندما يبقى دينا للشعوب المؤمنة به، تمارس شعائره، و تتشبع بقيمه، فإنه يكون مساعدا على تحقيق الأهداف الاشتراكية التي لا تتناقض أبدا مع روح الدين الإسلامي المتجسدة في المثل العليا التي دعا إليها الله تعالى. تلك المثل التي تلعب دورا كبيرا في حفظ كرامة الإنسان في علاقته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و هو ما تسعى الماركسية إلى تحقيقه عن طريق المجتمع الاشتراكي.
و هذه الخلاصة التي وصلنا إليها في تحليلنا تقودنا إلى طرح السؤال : هل يصح أن تنسحب المقولة الماركسية “الدين أفيون الشعوب” على الدين الإسلامي ؟ إن هذه المقولة لم تأت من منطلق معرفة ماركس و انجلز بجميع الأديان بما فيها الدين الإسلامي الذي ثبت انهما كانا يجهلانه، و لم يبدآ في التعرف عليه إلا في أواخر حياتهما، و لو تعرفا عليه منذ البداية لدفعتهما علميتهما إلى القول بأن الإسلام ليس كالمسيحية بمذاهبها المختلفة، بل يسعى إلى العمل على بث نوع من الوعي المتقدم الذي يسعى إلى حفظ كرامة الإنسان. و لذلك نعتبر أن مقولة “الدين أفيون الشعوب” لا تنطبق إلا على الأديان المؤدلجة التي تعمل على تدجين البشر و تخديره لصالح الطبقة الحاكمة، بخلاف الدين الإسلامي الذي يرفض ذلك التدجين، و يستحضر حق الإنسان في التعبير عن رأيه باعتبار ما يكون عليه واقعه الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي كما توحي بذلك الآية الكريمة “و أمرهم شورى بينهم” بالإضافة إلى إخلاص العبادة لله دون سواه ” و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا” و قوله تعالى “إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء” و لكن عندما يتحول الدين الإسلامي إلى أيديولوجية، و تتحول قداسة الله إلى قداسة الأشخاص، و يعمم الشرك بالله و يصبح الإسلام وسيلة لتدجين البشر لخدمة مصلحة طبقية معينة و تصبح كرامة الإنسان مهدورة، و ينقلب الوعي الذي ينشره الإسلام إلى وعي زائف، و تتحول قيم الدين الإسلامي الحقيقية إلى قيم تقوم على سيطرة طبقية معينة، فإن مقولة “الدين أفيون الشعوب” تنسحب على ادلجة الدين الإسلامي نظرا لدور تلك الادلجة في تخدير المسلمين، و جعلهم يعتقدون أمورا لا علاقة لها بالإسلام الذي يقر بتحريف الديانات السابقة كما جاء في قوله تعالى ” و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله”. و لو كان الوحي مستمرا في النزول لاعتبر ادلجة الدين الإسلامي تحريفا له. و على هذا الأساس فالماركسية بتحليلها العلمي لم تعاد الأديان كأديان بل إن عدائها لأديان معينة يستهدف ادلجة تلك الأديان بالخصوص و دور تلك الادلجة في تخدير الناس و تدجينهم لصالح الحاكمين و انطلاقا من كون الماركسية تستهدف التحريف الذي لحق الأديان بما فيها إمكانية تحريف الدين الإسلامي عن طريق الادلجة. هل نعتبر أن الماركسيين ظلموا المسلمين في دينهم ؟ إن الماركسية لا تكون إلا بكونها علمية، تعتمد التحليل الملموس للواقع الملموس، و ما تتوصل إليه تشهره، لا تخشى في ذلك لومة لائم. فموضوعيتها في علميتها، لذلك يعاديها الإقطاعيون و البورجوازيون، و الشرائح المتقدمة من البورجوازية الصغرى. نظرا لدور التضليل في خدمة المصالح الطبقية لهؤلاء، و التضليل يتم التوصل إليه عن طريق ادلجة الأديان. لذلك فالماركسيون لم يظلموا المسلمين بقدر ما يسعون إلى بث الوعي في صفوفهم عن طريق العمل على بث الوعي الذي لا يواجه الأديان بقدر ما يقود إلى مقاومة الاستغلال الطبقي في مجموعة من المستويات من بينها المستوى الأيديولوجي. فالماركسية كأيديولوجية علمية لا تواجه إلا الأيديولوجية المناقضة لها. و لا تواجه الدين إلا عندما يتحول إلى أيديولوجية، و هي بذلك تنفي عن الماركسية كونها معادية للأديان باعتبارها معتقدات للشعوب بما فيها الإسلام. كما تنفي عن الماركسيين كونهم يعادون المسلمين في كونهم يظلمونهم.
و بناء على ذلك هل يظلم المسلمون الماركسية و الماركسيين عندما تنتشر بين صفوفهم تلك العداوة التي تكاد تكون مطلقة للماركسية و الماركسيين ؟ إن علينا في هذا الإطار أن نميز بين مستويين :
المستوى الأول : هو كون معاداة الماركسية و الماركسيين هي إنتاج أيديولوجي يقوم به المتنبئون الجدد الذين يوظفون الدين الإسلامي لخدمة المصالح الطبقية للطبقة المستبدة بالسلطة أو التي تسعى إلى الاستبداد بالسلطة. و هؤلاء المتنبئون الجدد في دعواهم المغرضة يظلمون الماركسية كما يظلمون الماركسيين خاصة عندما يلحقون بهم أوصافا يندى لها الجبين، و نتحاشى إدراجها في هذه المعالجة.
و المستوى الثاني : هو المسلمون الذين تنتشر في صفوفهم الأمية، و يقعون ضحايا للتضليل الأيديولوجي الذي يمارسه المتنبئون الجدد من اجل إبعادهم عن امتلاك الوعي الطبقي الحقيقي و التخلص من الوعي الزائف الذي يبثه المتنبئون الجدد في صفوف المسلمين، و بلا هوادة لاحكام القبضة عليهم، و إقامة سد منيع بينهم و بين الوعي الحقيقي الذي يبعدهم عن التفكير في عذاب القبر و عذاب جنهم، و حوار الجن، و اللجوء إلى السحر و إلى المشعوذين من اجل التماس الخلاص من الغيب، و الدفع في اتجاه الارتباط بالواقع، و تحليله، و فهمه و العمل على تغييره بمقاومة تضليل المتنبئين الجدد، و مناهضة الاستغلال الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، و العمل على إقامة نظام بديل باختيارات ديمقراطية و شعبية تتناسب مع روح ما تهدف إليه الماركسية مما لا يتناقض مع روح الدين الإسلامي الحنيف.
و التمييز بين هذين المستويين يعتبر ضروريا لتحديد هل يقوم المسلمون بظلم الماركسية و الماركسين ؟ إن الذي يتبين من وراء هذا التمييز هو أن المسلمين لم يمارسوا و لن يمارسوا ظلم الماركسية و الماركسيين، بل من يقوم بذلك هم المتنبئون الجدد، و يصدرون الفتاوى المحرضة على القتل، بل و ينظمون الاغتيالات باستمرار، و القائمة في هذا الإطار طويلة، و يدخلون ضمنها حتى المفكرين المتنورين بدعوى إهانة الدين الإسلامي، فكأن الدين الإسلامي لا يستطيع أن يصمد أمام ما يستهدفه، و كأنهم رسل يتلقون الوحي من عند الله، و هو ما لم يحصل و لن يحصل. فالمتنبئون الجدد يدركون جيدا مدى خطورة الوعي الحقيقي على الطبقة المستبدة بالحكم، أو على الطبقة التي تسعى إلى الاستبداد بالحكم. لذلك نجدهم ينظمون سلسلة من الاغتيالات في كثير من بلاد المسلمين في إفريقيا و في آسيا و أوربا. و من هؤلاء الذين طالتهم عملية الاغتيال التي ينظمها المتنبئون الجدد و من يقف وراءهم الشهيد عمر بنجلون و الشهيد مهدي عامل، و الشهيد حسين مروة، و الشهيد سهيل طويلة، و الشهيد فرج فودة و غيرهم ممن طالتهم أيادي مؤدلجي الدين الإسلامي في كل مكان من العالم ما لم يكونوا من أعداء الإنسانية من أمثال الصهاينة ، و الفاشستيين، و كبار المستغلين الدين يلحقون الأذى بالمسلمين الفقراء و المعوزين، و حتى هؤلاء لا يجوز قتلهم إلا بالحق، و في إطار مشروعية الصراع الطبقي.و هؤلاء المتنبئون الجدد و من يقف وراءهم يشملهم قول الله تعالى ” و من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا”. و يعتبر هؤلاء في ممارستهم غير ممتثلين لقوله تعالى ” و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” و كلمة “النفس” في الآيتين تدل على أن عملية القتل المحرمة إسلاميا و إنسانيا و حتى ماركسيا تعم جميع الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، مسيحيين أو يهود أو لا دين لهم، و أن الذين تم اغتيالهم على يد المتنبئين الجدد و من يقف وراءهم، أو بتوجيه منهم هم من المسلمين كعمر بنجلون، و مهدي عامل، و حسين مروة، و فرج فودة، و صبحي الصالح و آخرون كثيرون. و لذلك فعملية الاغتيالات التي ينظمها هؤلاء تدخل في إطار الاغتيالات السياسية التي لا يلجأ إليها إلا من يعجز عن الإقناع لتدني فكره و تخلف أيديولوجيته و عجزه عن الإبداع الفكري و النظري مما يتناسب مع ما وصلت إليه البشرية من تطور. فهؤلاء مهووسون بالبحث في بطون الكتب التي يسمونها إسلامية عن المبررات التي يدعمون بها سلسلة الاغتيالات التي يقومون بها لاعطاء الشرعية لممارستهم المنبوذة إسلاميا، و ماركسيا، و أخلاقيا، و إنسانيا.
و ما دام العداء بين الإسلام و الماركسية منتفيا، و مادام ظلم المسلمين للماركسيين، و ظلم الماركسيين للمسلمين منتفيا و غير وارد. هل نعتبر أنفسنا كمسلمين في حاجة إلى إسلام ماركسي على غرار اللاهوت المسيحي الماركسي في أمريكا اللاتينية ؟
إننا بوصولنا إلى طرح هذه الإشكالية على المحك سنحاول أن نجعل الماركسية إسلامية، أو نجعل الإسلام ماركسيا. و هذا أمر غير وارد، لأنه سيؤدي إلى تحريف كل منهما عن مساره و هو أمر يقتضي منا التفصيل. فالإسلام له مجاله المختصر في الدعوة إلى إخلاص العبادة لله دون سواه مع بناء منظومة القيم المستمدة من الكتاب و السنة، و سيرة محمد صلى الله عليه و سلم، و سائر الأنبياء و الرسل من الذين وردت قصصهم في القرآن. تلك المنظومة التي يمكن تكريسها في المجتمع العبودي، أو المجتمع الإقطاعي، أو في المجتمع الرأسمالي، أو في المجتمع الاشتراكي، باعتبارها مجتمعات تتحدد هويتها بناء على علاقات الإنتاج القائمة فيها أو على العقيدة التي يعتقدها أفراد تلك المجتمعات.ولذلك فالمجتمع الذي تسعى إلى تحقيقه الماركسية قد يكون أفراده مسلمين، و قد يكونون غير ذلك. و الماركسيون الذي يسعون إلى تحقيق المجتمع الاشتراكي قد يكونون مسلمين أو غير مسلمين. فالإسلام عقيدة تكسب الإنسان هوية لها علاقة بالعقيدة فقط، و التي يترتب عنها التشبع بمنظومة القيم الإنسانية المستمدة من الكتاب و السنة. و لذلك فالإسلام ليس في حاجة إلى أن يتحول إلى إسلام ماركسي حتى يبني منظومة القيم تلك لأن الماركسية لا تمنع من ذلك، و كذلك الشأن بالنسبة للماركسية باعتبارها أيديولوجية علمية، و مذهبا اقتصاديا و اجتماعيا يسعى إلى تغيير علاقة الإنتاج الاستغلالية إلى علاقات الإنتاج الاشتراكية. و هو سعي لا علاقة له بالعقيدة لأنها من شأن حامليها الذين من حقهم أن يمارسوا طقوسهم، أو شعائرهم بكامل الحرية في ظل تحقق المجتمع الاشتراكي. و لذلك أيضا فالماركسية ليست في حاجة إلى أن تكون إسلامية، لأن ذلك يعني تحريف الماركسية عن مسارها الاشتراكي العلمي الصرف، و لا داعي للحدو حدو اللاهون المسيحي الأمريكي اللاتيني الذي خالف الكنيسة و شرع في بناء منظومة من القيم التي تساعد على قيام الماركسية بدورها. فالإسلام ينشر تلك القيم منذ أن ظهر إلى يومنا هذا، و لم يتناقض قط مع أي منظومة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية تسعى إلى حفظ كرامة الإنسان و ما يظهر لنا انه يدخل في إطار التناقض بين الإسلام و الماركسية، ما هو إلا اختلاف من قبل المتنبئين الجدد الذين يوظفون الدين الإسلامي كأيديولوجية لصالح الطبقات المستغلة. فالتناقض في الواقع ليس بين الماركسية و الإسلام بل بين الماركسية و الطبقة المستغلة و هو ما يؤكده الواقع شاء المتنبئون الجدد أم أبوا.
خــــــاتمة :
و ما يمكن أن نستخلصه من خلال تناولنا للعلاقة بين الإسلام و الماركسية يقودنا إلى القول بأن الدين الإسلامي هو لجميع الناس كيفما كانت الطبقة التي ينتمون إليها و من حقهم أن يعتنقوه، و أن يمارسوا شعائره، و يجتهدوا في تطبيقه، و لا يمكن أن يتحول إلى التعبير عن مصلحة طبقية معينة إلا إذا تم تحريفه عن طريق ادلجته مما يحوله إلى أداة صراع بين الطبقات بدل أن يبقى دينا للجميع، و يدفع كل طبقة إلى التماس ما يناسبها من الإسلام، و توظيفه في ذلك الصراع. و أن الماركسية هي التعبير العلمي عن مصلحة الطبقات المقهورة في المجتمع بزعامة الطبقة العاملة. و هي تسعى إلى بث الوعي في صفوف المقهورين، و إعدادهم لخوض الصراع الطبقي على جميع المستويات للوصول إلى تحقيق المجتمع الاشتراكي. و بأن الإسلام بقيمه السامية يمكنه الانتشار في جميع المجتمعات سواء كانت عبودية أو إقطاعية أو رأسمالية أو اشتراكية نظرا لكونه عقيدة لها علاقة بقناعة الأفراد، و الجماعات، و ليس مذهبا اقتصاديا يقتضي انتشاره إقصاء المذاهب الاقتصادية الأخرى، كما انه ليس أيديولوجية معبرة عن مصلحة طبقية معينة، لأنه لو كان كذلك ما كان استمراره كعقيدة إلى يومنا هذا، و لما وجدناه ينتشر في الآفاق ، و دونما حاجة إلى مبشرين به كما يفعل دعاة المسيحية، و بأن العلاقة بين الإسلام و الماركسية ليست علاقة تناقض كما يراد لها من قبل مؤدلجي الدين الإسلامي بقدر ما هي علاقة تكامل على مستوى القيم و الأخلاق، و أنها لا تكون كذلك إلا إذا تحول الإسلام إلى أيديولوجية، و تحولت الماركسية إلى عقيدة لأن تحول الإسلام إلى أيديولوجية ينافي حقيقة الإسلام، و تحول الماركسية إلى عقيدة ينافي حقيقة الماركسية. فيتحول الإسلام إلى دين للتطرف، و تتحول الماركسية أيضا إلى دين للتطرف، و هو ما تولد عن ادلجة الدين الإسلامي، و دوغمائية بعض التوجهات الماركسية، و لذلك يكون الصدام طبيعيا.
و هذه الخلاصة المركزية هي ما تناولنا بالبسط و التحليل من خلال تناولنا لمفهوم الإسلام كعقيدة و كشريعة، و مفهوم الماركسية كمنهج للتحليل، و الدور الموكول لكل منهما. و تحويل الإسلام إلى إيديولوجية الذي اعتبرناه تحريفا له و تحويل الماركسية إلى عقيدة الذي لا يمكن أن يكون إلا ممارسة تحريفية. و قد استعرضنا من خلال تحليلنا أهداف الإسلام و أهداف الماركسية مع الوقوف على نقط الالتقاء و الاختلاف مجيبين على مجموعة من الأسئلة/الإشكالية لنصل إلى القناعة بأنه لا يوجد تناقض بين الإسلام و الماركسية، كما لا يوجد مبرر للعداء بينهما، و عملنا على تفنيد الاعتقاد بأن المقولة الماركسية “الدين أفيون الشعوب” لا تستهدف الإسلام، و عدم قبول القول بإمكانية قيام إسلام ماركسي أو ماركسية إسلامية.
و بذلك نكون قد خضنا في موضوع اعتقد الجميع انه لم يعد واردا للنقاش، خاصة و انه يقتحم مجال المقارنة بين الإسلام و الماركسية مما يعتبره البعض اقتحاما لعش الضبابير. و هدفنا هو المساهمة في تطوير القراءة الإسلامية للماركسية، و القراءة الماركسية للإسلام في نفس الوقت من اجل تدمير السدود بينهما و التي افتعلها مؤدلجوا الدين الإسلامي و مجمدوا الماركسية في مقولات محددة آملين أن يفسح المجال أمام المسلمين للانفتاح على الماركسية و أمام الماركسيين للانفتاح على حقيقة الإسلام.
و في أفق ذلك نعتبر أن إعادة قراءة الماركسية و إعادة قراءة الإسلام في ظل التحولات الراهنة يعتبر مسألة أساسية و ضرورية و هادفة للوصول إلى مد الجسور بين الإسلام و الماركسية من جهة و بين تحولات الواقع من جهة أخرى على أن يكون التعامل مع الواقع بعيدا عن ادلجة الدين الإسلامي و عن تحويل الماركسية إلى عقيدة.
فهل نرتقي في تعاملنا مع الإسلام و مع الماركسية إلى المستوى العلمي الهادف ؟ ذلك ما كنا و لازلنا نسعى إلى تحقيقه من اجل دعم السعي إلى حماية كرامة الإنسان التي هي جوهر الإسلام و جوهر الماركسية في نفس الوقت.
محمد الحنفي
المغرب في 21/4/2002